العدد 382 -

السنة الثالثة والثلاثون، ذو القعدة 1439هـ ، الموافق تموز 2018م

التقليد

التقليد

 

الأستاذ حمزة حرز الله

 الحمد لله خالق الأكوان، رب الأرض والسماء، خلق آدم وعلمه الأسماء، وأسجد له الملائكة وكرم بني البشر، فتكبر إبليس وتوعدهم بالإغواء، وجعل الدنيا دار بلوى وعمل لا دار جزاء، وأنزل على البشر الرسل برحمته والأنبياء، فكان خاتمهم خير ساكني الأرض والسماء، فتمت باكتمال رسالته النعمة، فالحمد لله ملء الأرض والسماء… وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تنجينا بعفوه وغفرانه من ناره، ونسأله سبحانه الثبات… وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

 

وبعد، فإننا نكتب في هذا الموضوع لما رأيناه من حاجة كثير من أبناء الأمة لفهم هذا الموضوع، حيث إن كل مسلم لم يصل إلى رتبة الاجتهاد في العلم الشرعي فإنه يحتاج إلى التقليد، فهو محتاج إلى التقليد ليعرف أمر ربه ونهيه، وليلتزم بدينه في عمله وقوله وفي كل حياته…

ومما زاد الأمر سوءًا هو ضياع العلم الشرعي وغيابه عن أذهان أبناء الأمة، وذلك بسبب ذهاب العلماء، روى مسلم في صحيحه: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وإنه مع قبض العلماء واتخاذ الناس رؤوسًا جهالًا، فإن من بقي من العلماء في زماننا قد أبعد وأسكت وغيَّب، فكان ضياع العلم الشرعي من بين أبناء الأمة.

إلا أن بداية ضعف فهم الإسلام وضعف القدرة الفقهية عند أبناء الأمة هي قلة الاهتمام باللغة، ثم إقفال باب الاجتهاد، ثم سطوة الغرب ودول الكفر على المسلمين واغتصاب سلطانهم؛ فضربوا الأمة ضربة ثقافية فكرية، وعملوا على أن تُقدَّم كليات العلم الشرعي في بلاد المسلمين علم الفقه كما تُقدَّم الفلسفة، فكرّهوا الناس بالفقه وأبعدوه عن الواقع فأصبح علم الفقيه أو الشيخ أو الطالب في كليات العلم الشرعي للمنبر والمواعظ لا للتطبيق والتغيير واستلام زمام الأمور، فتراجعت القوة الفقهية أيما تراجع، وقل العلماء فزاد المقلدون…

 إلا أنه حدثت مشكلة أخرى، وهي أن المقلد لا يعرف كيف يقلد العلماء، وما هي ضوابط التقليد وأحكامه، وجهل أن عليه واجبات كمقلد، فظن أن بإمكانه كما يقولون “حطها برقبة عالم واطلع سالم”!

إن مما كان ضغثًا على إبالة في مشاكل هذا العصر في موضوع التقليد هو أن طائفة من المسلمين لم يعودوا يهتمون بمعرفة حكم الله وأمره ونهيه، أو لا يدقِّقون في ذلك، حتى أصبحوا يفتون من عند أنفسهم ليجعلوا أمر الله يتبع أهواءهم ومصالحهم، وإذا سألتهم يقولون: “استفت قلبك ولو أفتاك الناس”، أو “الدين يسر وليس عسر، أنت ليش معقدها”، أو “المصلحة هكذا والدين يرعى مصالح الناس”، أو “أنا نيتي صافية، المهم النية”!! وغيرها من الأعذار التي يُمَنُّون بها أنفسهم ليهربوا من تحمل مسؤوليتهم تجاه دينهم وأمتهم!

ثم أصبح كل من قرأ كتابين أو ثلاثة يظن نفسه عالمَ زمانه وعالمـِا علاَّمة لا يحتاج لأن يقلد غيره، بل من العار أن يقلد غيره، فهو الفاهم العالم، فيفتي في كتاب الله وسنة رسوله r ما ليس له به علم فيضل ويضل! من هذا كله كان لا بد من إيصال أفكار تبصّر غير المجتهدين بكيفية أخذ أحكام دينهم، والله المستعان، وعليه التكلان.

وسنتكلم في هذا الموضوع في مسائل عدة:

* المسألة الأولى: تعريف التقليد وحكمه

إن التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة، فهو اتباع المقلد لقول عالم مجتهد في مسألة فقهية ليعمل بما قال، فهو اتبع قوله لأنه يثق بأن هذا القول صادر عن حجة يحتج بها هذا المجتهد ولكن دون أن يعرف هذا المقلد هذه الحجة – معرفة استنباط واجتهاد ومحاكمة لا معرفة ذكر وحفظ واستظهار – فهو – أي المقلد – عمل بعمل من دون أن يستنبط حكمًا من دليل شرعي.

إن الذي لا يملك أهلية الاجتهاد وإن كان محصلًا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه تقليد أحد المجتهدين واتباع فتواه في الأحكام العملية، خلافًا لقول بعض العلماء من المعتزلة وغيرهم، ويدل على ما نقول النص والإجماع والمعقول.

أما النص فيقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣﴾ والكلام هنا عام في السؤال عن أي شيء لا يعلم.

أما الإجماع، فذلك أن العامة في زمن الصحابة كانوا يسألون المجتهدين من الصحابة عن الأحكام الشرعية العملية، وكان الصحابة يجيبونهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل من غير منكر على السائل أو المجيب، ومن أدلة ذلك أنه صح أن الشعبي قال: “كان ستة من أصحاب رسول الله r يفتون الناس: ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو موسى رضي الله عنهم، وكان ثلاثة يدعون قولهم لثلاثة، كان عبد الله يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب”، فكان إجماعًا من الصحابة رضوان الله عليهم على جواز التقليد.

كل هذا الكلام في هذه المسألة متعلق بالتقليد في الفروع، أما التقليد في أصول الدين فغير جائز لقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ  ٱلۡحَقِّ شَيۡ‍ٔٗا ٢٨[النجم: 28]

* المسألة الثانية:على المقلد أن يستفتي من عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد

إنه لا يجوز أن يقلد المقلد إلا من يملك أهلية الاجتهاد وأن يكون عدلًا، أما أن يمتلك أهلية الاجتهاد فلأن التقليد اتباع لقول الغير من غير حجة ملزمة، وهذا الاتباع لمعرفة حكم شرعي، والحكم الشرعي لا يمكن أن يعرف إلا من خلال النظر والاستدلال في الدليل الشرعي، والنظر والاستدلال يحتاج إلى مجتهد حتى يقوم به؛ لذلك فعلى من يستفتيه الناس أن يكون مجتهدًا قادرًا على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

وأما أن يكون عدلًا؛ فذلك لأن العدالة شرط في الشهادة، والإفتاء بالحكم الشرعي شهادة من المفتي أن هذا حكم شرعي باستنباط صحيح، فبذلك تكون الشهادة شرطًا يجب أن يتوفر في من يستفتيه الناس.

والسؤال هنا: هل على المقلد أن يسأل عن حال من يريد أن يستفتيه من حيث العلم وأهلية الاجتهاد ومن حيث العدالة قبل سؤاله؟

أما بالنسبة لأهلية الاجتهاد فيجب على المقلد أن يسأل عن حال من يريد استفتاءه قبل سؤاله بأخذ شهادة العدول من المسلمين، أو بالنظر في مؤلفاته أو حلقات العلم التي يديرها إن كان المقلد يملك بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد التي تمكنه من معرفة ما إذا كان استنباط العالم في مؤلفاته وحلقات علمه استنباطًا شرعيًا صحيحًا، ويؤكد هذا الأمر ما عليه طبيعة البشر، وبالذات حال الناس في هذا الزمن من أن الأعم الأغلب جاهل في أمور الدين غير قادر على الاجتهاد والفتيا، فإذا لم يسأل عن عدالة المفتي كان وقوع ما يغلب على الناس غالبًا على الظن.

وأما بالنسبة للعدالة فيجب أيضًا أن يسأل عن عدالته، بأن يسأل قومه أو من يعرف حاله ويرى أفعاله ويسمع أقواله، بأن ليس يُرى منه فسق ظاهر، أو ما يخرم في مروءته، أو إصرار على الصغائر، أو غيرها مما يؤثر في عدالة الرجل عند الفقهاء. ومن الأمور التي تقدح في عدالة العالم وقوفه على أبواب السلاطين وتسبيحه بحمدهم واستحلال الحرام لأجلهم، فمثل هذا لا يؤتمن على الدين ولا يُسأل الفتيا، بل إن على الأمة محاسبته والوقوف في وجهه، وأن يقول له أبناء الأمة قولًا بليغًا.

وبناء على هذه المسألة فإن اتخاذ مجامع فقهية أو دور إفتاء تفتي للناس دون أن يعرف الناس من يفتيهم، أو أن يكون المفتي جماعة يجتمعون ليتخذوا رأيًا وفتوى في مسألة معينة ثم يخرجوا بهذه الفتيا للناس، فهذا مخالف لضوابط التقليد، فلا يعلم المقلدون حال من يفتيهم من حيث العلم والعدالة.

* المسألة الثالثة: كيف يفعل المقلد بوجود أكثر من مجتهد

إن على المقلد أن يرجح بين المجتهدين، وهناك الكثير من مرجحات المقلدين التي يمكن الاعتماد عليها للترجيح بين المجتهدين، ومن أهمها الأعلمية؛ فيرجح المقلد بين المجتهدين فيقلد من يثق بأنه الأعلم بين المجتهدين، ولا يجوز له التنقل بين العلماء والمجتهدين تبعًا للتشهي والأهواء، أو بحثًا عن اليسير من الاجتهادات واتباعًا لأخف الأحكام. صحيح أنه يجوز للمقلد أن يقلد في كل مسألة عالمًا معينًا، فمثلًا يقلد في مسألة الصلاة الإمام الشافعي، ويقلد في مسألة الصوم الإمام أبا حنيفة، ويقلد في مسألة الحج الإمام أحمد بن حنبل، فهذا جائز على أن يكون اختياره للعلماء نابعًا من ثقته بأعلمية كل واحد منهم في المسألة التي اتبعه بها، لا أن يكون نابعًا من التشهي والأهواء.

وكما أنه يجوز للمقلد أن يقلد في كل مسألة عالمـًا، كذلك يمكنه أن يقلد عالمـًا واحدًا في كل مسائل الدين، كأن يقول “سأقلد مذهب الشافعي كاملًا” فهذا أيضًا جائز ولا ضير فيه.

والسؤال الذي يرد هنا هو هل يجوز للمقلد إذا قلد عالمـًا في مسألة أو مذهب أن يعود عن تقليده ويقلد عالمـًا آخر؟

فنقول: بأنه يجوز له ذلك في كل مسألة لم يتصل بها عمله، فمثلًا إذا قال مقلد ما: “سأقلد الشافعي في مسألة الصلاة والزكاة”، وصلى على مذهب الشافعي ولكن لم يكن معه مال للزكاة، ثم لما تحصّل معه مال للزكاة كان قد رأى أن أبا حنيفة أقدر على الاجتهاد في مسألة الزكاة فله أن يقلد أبا حنيفة في الزكاة.

أما إذا اتصل عمل المقلد بمسألة قلد فيها عالمـًا معينًا، فالمقلد لا يخلو من أحد أمرين؛ أما الأول فهو إن كان جاهلًا بعلوم الاجتهاد وهو المقلد العامي، والثاني أن يمتلك المقلد بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد مع أنه لم يمتلك ما يكفيه من العلوم حتى تتوفر فيه أهلية الاجتهاد وهو المقلد المتبع.

أما بالنسبة للمقلد العامي، فإذا وثق بعلم عالم وعدالته فأخذ منه وقلده فلا يجوز له أن يعدل عنه إلى غيره من المجتهدين، حتى وإن رأى ووثق في ما بعد في أعلمية مجتهد آخر؛ وذلك بسبب جهله في علوم الاجتهاد فيكون غير قادر على الترجيح بين العلماء وقدرتهم على الاستنباط، إلا إذا ظهر لهذا المقلد فسق ظاهر أو جهل بيّن دل عليه مخالفته لما ثبت في الدين فيجب عليه – أي المقلد – أن يترك تقليد هذا الرجل إلى عالم يثق بعلمه وعدالته.

وأما بالنسبة إلى المقلد المتبع فله أن يرجح بين أعلمية المجتهدين فيترك تقليد المفضول إلى تقليد الفاضل فيما يراه من خلال ما يمتلك من علوم الاجتهاد، والتي تمكنه من محاكمة استنباط العلماء وأدلتهم محاكمة ترجيح لا محاكمة استنباط.

* المسألة الرابعة: حل مشكلة ندرة المجتهدين في زماننا

يحدث في هذا الزمان أن يبحث المقلد في بلده عن مجتهد ليقلده فلا يجد، ومما يزيد الطين بلة هو الحدود التي وضعها المستعمرون بين بلاد المسلمين، وحال المسلمين الاقتصادية الصعبة بحيث إنه يصعب على المسلم أن يسافر ويبحث عن العلماء والمجتهدين في بلاد المسلمين.

ولهذا حلٌّ وهو أن يبحث المقلد في كتب المجتهدين مثل الشافعي ومالك والنووي… وغيرهم ليجد حل مسألته أو يسأل من له علم بأحد المذاهب أو بآراء أحد المجتهدين، فينقل له جواب مسألته، وبهذا يكون قد قلد المقلد المجتهد الذي نُقل عنه لا من نقل عن المجتهد علمه، وإنما دور الناقل تعليم المقلد برأي المجتهد، وهذا لا مانع منه على أن يتوثق المقلد من عدالة وأمانة الناقل.

* المسألة الخامسة: مقلد يقلد مذهبًا معينًا وعُدِم أصحاب المذهب

إن مما قد يحدث أن يقلد المقلد مذهبًا كاملًا فيتصل عمله بكثير من المسائل التي قد استنبطها أهل هذا المذهب والتي بنيت على أصوله، فإذا حدث أمر مثل سفر المقلد إلى مكان لا يوجد فيه من أصحاب المذهب أحد، أو إذا فني أصحاب هذا المذهب، وجب عليه أن يستمر في عمله كما كان يعمل بناء على ذلك المذهب في المسائل التي اتصل عمله بها، أما بالنسبة للمسائل التي لم يتصل عمله بها فلا ضير في أن يبحث عن علماء ليسوا على مذهبه فيقلدهم، وهذا لا خلاف فيه مع ما ذكرنا سابقًا.

بقيت مشكلة في المسائل التي اتصل عمله بها، وهي أن تستجد للمقلد مشاكل فرعية في المسألة ذاتها التي كان يعمل بها على المذهب الذي فني أصحابه، فليس للمقلد هنا أي خيار إلا أن يسأل أي عالم يثق بأهليته في الاجتهاد في هذه الفرعية.

وفي الختام فقد رأيت أن أقتصر في الموضوع على هذه المسائل؛ فإني أراها من أهم المسائل التي يحتاجها مقلدو هذا الزمان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *