العدد 179 -

السنة السادسة عشرة ذو الحجة 1422هـ – آذار 2002م

و جوب العمل السياسي

         أما أن الإسلام لا دخل له بالسياسة، فقالوا إن الإسلام دين ولا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، وإن السياسة كذب وغش وخداع وتقوم على الغدر والمؤامرات ومثل هذا يجب تنزيه الدين عنه… وعليه فالتدين مسألة خاصة وفردية ولها رجالها وأماكنها الخاصة. والأعمال السياسية ونُظُم العلاقات تدار بمعزل عن الدين، ويتولى أمرها الكفار والعلمانيون والفسقة.

         وهذا كله أباطيل، فليس هذا هو واقع السياسة، وإنما هو هكذا عند الدول القائمة على النفعية وعلى فلسفة ميكيافيلّي التي تجعل الغاية تبرر الوسيلة. وفي الحقيقة فإن السياسة هي رعاية شؤون الناس، ورعاية الشؤون لا تتم إلا بحسب أفكار وأنظمة وقوانين. والسياسة في الإسلام هي رعاية شؤون الناس بتطبيق أحكام الإسلام عليهم.

         وإذا كان واقع السياسة اليوم أنها تقوم على الكفر والظلم وانعدام القيم والأخلاق، فهذا لا يعني ترك العمل السياسي أو تحريمه، وإنما يعني إنكار هذا المفهوم للسياسة، والإنكار على هكذا (سياسيين) والعمل لإزاحتهم، وإعطاء الولاء والتأييد للسياسيين المخلصين الذين يعملون لتطبيق الإسلام، ورعاية شؤون الناس بحسب أحكامه.

         والسياسيون الذين يتحكمون اليوم برقاب الناس ويطبقون الكفر هم حفنة من أهل الباطل ومن الدجالين والمرتشين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويرهقونهم ويقودونهم إلى الذل والهلاك والخضوع لعدوهم. وهؤلاء يروّج الإعلام لهم ولأباطيلهم لأنه لهم ومن جنسهم، والباطل يروّج لفصل الإسلام عن السياسة وعن الحياة من باب الحرب على الإسلام.

         السياسة في الإسلام هي رعاية شؤون الناس بالإسلام، والإسلام هو أعظم شريعة لرعاية شؤون الناس، وهو وحده الحق والعدل لأنه من عند الله، وكل ما عداه فهو باطل وطاغوت. والإسلام هو من عند الله الذي خلق الإنسان ويعلم ما يُصلِحه ويَصلُح له وما يفسده ويضرّه. قال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق). وقال: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك). وقال: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (الإسراء/9).

         وكيف يقال بفصل الدين عن السياسة أو السياسة عن الدين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رئيساً للدولة الإسلامية، ورئيساً لرعاياها مسلمين وغير مسلمين؟ ألم يكن سياسياً؟ من الذي كان يرعى شؤون الناس ويفضّ المنازعات ويأمر بالمعالجات ويقضي بين الناس ويبين الحقوق وينفذ العقوبات؟ من الذي كان يجهّز المجاهدين والجيوش ويقودها؟ ومن الذي كان يعقد المهادنات أو الصلح أو يقرر الحرب؟ وكذلك، ألم يكن أبو بكر t رئيساً للدولة الإسلامية يطبق الإسلام ويحمي المسلمين ويمنع من الخروج على النظام ويرسل الجيوش؟ أَوَليس كذلك كان عمر بن الخطاب t، وكذلك عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما؟

         ونحن مأمورون بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به. قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب).

         فعلى المسلمين أن يدركوا أن السياسة هي رعاية شؤون الناس بتطبيق الإسلام عليهم داخل دار الإسلام، وبحمل دعوته إلى الناس خارج دار الإسلام. وتطبيقُ الإسلام لا يمكن بغير دولة إسلامية. وتطبيق الإسلام فرض وهو عمل سياسي، والعمل لإيجاد الدولة الإسلامية التي تطبق الإسلام فرض وهو عمل سياسي. فالسياسة جزء من الإسلام والعمل السياسي فرض من فروض الإسلام.

         والعمل السياسي يجب أن يكون على أساس الإسلام. فلا يجوز أن يكون على أسس مثل الديمقراطية أو العلمانية أو الوطنية أو القومية، فهذه كلها مناقضة للإسلام. وهي من أفكار الكفر ودعوات الكفار.

         وكون العمل السياسي على أساس الإسلام يعني أنه لا بد أن يشتمل على بيان الحقائق والدعوة إليها، والتحذير من الأكاذيب والأضاليل، وأن يشتمل على بيان واقع الحكام والسياسيين الكفرة والفجرة والفسقة والعمل لتغييرهم، وأن يشتمل على بيان واقع الأنظمة المطبقة على المسلمين والعمل لإزالتها، ووضع الإسلام مكانها موضع التطبيق.

         أما المشاركة مع هؤلاء الحكام في أعمالهم، ومع هذه الأنظمة في حكمها فهو منكر. وإن زُعِمَ أنه لخدمة الإسلام والمسلمين فهذا تضليل. قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) (المائدة/49)، وقال: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً) (الفرقان).

         و حدة الأمّة الإسلامية:

         ومن الأباطيل التي يروجها أهل الباطل فكرة استحالة وحدة الأمة الإسلامية، وذلك بهدف تيئيس الناس من هذه الحقيقة، وإذا يئس الناس من تحقيق أمر فإنهم لن يعملوا له وسيرضون بغيره وبما هو دونه. ولذلك أمعن حكامنا في التضليل والتقتيل، وأثاروا النزاعات والعداوات بين المسلمين، وغذوا أفكار التجزئة تحت اسم الاستقلال وتقرير المصير، وصارت الأمة الإسلامية مزقاً وقطعاً عربية وتركية وفارسية… وتعددت الولاءات بثقافات وأصول مختلفة فرعونية وفينيقية وغير ذلك. وأثاروا أباطيل من ترهاتهم وجهلهم سموها فكراً وتنظيراً، مثل أن المسلمين تتعدد لغاتهم وتتعدد أصولهم العرقية والقومية، وتختلف مشاكلهم وقضاياهم التي أمعن الشياطين في افتعالها وتغذيتها، وتدخلوا لتكريس الانقسام والقضاء على فكرة الوحدة بحجج مثل حل النزاع، وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير والديمقراطية وما شاكل ذلك مما لا يحتاج إلى بيان.

         وإن ما يجب أن يدركه كل مسلم ويعمل على أساسه هو أن الأمة الإسلامية أمة واحدة مهما اختلفت أعراقها أو لغاتها ومهما بلغ تعدادها، فهذه حقيقة وهي أمر واجب شرعاً. وإذا كان ذلك غير متحقق الآن، وتحول دونه عقبات، فالواجب العمل على تحقيقه وإزالة كل عقبة في سبيله. وإذا كان بعض المسلمين أو كثير منهم قد خُدعوا وحُمِّلوا أفكاراً تحمل على التباغض والتباعد، فيجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإزالة هذه الأباطيل والأضاليل، ولغرس الأفكار الإسلامية الصحيحة. يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (آل عمران/103). ويقول: (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات/10). ويقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات 13). ويقول: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)  (المؤمنون). وإذا كان الدين واحداً والملة واحدةً، والدين عقيدة وشريعة تتناول كافة شؤون الفرد والجماعة، فهذا يجعل المسلمين أمةً واحدةً حتماً وآلياً. روى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس» وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه)، وقال: «المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتكى رأسُه اشتكى كلُّه» (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس ألا إنّ ربكم واحد وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضلَ لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: نعم. قال: فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ» (ذكره القرطبي في تفسيره وقال خرّجه الطبري)، وقال صلى الله عليه وسلم: «… المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات) بِحَسْبِ امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» (رواه مسلم وأخرجه ابن ماجه)، ويقول صلى الله عليه وسلم عن العصبيات القبلية والوطنية والقومية وأمثالها: «دعوها فإنها منتنة» (رواه مسلم). وغير ذلك من شواهد النصوص والأحوال. ولكن أهل الباطل والضلال يريدون القضاء على أمتنا فينصحوننا مثل نصيحة إبليس لآدم، وقد أخبرنا الله تعالى عنهم بقوله: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) (آل عمران/120). وبقوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) (آل عمران). ونحن نلمس ونعاني مما آل إليه أمرنا في ظل هيمنتهم واستبداد عملائهم بنا.

         فنحن نُذبَح ونُشرَّد أفراداً وجماعات، ولا يجد المسلم قدرةً أو حيلة لتقديم العون لأخيه على بعد كيلومترات أو أمتار منه، يستضعفنا من شاء من الأنذال والأرذال في فلسطين ولبنان وسورية والعراق والبوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان وإندونيسيا وأوزبيكستان وغيرها، والحبل على الجرار إن لم نغير الحال. وتنقل لنا أنظمتنا وأجهزتها أخبار مذابحنا ومشاهدها وكأن لا علاقة للمسلمين ببعضهم. والله تعالى يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة/71). ويقول: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) (الأنفال/72).

         على المسلمين في كل أنحاء العالم أن يدركوا ويؤمنوا بحقيقة أن المسلمين أمة واحدة من دون الناس. وأن يتمسكوا بهذه الحقيقة الشرعية والحتمية، وأن يعملوا على أساسها وأن ينبذوا كل أساس آخر مهما كان الأمر ومهما كلف الثمن.

         المسلمون أمة واحدة، هذه حقيقة قطعية وحتمية طالما ظل المسلمون مسلمين. وهي حتمية وليست فقط ممكنة. ووحدتنا كمسلمين هي الأمر البدهي والعملي والضروري ويمكن تحقيقها بسرعة لا تخطر على بال، شرط أن يسار في الطريق الصحيح لذلك، لا أن نسير خلف تضليلات الدول المستعمرة الكافرة وتضليلات حكامنا وأجهزتهم وحركاتهم المصطنعة وأبواقهم، ولو خادعونا بالوحدة أو بالسير على طريقها.

         أما اللغة والعرق واللون والأصل والمشكلات والقضايا الآنية، فهذه كلها لا تحدد أو تعطي أي فكر أو مفهوم أو موقف، فهي لا تعطي فكرة عن وجود الخالق أو عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو عن يوم القيامة أو الجنة أو النار. ولا يعطي أي منها حكماً للحج أو الصيام أو الصدق أو الأمانة… ولا للخمر أو الخنزير، ولا يحدد أي منها موقفاً من اليهود أو غيرهم، ولا تعطي أي تشريع.

         والمشكلات والقضايا لا تحدد أي موقف أو تشريع، فهي ليست مصادر للتشريع أو المعالجات، وإنما هي تحتاج إلى معالجات. والمعالجات مصدرها الفكر الأساس والمنهج التشريعي ونصوصه، أي فقط نصوص القرآن والسنة.

         إن الوحدة بين الناس تقوم على وحدة الأفكار والأنظمة والقوانين التي يؤمن بها الناس، وعلى وحدة المشاعر الكامنة في وجدانهم أو الظاهرة عليهم.

         والأمة الإسلامية، رُغْمَ كل ما حل بها، فإن عوامل وحدتها أقوى من عوامل فرقتها. إن عوامل الوحدة هي العقيدة التي تفسر الكون والإنسان والحياة وتبين علاقة هذه الأشياء بما قبلها وما بعدها، والتي تعطي نظاماً للحياة، وهي متوفرة بتمامها وكمالها في الإسلام.

         والمسلمون يؤمنون بالإسلام وبنبيه وبرسالته. وتاريخ الإسلام تاريخ لهم جميعاً، وسيرة نبيِّهم أسوة لهم يتذاكرونها ويحرصون عليها، ورجالات الإسلام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، رضي الله عنهم، رجالاتهم. وهم جميعاً يمارسون شعائر الإسلام معاً، والأحكام الشرعية التي توحدهم لا تحصى. فكلهم ينتظرون رمضان معاً ويصومونه معاً، وتهوي أفئدتهم إلى البلد الحرام، يتوجهون إليه في زمن واحد وأيام واحدة، بل في ساعات واحدة، يلتقون من كافة أطراف الأرض يقومون بالشعائر نفسها، ويرددون الأقوال نفسها، يطوفون ويدعون وينحرون ويشدّون الرحال إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه وللتسليم على الرسول في المدينة المنورة أرض أول دولة إسلامية، ويتذكرون ويتذاكرون بدء دعوته وإصراره وصبره ونصره، ويعودون إلى بلادهم وذويهم يحدثون بالأخبار نفسها ويتلقون التهاني. فحال المسلمين واحدة في كل أنحاء العالم، ويرتفع فيهم أذان: (الله أكبر) بالطريقة نفسها والمنهج نفسه، وكلهم يتوقون إلى وحدة الأمة، وإلى عز الإسلام والمسلمين، وإلى تحرير المسجد الأقصى وفلسطين وسائر بلاد المسلمين. هذا غيض من فيض، وهو حال المسلمين في كل أنحاء العالم. ومن شذ منهم ممن استحوذ عليه الشيطان فشرذمة ارتدت على أعقابها فشذوذها إلى النار.

         نعم إن الإسلام عقيدة عقلية وأفكار وأحكام تصنع أمة حقيقية واحدة، وتصهر أي شعب أو قوم ليكونوا جزءاً من الأمة ومن جنسها.

         فلا يُغَرَّنَّ أحد بأكاذيب أهل الكفر والضلال ومزاعمهم، ولا بالإعلام المزوِّر أو التاريخ المزوَّر الذي يرفع الأنذالَ الأرذالَ ويحط الكرامَ الخيار.

         إن سبب هذه التجزئة وهذه الهزائم هو وجود هذه الأنظمة وأجهزتها وأباطيلها. والوحدة الإسلامية تقوم على أنقاض هذه الأنظمة الطاغوتية، والمسلمون يملكون طاقة عظيمة لتحقيقها، وهي كامنةٌ اليوم بفعل الظلم والفتك والتضليل.

         خذ مثلاً مشاعر المسلمين في كل أنحاء العالم تجاه ما يجري للمسلمين في أفغانستان والشيشان وكوسوفا وفلسطين وغيرها… وأقول مشاعرهم ولا أقول أعمالهم، لأنهم يملكون مشاعرهم وأحاسيسهم وإيمانهم، ولكنهم لا يملكون قوتهم وإرادتهم، فهذه مسلوبة وهي بأيدي أنظمة الكفر وشياطين الإنس. ولذلك رأينا المسلمين في كل أنحاء العالم يتوقون ويتحرقون لنصرة إخوانهم في كل مكان يتعرضون فيه للظلم والأذى. وقد رأيناهم في كل أنحاء العالم الإسلامي يثورون ويزمجرون يريدون نصرة إخوانهم في القدس وفلسطين أثناء انتفاضة المسجد الأقصى، ولكنهم كالأسود المكبَّلة، يزمجرون داخل أقفاص هؤلاء الحكام العملاء الخونة، أعداءِ الأمة، المشاركين في ذبح المسلمين وإذلالهم وفي تضييع بلادهم ومقدساتهم، وقد رأينا هؤلاء الحكام يشاركون الأميركان والإنجليز: رؤوسَ الكفر ضد العراق حرباً وحصاراً… ويتجاهلون ذبح المسلمين في شتى البقاع.

         إن الأمثلة والشواهد كثيرة، وكلها تؤكد حتمية وحدة الأمة الإسلامية التي لا يقف في طريقها إلا هذه الأنظمة الكاذبة الدعية التي تتحول إلى كلاب مسعورة إذا أدركت الأمة حقائق الإسلام واستعدت للتضحية في سبيلها.

         إقامة الدولة الإسلامية:

         أما التضليل باستحالة إقامة الدولة الإسلامية واستمرارها، فالكفار لا يدّخرون في سبيل ذلك وسعاً. فيختلقون الأباطيل عن مفاسد الخلافة ويطمسون الحقائق ويزوّرون التاريخ ويبطشون بالدعاة، ويركزون عَبْرَ إعلامهم المضلِّل على فُرقة المسلمين وضعفهم، وعلى إمكانيات الكفار وقواهم الهائلة. ويجعلون من بعض عملائهم الذين رفعوا شعارات إسلامية للتضليل، وأوقعوا المسلمين في هزائم وتراجعات، يجعلون منهم نماذج بارزة وقيادات تحريف للإسلام وانحراف بالمسلمين، ما يساعدهم على تيئيس المسلمين وإشاعة أجواء الإحباط.

         وإذا تمكن اليأس من قلوب بعض المسلمين فسينصرفون عن هذا العمل ولن يعملوا على إقامة الدولة الإسلامية.

         ولما كانت النصوص الشرعية دالّة على عودة دولة الإسلام وسلطانه وعزه، فإن المسلمين يصدّقون بهذه العودة، ولكنا نلاحظ في الذين تمكن منهم اليأس أنهم يقولون إن هذا ليس في عصرنا، ولكن بعد مئات السنين أو بعد أجيال أو عندما يأتي المهدي… وهذا بدوره يساهم في الإحباط، وتروّج له الأنظمة بإعلامها وعملائها، ومن هؤلاء العملاء علماء السلاطين ومفتو الأنظمة، وعلماء الشاشات التلفزيونية المعتمَدون من هذه الأنظمة، الذين يوجهون أو يضللون المسلمين للاهتمام بشؤونهم الخاصة وبعباداتهم فقط. أما الدولة الإسلامية فهي مِنّة من الله تأتي عندما يريد دون عمل من الناس، وأما معاداة الأنظمة اليوم فهي من قبيل الجهل أو الإرهاب. ومن هؤلاء أيضاً (العلماء!) أو الحركات التي تزعم أنها إسلامية، وتقوم بأعمال التأييد للأنظمة والسكوت على منكراتها، وتقدم لها الولاء وتتظاهر بالمعارضة في أمور تافهة، وتسوِّغ أعمالها بحجج مثل المصلحة، أو العجز والواقعية، وبذلك كله، وبغيره، ينحرف المسلمون عن فكرة الدولة الإسلامية والعمل لإيجادها ويرضون ببدائل تزيد الضلال ضلالاً، والضعف ضعفاً وتضيف إلى الهزائم هزائم جديدة.

         ولذلك لا بد أن يدرك المسلمون حقائق الواقع وحقائق الشرع، وأن يَزِنوا كل فكر أو منهج أو رأي أو رجُل بميزان الحق.

         إن تطبيق الإسلام وحمل دعوته فرض. وهذا غير ممكن إلا بكيان سياسي يؤمن به ويطبقه ويمنع من الخروج عليه أو الانتقاص من سيادته. أضف إلى ذلك أن وجود هذا الكيان هو جزء من أحكام الإسلام. وقد حرم الإسلام تطبيق أي نظام أو قانون غير مأخوذ من الإسلام، وجعل ذلك احتكاماً إلى الطاغوت. والرضى به كفر. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً) (النساء).

         والأنظمة القائمة اليوم في العالم الإسلامي كلها من المنكر، بل هي رأس المنكر. ويجب شرعاً هدمها وإزالتها لتقام على أنقاضها الدولة الإسلامية، دولة الخلافة، التي هي دولة واحدة لكل المسلمين في العالم، قال صلى الله عليه وسلم: «من خلع يداً من طاعةٍ لقيَ اللّهَ يومَ القيامة لا حُجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية» (رواه مسلم)، وقال أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه»، وقال: «إنه ستكون هَنات وهنات، فمن أراد أن يفرق هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» (رواهما مسلم وأبو داود والنسائي).

         وتطبيق الإسلام وحمل دعوته لا يمكن إلا بقوة تؤمِّن سنداً وحماية للتطبيق والدعوة. ومجموع الكيان السياسي الذي يطبق الإسلام مع القوة التي تحافظ عليه وتحميه هو الدولة.

         فالدولة الإسلامية هي الكيان السياسي الذي يقوم بتطبيق الإسلام في الداخل، ونشره في العالم عن طريق الدعوة والجهاد. أي أن الدولة الإسلامية هي الكيان التنفيذي لإقامة الدين الإسلامي كاملاً. ولذلك فإيجاد الدولة الإسلامية يعني بإجمال إيجاد أمرين:

         الأول: إيجاد رأي عام يسوده الإيمان بالإسلام ويمتلك وعياً عاماً على وجوب الالتزام به وتطبيقه وإيجاد دولته وحمايتها.

         والثاني: إيجاد قوة أو سلطة تحقق تطبيق الإسلام وحمايته وتمكينه من نشر دعوته في العالم.

         وهذان الأمران هما محور العمل الإسلامي الجاد لإقامة الدولة الإسلامية، وهما محور الصراع مع الكفر وأنظمته وزبانيته.

         ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه لا يمكن العمل على إيجاد القوة لتطبيق الإسلام قبل إيجاد وعي عام عليه في المجتمع، وأجواء له واستعداد لتطبيقه. وكذلك لا يمكن إعلان دولة إسلامية قبل وجود رأي عام إسلامي يريد وجودها ويدعمه، ويراها حقاً وواجباً وحلاًّ صحيحاً لواقعه وقضاياه. ولا يقال إن المسلمين موجودون وهم الأمة الإسلامية قاطبة وعقيدتهم إسلامية، لأن المطلوب أن يكونوا مسلمين واعين على الإسلام، غير مضللين بشأن وجوب تطبيقه أو وجوده السياسي أو شكل هذا الوجود. فإذا كان المسلمون ينادون بوطنياتهم أو قومياتهم أو بفصل الدين عن الحياة أو بالديمقراطية… وينخدعون بحكامهم أو بأنظمتهم أو بعلماء السلاطين أو ما شابه ذلك، فهم بذلك غير جاهزين ومخدوعون بأباطيل تفقدهم طاقتهم الإسلامية الروحية الهائلة.

         فإذا وُجِدَ الوعي العام الصحيح بشأن إقامة الدولة الإسلامية، وصار استئناف الحياة الإسلامية ووجود الدولة الإسلامية مطلباً للمسلمين، وجب حينئذٍ إيجاد القوة التي يُقام بها كيان دولة الإسلام، ويُزال سند الكفر وقوته، ويطبق الإسلام.

         وهذا يعتمد على مدى انتشار الفكرة الإسلامية، وفكرة وجود دولة تطبقها. وهذا يحتم على حَمَلَة الدعوة للإسلام، أي لإيجاد دولة الخلافة، أن تكون أفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم متعاونة في كافة أنحاء العالم، والعالم الإسلامي بشكل خاص، والعالم الذي يحضِّرون لإقامة دولة الخلافة فيه بشكل أخص. وهذا بدوره يوجب وجود حزب سياسي إسلامي يجعل إقامة الدولة الإسلامية أي الخلافة، هدفاً له، ويتخذ أفكاراً وأحكاماً شرعية موحدة له، ويعمل لإيجادها في الأمة وإيجاد وعي عام عليها وأجواء لها، ويجب أن يستمر في ذلك ليجعلها مفاهيم ومطلباً للأمة الإسلامية وخاصة في المجال أو الأماكن التي يحددها لتكون نقطة ارتكاز للدولة الإسلامية.

         أما الأمر الثاني وهو القوة الانقلابية وإمكانياتها، فإنه يشترط فيها القدرة على حماية تطبيق الإسلام من الداخل والخارج واستمرار هذا التطبيق. وبمقدار النجاح في تحقيق الأمر الأول يكون النجاح في تحقيق الأمر الثاني.

         وهذا كله ليس مستحيلاً كما يصوِّر شياطين الأنظمة وأسيادهم وعملاؤهم، بل إن معظم هذه الأنظمة الكافرة الموجودة لم تصل إلى الحكم إلا عن طريق انقلابات أو قوى عسكرية فرضت نفسها على الناس، والفارق فيها أنها لم تكن تعتمد على أفكار المواطنين وقواهم، وإنما كانت، وما زالت، تستند إلى قوى دول كافرة استعمارية. ولذلك فأمثال هذه الدول الطاغوتية لم تحتجْ إلى عمل سياسي في الأمة لتحميلها أفكاراً ما، لأنها استندت إلى قوى من خارج الأمة فكانت عميلة وخائنة. أما الدولة الإسلامية فتستند إلى قوى المسلمين، ولذلك وجب العمل السياسي لتحميل الأمة الفكر الإسلامي الذي يدفعها لتقديم الولاء للخلافة والتضحية في سبيلها. وحتى تكون الدولةُ إسلاميةً حقاً وتمتلك إرادتها، فيجب أن يكون المسلمون هم مصدر قوتها وأداة حفظها وحمايتها.

         ونكرر القول: إن الدولة الإسلامية هي كيان تنفيذي للإسلام. ولا يمكن تنفيذ شيء في الدنيا إلا بقوة قادرة على ذلك. ولإيجاد هذه القوة قد تتعدد الآراء. والواقع أنه قد كثرت التجارب، منها الساذج ومنها غير ذلك، ومنها المخلص ومنها غير ذلك. والضروري المحتَّم أنه لا بد من الاعتناء بهذا الأمر والتفكير فيه بإخلاص وصدق مع دوام التمسك بالهدف من إيجاد هذه القوة. فليس المطلوب، مثلاً، إيصال حزب أو حركة أو جماعة أو رجل إلى الحكم، وإنما المطلوب هو إيصال الإسلام إلى الحكم وتطبيق الإسلام، والحكم بما أنزل الله، وإقامة الدين الإسلامي كاملاً من غير تحريف أو تنازل بحجة الظروف أو التطوير أو التجديد أو ما شاكل.

         والعمل لإيجاد هذه القوة، وهو الأمر الثاني، يعني الحصول عليها من مصادرها ومواقع وجودها المختلفة في الأمة، ودفعها بالعقيدة وبأفكار الإسلام لتكون خادمةً للإسلام وتطبيقه وحمل دعوته. فلا تُطلَب هذه القوة حيث لا توجد، فلا تطلب من المستضعفين من المسلمين، ولا يُركن في ذلك إلى أعداء الإسلام والمسلمين أو الخونة ومواضع الريبة.

         هذا البحث عن القوة وطلبها لتكون خادمة لتطبيق الإسلام وخاضعة لأحكامه هو ما يسمى طلب النصرة. وهو يعني القيام بتغيير انقلابي وتطبيق الإسلام في المجال الذي يحصل فيه إعطاء النصرة تطبيقاً كاملاً شاملاً.

         وهذا الطريق عملي وفعَّال، ولا سبيل غيره شرعاً، ولا سبيل غيره عملياً، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبه أعلن الدولة الإسلامية. أما كيفية إيجاد هذه القوة أو النصرة، وكيفية حصول النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وهو جانب أهمله المسلمون بفعل تضليل الأنظمة وعملائها وبخاصة (علماء) السلطة ووعاظ السلاطين، فهذا ما سنبينه بالتفصيل في الحلقة التالية إن شاء الله.

         قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور/55).

         وقال عزَّ من قائل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص/6،5) .

محمود عبد الكريم

(هذا المقال كتب قبل عدوان أميركا على أفغانستان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *