صندوق النقد الدولي: مشروع هيمنة أميركي
2018/07/16م
المقالات
8,503 زيارة
صندوق النقد الدولي: مشروع هيمنة أميركي
لطفي بن محمد – ماليزيا
إنه لمن المعلوم أن الدول التي تعتنق مبدأ معينًا تسعى جاهدة لجعله المبدأ السائد في العالم والقيادة الفكرية التي تسوس الناس من خلالها. فكذلك أميركا التي انفردت بمقام الدولة الأولى وأصبحت لها اليد الطولى في تقرير مصائر الناس، فقد اتخذت لنفسها أساليب تجعلها تفرض ما تراه من أوضاع اقتصادية أمرًا قابلًا للتطبيق من خلال مؤسسات أشرفت على إنشائها وبثت فيها رجالاتها وسعت لأن تكون منصات تعمل على تثبيت السيادة الأميركية وتمكينها في العالم. ولعل من أبرز تلك المؤسسات هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي. فالأول يوفر الحماية والشرعية السياسية، والثاني يمنح الغطاء الاقتصادي للتغول الأميركي بشكل خاص، وللدول التي تدور في فلكها. وإنه لمن الأهمية بمكان تناول هذه المؤسسات بشيء من التحليل وإبراز دورها في إفشاء المبدأ الرأسمالي وتركيز الهيمنة الاقتصادية على دول العالم الثالث. وبما أن الحديث هو حول المجال الاقتصادي فسيتم تناول صندوق النقد الدولي باعتباره أحد أبرز المؤسسات التي لها دور فعال في تنفيذ السياسات المالية الرأسمالية خاصة في ظل اقتصاد العولمة الذي تتزعمه أميركا.
تاريخيًا، تعتبر الحرب العالمية الثانية المنعرج الذي عرج بأميركا إلى العالمية خاصة في ظل الضعف الذي طرأ على أوروبا اقتصاديًا وسياسيًا، أضف إلى ذلك أن أميركا كانت تحوز على نسبة 70 بالمائة من احتياطي الذهب في العالم مما جعلها في وضعية مالية مريحة مكنتها من الاستفراد بالاقتصاد الدولي وفرض وجهة نظرها في كل ما يتعلق بالمال والسياسة. فكان أن دعت أميركا الدول المنتصرة إلى مؤتمر بريتون وودز 1944م؛ حيث تم الاتفاق على إنشاء صندوق النقد الدولي ومجموعة من القرارات والتي من أهمها الاتفاق على جعل الدولار العملة الرئيسية في التعاملات الدولية واعتبارها عملة يسندها الذهب، وقد كان هذا القرار بمثابة تمهيد لقرار فك الذهب عن الدولار سنة 1971م. وبمقتضى مخرجات هذا الاتفاق فإن الدول التي تمتلك دولارات يمكنها المطالبة بتحويلها إلى ذهب في وقت كانت قيمة الأونصة ما يعادل 35 دولارًا. كان الهدف المعلن للصندوق هو تقديم المساعدة المالية والتقنية للدول الأعضاء التي تعاني من عجز مالي، وتحسين الأداء والاستقرار في الأسواق المالية. وبما أن أميركا هي الداعية والراعية للمؤتمر، فقد اقترحت على المشاركين القبول بنظام الحصص في تمويل رأس مال الصندوق والذي بموجبه يتم تحديد الدول التي لها صلاحية إقرار المشاريع، وقد مكَّنها هذا النظام من فرض نفسها كأكبر مساهم، وبالتالي فإن القرارات التي ستصدر لن تخرج عن المسار الذي ترتضيه أميركا. ولم تكتفِ أميركا بالتمويل المالي؛ ولكنها أيضًا عملت على جعل الكادر البشري للصندوق ممن خدم في وزارة الخزانة الأميركية والبنك الفدرالي المركزي، وأنشأت المعهد الدولي للدراسات المتقدمة بواشنطن، والذي يخرِّج الإطارات التي توظف مباشرة في الصندوق. وبهذا تكون أميركا قد ضمنت أن الصندوق لن يحيد قيد أنملة عما تخطط له في السيطرة على العالم.
إن المتابع لسيرورة الصندوق يجد أن برامجه وأهدافه تتغير باستمرار وإن لم يتم الإعلان عنها. ففي الفترة التي تلت إنشاءه، أي من سنة 1945 إلى 1960م كان عمل الصندوق يهدف إلى دعم الدول التي كانت تراها أميركا سوقًا مستقبلية وموطئ قدم لها في سياستها الخارجية؛ فعملت على تقديم المعونة المالية إلى الدول الأوروبية واليابان، واتخذت لنفسها دور الوكيل للحفاظ على إبقاء الدولار كعملة دولية قابلة للتحويل إلى الذهب. ولكن ضعف الثقة في الدولار وفي الاقتصاد الأميركي نتيجة العجز في الميزانية والتضخم أدى بفرنسا وسويسرا إلى المطالبة بتحويل ما يملكونه من دولارات إلى ذهب. وخوفًا من تناقص المخزون الذهبي جاء القرار الأميركي في فترة نيكسون بإلغاء ارتباط الدولار بالذهب يوم 15 آب/أغسطس 1971م، وقد عمدت أميركا في الفترة ما بين 1975 و1980م إلى تقليص دور الذهب في الأسواق المالية؛ في محاولة لتأهيل الدولار وجعله الأساس في التجارة الدولية؛ فأغرقت الأسواق الدولية بـ 412 طنًا من الذهب سعيًا منها إلى إضعاف سعره، ولكن الذي حصل هو العكس تمامًا؛ فقد ارتفع سعره في شهر كانون الثاني/يناير 1980م إلى 2140 دولارًا بعد أن كان 230 دولارًا. في خضم هذه التحولات كان الصندوق يقوم ببيع الذهب إلى أميركا في محاولة منه لسد ذلك العجز في احتياطي الذهب، مع العلم أن الصندوق يعتبر أحد أكبر المؤسسات امتلاكًا للذهب في العالم، فهو يصنف في المرتبة الثالثة بعد أميركا وألمانيا باحتياطي يزيد عن 2800 طن حسب آخر إحصائية صادرة عن الهيئة العالمية للذهب. خلال فترة الثمانينات، كان الصندوق يقدم نفسه كالطبيب الذي يصف علاجات، ولكنها في أغلبها كانت تسير في منحى معاكس لما أريد له؛ فمثلًا، في الأزمة الاقتصادية التي ضربت النمور الآسيوية، نجد أن الدولة الوحيدة التي نوعًا ما أفلحت وخرجت بأقل الأضرار هي ماليزيا؛ وذلك بسبب أنها لم تتبَنَّ الوصفة المقترحة من طرف الصندوق، والتي كانت سببًا في اهتراء وزعزعة اقتصاديات دول من مثل إندونيسيا وتايلندا والفلبين. وفي بداية القرن الواحد والعشرين همش دور الصندوق وأصبح صوته خافتًا؛ وذلك لعدة اعتبارات أهمها أن الأمر كله في صالح أميركا، ولا حاجة لوجوده؛ خاصة وأن الحرب على (الإرهاب) أصبحت المبرر الذي اتخذ من أجل خدمة المصالح الأميركية دون الحاجة إلى المؤسسات الدولية التي تم الدوس عليها وتقليص دورها. حتى إن بعض الساسة الأميركيين اعتبروا أن الصندوق وعمله قد تجاوزه الزمن ولا داعي لوجوده. وفي أعقاب أزمة الرهن العقاري الأخيرة سنة 2008م، والتي أدت إلى انهيار كثير من المؤسسات المالية، اكتسب الصندوق زخمًا أعاده إلى الواجهة من أجل المساهمة بما لديه من احتياطات مالية تساهم في إنقاذ الاقتصاديات المتأثرة بالأزمة.
أصبح الصندوق محل اهتمام الخبراء في الآونة الأخيرة نتيجة لما له من دور يرسمه في هندسة اقتصايات الدول، وباعتباره أداة هيمنة تسعى للسيطرة على مقدرات الشعوب وربطها بالديون، ومن أجل التدليل على ذلك وبنظرة فاحصة إلى الجهاز الإداري للصندوق نجد أنه يتكون من أربعة وعشرين عضوًا تترأسهم الفرنسية كريستين لاجارد، والتي تمثل مصالح الاتحاد الأوروبي، ونائبها الصيني جين، والأميركي سونيل، ويوشهيتو الياباني، وبقية الدول لها من يمثلها في المجلس، والملاحظ هنا أن أميركا لها الأغلبية مما يجعل ممثلها له من الصلاحيات ما يفوق رئيسة الصندوق، وله حق الفيتو على جميع القرارات؛ وذلك كما ذكرنا سابقًا نتيجة لنظام الحصص، والذي تطالب الصين بتغييره باعتبار أنه لا يعكس التوازنات الدولية الاقتصادية، خاصة وأن الصين تعتبر ثاني أقوى اقتصاد في العالم. لم تكتفِ أميركا بحق الفيتو؛ ولكنها سعت لأن يكون لرجالاتها الأمر والنهي في اتخاذ القرارات وتنفيذها، فعملت على إنشاء لوبي يشار إليه باسم “شبكة روبن” يؤمن بالهيمنة الأميركية، ويقوم بتوجيه سياسات الصندوق لخدمة هذه الغاية، والسمة التي تغلب على أعضاء هذا اللوبي هي أن جلهم عملوا ضمن الإدارة الأميركية في مناصب في وزارة الخزانة والبنك الفدرالي، أو في بعض البنوك الأميركية كـ”سيتي بنك”.
من بين أهم المسائل التي تبين مدى الاختلاف بين وجهات النظر الأميركية والصينية هو النظرة إلى الأزمة الاقتصادية؛ من حيث كونها مجرد حلقة في سلسلة الاقتصاد، أم أنها خلل هيكلي يحتاج إلى إعادة صياغة وتجديد. فالطرف الأميركي يرى أنها سحابة صيف تحتاج إلى مجموعة من القرارات التحفيزية وضبط للسياسة الضريبية، على عكس ما ترى الصين أنها هيكيلية تحتاج إلى تغيير جذري في السياسة الاقتصادية الدولية بمجملها. وهذا إن كان صحيحًا إلى حد ما، خاصة فيما يتعلق بالدولار، فإن الإدارة الأميركية ليست في وضعية تمكنها من اتخاذ هكذا قرار قد يؤدي بها إلى انتحار اقتصادي. لقد هيمنت أميركا على العالم بجعلها للدولار العملة الأساسية الدولية، والتي تسعى الدول لامتلاكها وجعلها أهم مصدر لسلة العملات لديها، حتى إن الصين التي تعتبر أكبر منافس اقتصادي لأميركا هي أكبر ممتلك لسندات الخزينة الأميركية بقيمة 1.2 تريليون دولار، وباحتياطي قدره 3.14 تريليون دولار، مما يجعل الصين غير قادرة على الانفكاك عن أميركا بالرغم من المحاولات التي تقوم بها من أجل جعل اليوان عملة دولية.
إن الدور المناط بالصندوق في الوقت الراهن يتمحور حول محورين أساسيين، وهما:
1) توظيف السيولة المالية.
2) منح القروض.
إن الصندوق في هذه الحالة يمارس دور البنك وإن كانت تسميته لا توحي بذلك، ولهذا نجد أن كثيرًا من أهل الاختصاص يطلقون وصف البنك على صندوق النقد الدولي، ويعتبرونه البنك المركزي العالمي، خاصة وأن ميثاقه يشير إلى أن التعامل معه يتم عن طريق البنوك المركزية للدول الأعضاء، وهذا إذا أخذنا في الاعتبار أن الصندوق يفرض شروطًا معينة على الدول التي تريد تخفيض عملتها، وهو الجهة المخولة دوليًا لإقرار التخفيض والموافقة عليه.
-
توظيف السيولة المالية:
ويقوم بها البنك عن طريق الحصول على الأموال من الأعضاء المشتركين، كل حسب الحصة المخصصة له، وتساهم تلك الأموال في رأس مال الصندوق الذي بدوره يعمل على توظيفها من خلال عمليات شراء الذهب وبيعه، والتي يتميز بها وتجعله في مأمن من الأزمات الاقتصادية. ففي سنة 2004م، قام الصندوق ببيع 400 طن من الذهب في الأسواق العالمية، وتعتبر البنوك المركزية حول العالم أهم المشترين، تتقدمهم الصين التي تتربع على عرش الإنتاج العالمي للذهب بقيمة 455 طنًا سنويًا، وتستخدم بنوكًا وكيلة من أجل شراء وتكديس الذهب رغبة منها في جعل اليوان الصيني عملة مرتبطة بالذهب؛ وبهذا يتقلص الطلب على الدولار، وتصبح العملة الصينية البديل لذلك. إن العقوبات التي تفرضها أميركا على إيران وروسيا، والرغبة الملحة للصين لريادة الاقتصاد العالمي؛ جعلت الطلب على الذهب يتزايد في منحى تصاعدي إلى أن وصل سعره إلى 1305 دولار للأونصة الواحدة، هذا بالإضافة إلى أن المستثمرين يعتبرون الذهب الملاذ الآمن، خاصة في ظل التقلبات الدائمة التي تعاني منها أسواق البورصة، والمبنية على المضاربات، والتي تفتقر لوجود اقتصاد حقيقي؛ مما يجعل الأزمات الاقتصادية أمرًا لا مفر منه، والتي يراها منظِّرو الاقتصاد الرأسمالي أنها حالة صحية تحدث كل 18 سنة؛ وعليه فإن السياسات المالية المتبعة من طرف اقتصاديات الدول الرأسمالية تفتقد إلى الرؤية المستقبلية، وإنما هي في مجملها تهدف إلى تفادي الأزمات عوض البحث عن أسباب المشكلة، والتي قد يختلف المفسرون لها؛ ولكن أغلبهم يتفقون على أن غياب الذهب كركيزة للعملات هو من أهم تلك الأسباب. لقد استغل الصندوق الطلب المتزايد على الذهب وأصبح يعتبر من أكبر الممولين والمتاجرين به، بالإضافة إلى مجموعة من البنوك الأخرى التي تسمى “Bullion Banks” أو بنوك السبائك. وتلجأ كثير من الدول كاليابان وألمانيا وهولندا بما فيها الصندوق إلى وضع احتياطاتها الذهبية في أقبية البنك الفدرالي الأميركي والبنك المركزي البريطاني، واللذين يحتويان على ما قيمته 10600 طن من الذهب. إن كل هذا ليدل على أن الصندوق يتميز عن غيره من المؤسسات الدولية، ويتصرف بنوع من الاستقلالية التي استمدها من مخزونه المالي الضخم، والدعم الأميركي لسياساته المالية.
-
منح القروض:
تعتبر القروض العصب الذي تعتاش منه المؤسسات المالية الرأسمالية، والصندوق كغيره من البنوك المركزية؛ حيث يقوم بإقراض الدول العاجزة والتي تعاني من ندرة في الموارد المالية وعجز في الميزان التجاري وإفلاس مالي، كالذي حصل مؤخرًا في الأزمة اليونانية حيث تدخل البنك وقدم قرضًا مشروطًا قيمته 1.8 مليار دولار. ولكن الحصول على القروض ليس بالأمر الهين، فالدولة التي تتحصل على المعونة المالية تلتزم بمجموعة من الشروط المجحفة التي يفرضها الصندوق، والتي تمس أهم القطاعات الأساسية في البلد، كتقليص الدعم عن المواد الأساسية، وزيادة الوعاء الضريبي، وتسريح العمال، والخصخصة، هذا بالإضافة إلى تلك الشروط المتعلقة بالجانب الاجتماعي والتعليمي. كل هذا وجب التوقيع عليه من قبل المقترض، والالتزام به في دول أصلًا منهكة اقتصاديًا؛ مما يجعلها في وضع عسير وعلى كف عفريت؛ حيث قد تؤدي تلك الإصلاحات إلى اضطرابات داخلية كما حصل في فنزويلا واليونان. فالصندوق يتصرف باعتباره بنكًا مركزيًا دوليًا يتحكم في البنوك المركزية للدول ويدير سياساتها المالية والنقدية، وكان الصندوق قبل الأزمة المالية 2008م، يعتمد في سياساته الإقراضية على برامج الحصص، والتي هي مجموع المبالغ التي يقدمها الأعضاء كاشتراك سنوي يمكن للمشترك أن يسحب منها قدر الحاجة بشرط أن المبلغ المقترض لا يجب أن يتجاوز نسبة الحصة المحددة له، ولكن تبعات الإفلاس الذي لحق بكثير من اقتصاديات الدول وبنوكها أدى بالصندوق إلى مراجعة سياساته المالية تجاه الدول الراغبة في الاستدانة منه، واعتمد على سياسة الإقراض التقليدي؛ ولهذا فقد اتفق أكبر المساهمين في الصندوق على زيادة قدرته على الإقراض وتوسعة مجال عمله، وكان ذلك في أعقاب الأزمة الاقتصادية في اجتماع للدول الـ20 في لندن؛ حيث تم الاتفاق على زيادة رأس مال الصندوق بما قيمته 750 مليار دولار، حيث ساهمت إدارة أوباما بـ 100 مليار دولار. وبموجب هذا النظام فإن الدول الدائنة تتعهد بتسديد كامل المبلغ، واستقطاع خدمات الدين من الموازنة العامة للدول، وجعل تلك الدول رهينة لدى الصندوق. ومن أجل مراقبة أداء الدول فإن خبراء الصندوق يقومون بزيارات دورية مهمتها التأكد من الالتزام الكامل بالشروط المتفق عليها.
فعلى سبيل المثال، وفي إطار السعي الحثيث للصندوق لتمرير مشاريعه، فقد تم التوصل إلى اتفاق بين الحكومة التونسية والصندوق من أجل الحصول على قرض بقيمة 2.8 مليار دولار، مقسم على أربعة أقساط، يتم دفعها بعد أن توافق لجنة الصندوق على الإصلاحات المتخذة من طرف الحكومة لتقليص الإنفاق العام وزيادة الجباية. وقد كان الإعداد لموزانة 2018م تحت إشراف الصندوق الذي طلب من الحكومة اتخاذ إجراءات حاسمة من أجل الاستمرار في الحصول على الأقساط المتبقية. أما في مصر فقد كان الاتفاق بين الصندوق والحكومة على قرض بقيمة 12 مليارًا تدفع خلال ثلاث سنوات وفق خطة متفق عليها تعتمد كغيرها من الخطط على تقليص العجز في الميزانية من خلال تدابير اقتصادية تهدف في أغلبها إلى تحييد نفقات الدولة وزيادة الضرائب وتعويم العملة. ولعل ما يثير الانتباه هو التقارير الصادرة من الصندوق والتي تصف الوضع الاقتصادي بالجيد وأن هناك إصلاحات جدية وأن نسبة النمو في تصاعد، ولكن المشاهد المحسوس في واقع الأمر يجد أن الإحصائيات التي تنشرها مؤسسات هذه الدول تكذب تقارير الصندوق وتنطق بما هو مخالف لذلك، وهنا ندرك أن هذه التقارير ما هي إلا مجرد حبر على ورق وإن تزينت بأرقام ملؤها الكذب والبهتان، وأكبر دليل على ذلك الفترة التي سبقت اندلاع الثورة في تونس والتي أصدر فيها الصندوق تقارير مالية تصف الوضع الاقتصادي على أنه في أحسن أحواله؛ فجاءت الثورة وبينت هشاشة الاقتصاد وعدم قدرته على تجاوز الصعوبات، بل على العكس دخل في دوامة لن يخرج منها ما دام أن القائمين عليه متفقون على الاستمرار في تبني الاقتصاد الرأسمالي ومؤسساته.
ولهذا فإن الأنظمة الحاكمة بقدر ما تسعى للحصول على القرض فإنها تحاول تجنب تلك الإصلاحات التي يفرضها الصندوق والتي قد تؤدي إلى فوضى تطيح بالنظام الحاكم، وعليه فإن الأنظمة تتجه إلى الاقتراض من دول كأميركا والصين والاتحاد الأوروبي، وفي هذه الحالة فإن الحاكم يصبح أداة طيعة في أيدي الدول المقرضة؛ لأن استمرار تدفق المال يمكن النظام الحاكم من الإبقاء على سياسة شراء الذمم. فالمعونات الأميركية أصبحت سيفًا مسلطًا على أشباه الدول، وتنهج الإدارة الأميركية في ذلك طريقة العصا والجزرة؛ فالمال موجود وبسخاء للدول التي تسير في ركاب أميركا ومخططاتها، وإن لوحظ انحراف عن المنهج الأميركي جاء الرد سريعًا، وهو وقف المعونات المالية، وهو ما يجعل الدول خاصة في العالم الثالث لا تتردد في قبول المعونات، وتتبنى في سبيل ذلك قوانين لا تمت إلى مصلحة البلد بصلة، كزيادة أسعار الوقود، وفرض ضرائب جديدة، أو طبع النقود كحل أخير تلجأ إليه الدول التي هي على أبواب الإفلاس المالي؛ مما يجعل مدخرات الأفراد تتبخر وترتفع الأسعار ويلجأ الناس إلى شراء العملة الصعبة والذهب؛ مما يزيد في نسبة التضخم. ولهذا كانت المعونات الأميركية وسيلة فعالة تعتمد عليها الأنظمة في استمرارية وجودها. وتتركز أوجه إنفاق المعونات أو القروض في الجانب العسكري باعتباره العمود الفقري لأنظمة الاستبداد، مع العلم أنه قطاع استهلاكي غير منتج؛ مما يجعل الدولة تدور في دوامة القروض.
وفي ظل كل ما ذكر سابقًا فإن صندوق النقد الدولي لا ينحصر في تعاملاته مع الدول فقط، وإنما يوسع دائرة اهتمامه لتشمل البنوك العملاقة “Too Big To Fail Banks” والتي لها شراكة مع الصندوق خاصة فيما يتعلق بأسواق الذهب، وبالتالي فإن وجود أزمة اقتصادية في بلد ما تنشط فيه هذه البنوك قد يؤثر على الصندوق سلبًا، ولهذا تجده يسارع في تقديم القروض لهذه الدول من أجل حماية استثمارات هذه البنوك العملاقة كما حصل مع بنكي (جي بي مورغن) و(غولدمان ساش)، وقد كتب أحد الخبراء الاقتصاديين معقبًا على دور الصندوق “هو بمثابة نادٍ للأغنياء، مهمته هي الحفاظ على ثروة الكبار وزيادتها”.
إنه لمن الجدير بالذكر، أن أزمة الثقة التي مست الدولار في أواسط الستينات كان لها الأثر الكبير في إصدار الصندوق لعملته الخاصة سنة 1969م، وتسمى حقوق السحب الخاصة، وتعادل ما قيمته 0.68 دولارًا لكل وحدة من هذه العملة، وتقدر قيمة ما تم إصداره إلى غاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي ما يعادل 291 مليار دولار. وبالرغم من أنها ليست كغيرها من العملات، إلا أنها تكتسب ثقة لدى الدول خاصة وأنها صادرة من مؤسسة دولية، ويمكن مبادلتها بأي من العملات القابلة للتداول في الأسواق الدولية. لقد فرض الصندوق نفسه وأعطى لنفسه الصلاحية للتدخل في شؤون الدول، وقدم حلوله التي تجلب الويلات لمن عمل بها؛ فالنمور الآسيوية انهارت اقتصادياتها بعد أن تبنت إصلاحات الصندوق، ودخلت الأرجنتين نفقًا مظلمًا لا تزال تعاني من ويلاته لحد يومنا هذا، وغرقت نيجيريا في مستنقع الاستدانة، واليونان اليوم هي أضعف بكثير مقارنة بما قبل تدخل الصندوق الذي كبَّلها بكمٍّ هائل من الشروط. وعليه فإن المتابع لعمل الصندوق يجد أنه لم يحقق أي نجاح يذكر لسبب بسيط، وهو أنه مجرد أداة هيمنة في يد أميركا، يسير ضمن مخطط محدد مسبقًا، مهمته الأولى هي إبقاء أميركا في الريادة، ومنع ظهور أي منافس لها.
وفي الأخير، إن الاقتصاد عصب الحياة، والمال هو الدم الذي يجري في هذا العصب؛ ولهذا فقد أولى الإنسان اهتمامًا كبيرًا بالمال، وجعله عنصرًا أساسيًا لتسيير شؤونه في هذه الحياة. ولكن النظرة إلى المال تختلف باختلاف القاعدة الفكرية المتبناة، والتي تؤسس للنظام الاقتصادي وكل ما يتعلق به. إن الحضارات تتصادم وتتدافع، ومعيار الانهزام الحضاري هو الاستسلام، أو كما وصفها ابن خلدون بأن “كل مغلوب مفتون بتقليد الغالب”. والحضارة الرأسمالية التي يمثلها الغرب والشرق تتبنى مفهومًا معينًا للحياة تريد أن يُصبغ العالم كله به، فعلى حد قول هنتيغنتون: “إن غير الغربيين مطالبون بالتخلي عن جميع قيمهم، وتبني مفاهيم الغرب في جميع شؤونهم المتعلقة بالحكم والاقتصاد والتعليم وفي جميع مؤسساتهم؛ لأنها هي المفاهيم الوحيدة المؤدية إلى التحضر”. فالرأسمالية تزعم أن خالق الكون لا دخل له بموضوع المال أو تسيير أمور العباد؛ فكان أن انبثقت عن هذه الفكرة الأساسية تشريعات أنتجت مؤسسات مالية سارت في منحى منحرف أهملت الإنسان واعتبرته مجرد رقم، واهتمت بتكثير المال وتنويعه، ووسعت الهوة بين الأثرياء والفقراء، وقنَّنت للنهب تحت مسميات مختلفة… وصندوق النقد الدولي هو حجر من الأحجار التي لا يستغني عنها البناء الرأسمالي الذي بدأ يترنح بعد أن اهتزت جذوره وأسسه نتيجة للأزمات المتراكمة، حتى إن الكثير من المحللين الاقتصاديين فقدوا الثقة في الكثير من أساسياته. فكل هذا التيه الذي يعيشه العالم هو نتيجة طبيعية للرأسمالية بكل ما تحمله من فكر ومؤسسات. وعليه فالأنظار أصبحت متوجهة إلى الإسلام باعتباره أنه هو الوحيد القادر على تصحيح المنحى وإعادته إلى جادّته، خاصة مع ما يمتلكه من موروث فقهي وتاريخي يجعله في وضع طبيعي لقيادة العالم. إن الإسلام وتشريعاته الاقتصادية المتميزة أثبتت جدارتها تاريخيًا في الارتقاء بالإنسان والمجتمع، خاصة وأنها تشريعات منبثقة عن فكرة كلية صحيحة تجعل هذا الكون والإنسان والحياة يرى بنور الله؛ فتستقيم الدنيا ويتحقق مفهوم العبودية الحقة.
ولهذا، فإن العمل المثمر الذي يسعى إلى التغيير الجذري هو العمل السياسي الذي يقدم المشروع الإسلامي بكل تجلياته السياسية والاقتصادية، وعدم الاقتصار على جانب معين وإغفال البقية. فمجرد غياب الإسلام عن واقع الحياة يجعل الهدف الأساسي لأي عملية تغيير أن تتقصد في سعيها من خلال المطالبة باستئناف الحياة الإسلامية دون الالتفات إلى أي من الأفكار الفرعية. فالتغيير في تركيا ذات المستوى المعيشي الجيد هو نفسه في السودان؛ لأن المعيار هو غياب الإسلام، والذي بعودته تتحقق للأمة الإسلامية السيادة والمنعة والرفعة؛ ولهذا فإن أي محاولة للتغيير سيكون مصيرها الفشل إن لم تلتزم بهدف قولبة المجتمع ضمن إطار إسلامي واحد ووحيد. فالعمل إذًا فكري سياسي يقدم مشروعًا ضمن اعتبارات واقعية وإنسانية وعملية بعيدة عن الفلسفة المجردة عن الواقع، ويعتبر أن له من الأحقية التاريخية التي تجعله وضعًا غير قابل للتنازل والتراجع، وهذا ما نسميه بأنه قضية مصيرية. فالأمة الإسلامية ليست أية أمة، وفي عنقها مسؤولية تجاه نفسها وتجاه غيرها من الشعوب، فهي أمة ذات رسالة بالمفهوم الرباني، وقد فهم الصحابة الخطاب، ومن بعدهم الخلفاء، فقد روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: “من سره أن يكون من هذه الأمة؛ فليؤدّ شرط الله فيها” وذكر قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
2018-07-16