العدد 385 -

السنة الثالثة والثلاثون – صفر 1440هـ – ت1 / أكتوبر 2018 م

مع القرآن الكريم

قال تعالى:

(أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡيَٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ ٢٤٣ وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢٤٤ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٢٤٥).

 

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

في هذه الآيات البينات:

  1. يخاطب الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ليعتبروا من مثل قوم تركوا ديارهم وهم ألوف مؤلفة خوفًا من قتال عدو زاحف نحو ديارهم، فتركوا الديار وفروا من أمامه حفاظًا على حياتهم، فلما وصلوا مكانًا ظنوه آمنًا نزلوا فيه حفاظًا على حياتهم، فلما نزلوا فيه فجأهم الموت الذي فروا منه في مأمنهم، ثم بعثهم الله بعد مدة ليعلموا أن الله هو المحيي والمميت، وأن آجالهم إذا جاءت لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

وفي هذا حثّ للمؤمنين على الجهاد في سبيل الله وأنه لا مفرّ من الموت ( أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ3 ) النساء/آية78 فيسارع المؤمن إلى القتال لينال إحدى الحسنيين دون أن يكون من القاعدين الخوالف، وهو يعلم أن القعود لا يمنع من أجل إذا دنا (   ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٦٨  ) آل عمران/آية168.

ثم يبين الله سبحانه في آخر الآية أن الله لذو فضل على الناس، فيضرب لهم الأمثال ويذكرهم بآياته ويخبرهم بما فيه فوزهم في الدارين، ومع ذلك فإن المعتبرين قليل والشاكرين لنعمه سبحانه دون الكافرين بكثير ( ِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ ).

( أَلَمۡ تَرَ ) استفهام للتقرير والتعجب، وهي تستعمل لمن رأى رأي العين حقيقة فتذكره بما رأى لتقرير ما رآه والتعجب منه، وكذلك تستعمل لمن تنقل له أنت الأمر ليدركه كما لو رآه حقيقة وللتعجب منه، وهي هنا كذلك فقد أخبر الله سبحانه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالقوم الذين ضربوا مثلًا كما لو كانوا أمامه للاعتبار والتعجب من حالهم، ولهذا عديت الرؤية بحرف الجر (إلى) ( أَلَمۡ تَرَ إِلَى ) فجاءت بمعنى الإدراك. ولو كانت الرؤية الحقيقية لما عدّي الفعل بحرف الجر بل يكون حينها متعديًا بنفسه.

( خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ ) لم يبين الله سبحانه سبب خروجهم، وقد وردت روايات في سبب الخروج ليس منها ما أسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها فرارًا من مرض وهو الطاعون، ومنها فرارًا من ملاقاة عدوهم، والراجح منها حسب سياق الآيات أنه الفرار من أمام عدو زاحف عليهم؛ وذلك لأن الآية التالية نص في القتال ( وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ).

( وَهُمۡ أُلُوفٌ ) دليل على أنهم كثـرة كاثـرة أي أعـدادهـم كبيرة، ولضعف إيمانهم فروا أمام زحف عدوهم حيث إن ( أُلُوفٌ ) جمع كثرة، ولم تـرد (آلاف) التي هي جمع قلة.

وقد ذكرت روايات عن أعدادهم وليس لها سند ثابت، غير أن الراجح أنها فوق العشرة آلاف لأن العرب لا تجمع ألفًا إلى عشرة على وزن (ألوف) بل على وزن (آلاف) أي جمع قلة على وزن (أفعال). والذي يجمع جمع كثرة هو ما فوق العشرة آلاف فيجمع على (ألوف)، ولذلك فغاية ما يقال عن عددهم أنهم كثرة كاثرة تفوق العشرة آلاف.

( حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ ) أي خشـية الموت بأن يقتلوا من قبل عدوهم إن لاقوه في ميدان القتال.

  1. في هذه الآية الكريمة أمر من الله سبحانه بالجهاد في سبيل الله (وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ )فالقتال يجب أن يكون بنية صادقة مخلصة لله وليس لمصلحة أو سمعة أو رياء، فإن الله سبحانه لا يقبل الجهاد إلا أن يكون خالصًا له سبحانه، فهو الذي في سبيل الله “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال أيه في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[1] والله سميع ينصر من ينصره وعليم بصدق النية وخالص التوجه إلى الله لا تخفى عليه خافية.

  2. بعد ذلك يحثّ الله المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله في الجهاد، وأنَّ أجره عظيم عند الله كما لو أقرضه المرء لربه للدلالة على عظم الثواب على مثل هذا الإنفاق.

وأن لا يخشى المنفق على ضياع ماله في الإنفاق، فإن الله هو الذي يقدر الرزق ويوسعه، وهو سبحانه الذي يخلف ما ينفق العبد: “ما من يوم إلا وينزل ملك بأمر الله ليعطي منفقًا خلفًا وممسكًا تلفًا[2]. هذا فضلًا عن الأجر العظيم في الآخرة، وهو يوم لا بدّ قادم يرجع الناس فيه إلى ربهم (وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ).

(مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ) أي من الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له، فيكون (يضاعفه) منصوبًا جوابًا للاستفهام كقولك (من أخوك فنكرمه) لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء، إذا لم يكن قبله ما يُعطَف عليه من فعل مستقبل، هو نصبه.

أخرج أبو حاتم عن ابن عمر قال: “لما نزلت ( مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ) البقرة/آية261، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربّ زد أمتي، فنزلت ( مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا ) الآية قال: رب زد أمتي، فنزلت: ( إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ ) الزمر/آية10″[3].

فهو أجر عظيم لمن أنفق في سبيل الله إخلاصًا لله وصدقًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

( وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ ) أي يوسع الرزق ويقدر، ولذلك فالمؤمن يسعى في الأرض طلبًا للرزق ويطمئن ويقنع بما قسمه الله، فالرزق بيده سبحانه (إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ ٥٨ ) .

[1] البخاري: 120، 2599، مسلم: 3525

[2] البخاري: 1374، مسلم: 1010، أحمد: 2/305، ابن حبان: 2/462

[3] ابن حبان: 10/550

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *