العدد 179 -

السنة السادسة عشرة ذو الحجة 1422هـ – آذار 2002م

كلمة الوعي: هذا الحج، فأين أميره؟

يحل موسم الحج هذا العام، والمسلمون تشغلهم همومهم في دينهم وما نزل بهم من مآسٍ ونكبات ما زال بابها مفتوحاً. ويذهب ملايين المسلمين الحج حاملين معهم هذه الهموم ليشكوا بثهم وحزنهم إلى الله، ليقفوا أمام باب الملتزم حيث لا يرد الله دعوة عبد وقف ببابه واحتمى بجنابه، يذهب المسلمون ولا يغيب عن بالهم إجرام أميركا بحق المسلمين في أفغانستان وفي كل مكان، ولا إجرام اليهود في فلسطين الذي غطى بحقده على كل إجرام، ولا إجرام الروس بحق مسلمي الشيشان، ولا إجرام الهندوس، عبدة البقر، بحق مسلمي كشمير… يذهب المسلمون ليشكوا إلى ربهم حكامهم الذين يشايعون أعداء المسلمين عليهم والذين يظاهرون الغرب واليهود والروس والهندوس في محاربة من يدعون إلى الإسلام… يذهبون إلى الحج ولا ينسون برويز مشرف كيف ساعد أميركا وقدم لها كل ما تحتاجه ضد المسلمين في أفغانستان، وفي باكستان، وفي كشمير، وقدم التنازل تلو التنازل حتى لم يبق له من عرق الكرامة شيء يبذله. ولا ينسون حكام المسلمين في تعاملهم مع مشكلة مسلمي الشيشان على أنها مشكلة داخلية، وتركوا للروس أن يرتكبوا بحقهم أبشع المجازر. يذهبون وفي ذهنهم ماثلة خيانات حكام المسلمين العرب بحق مسلمي فلسطين، الذين لا يحركون ساكناً ضد ما يرتكب اليهود يومياً من جرائم، بل إنهم يمنعون المسلمين من أن يتحركوا. يذهبون وقلوبهم كسيرة وأيديهم قصيرة وألسنتهم تلهج ودموعهم تذرف سائلين الله أن يكشف ما بهم من عذاب وذل، ويفك عنهم هذا العقال، ويزيح عنهم هذه الهموم، ويريحهم من حكامهم.

  نعم يجتمع المسلمون في الحج وهم على هذه الحال، بدل أن يجتمعوا على أمير يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم ويصلون عليه، يخطب فيهم وينصح لهم كما كان الحال مع الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته بعرفة في حجة الوداع، وكما كان الحال مع الخلفاء حيث كانوا يجتمعون مع ولاتهم يستطلعون منهم أحوال الرعية ويطمئنون إليها، وحيث كانوا يستمعون إلى شكاوى المسلمين ضد إساءات بعض الولاة أو العمال ليقتص الخليفة منهم…

  لقد تبدلت أوضاع المسلمين وصاروا محرومين من خليفة يسوسهم بالحق ويحكمهم بالعدل ويبلغهم مبالغ العز بالجهاد… وصاروا محكومين بحكام غير شرعيين يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لهم، نصبوا أنفسهم على رقاب المسلمين وجرعوهم غصص الظلم والذل وجعلوهم أدنى الأمم وخذلوهم… فصارت الأمة تلعنهم وتبغضهم وتتمنى الخلاص منهم… وهاهم قد أتوا إلى الحج وفي مقدمة اهتماماتهم أن يشكوهم إلى الله ويدعوا عليهم ليريحهم من شرورهم.

  إن الحج من شعائر الله التي تجمع المسلمين كلهم على صعيد واحد، وتتجلى فيه وحدة المسلمين بكثير من المظاهر: وحدة في الشعائر، ووحدة في المشاعر، ووحدة في الهدف، ووحدة في الحال، فلا إقليمية ولا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، فالرب واحد، والدين واحد، والقبلة واحدة والأمة واحدة مهما غرس الكفار بينها من عوامل التجزئة لتفريقها، ومهما نصبوا عليها من حكام ظلمة لا يرعون فيها إلاً ولا ذمة.

  إن في الحج لمعاني عظيمة إذا استلهمها المسلمون فإنها تغير واقعهم وتحولهم من أمة شاكية باكية إلى أمة يعقد الله على يديها خير البشرية جمعاء. إن شعائر الحج التي ذهب المسلم ليعظمها مرتبطة بمناسباتها التي كانت سبباً في تشريعها. وما لم يستلهم الحاج معاني الحج ويعيش في أجواء مناسباتها ويربطها بالأجواء التي يعيش فيها فإن مناسكه لا تعدو أن تكون أقوالاً وأفعالاً تسقط الفرض ولكنها لا تأتي بالأجر.

  إن شعائر الحج ومناسكه تذكر المسلم بعظيم قدرة الله، وتذكرُهُ بالآخرة، وتذكره بالقيام بأمر الله في الدنيا والعمل لإعزاز دينه، والتضحية في سبيله، والسعي في رضاه، والتوكل عليه وحده، والثقة بجميل وعده، وبعبارة موجزة إن الحج يربط الدنيا بالآخرة برباط الطاعة لله واللجوء إليه وحده في كل أمر، واستغفاره والتوبة إليه من كل ذنب، وسؤاله بتذلل يسقط دموع الخوف من عذابه، ويستجيب إليه وهو يطمع بجنانه.

  نعم إن شعائر الحج كلها تدفع لعبادة الله والوقوف قي هذه الحياة موقف الحق والصدق، فمن لباس الإحرام وذكرى الكفن والموت، إلى التلبية والطواف في حركة لا تهدأ للتذكير بالدوران مع الإسلام حيث دار. وهكذا السعي وعرفة والجمار لإزهاق إبليس وجنده، وإحقاق الحق وأهله، ثم الإفاضة والوداع، كل ذلك تؤديه جموع المسلمين، رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، يجتمعون على صعيد واحد ويلبون بصوت واحد: (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).

  هذا هو الحج الذي يؤكد حقيقة الأمة، بأنها واحدة رغم أنف الطغاة الظالمين. هذا هو الحج الذي ترتعد فرائص الكفار من جموع الحجيج وهم يطوفون حول بيت واحد، ويسعون في مسعىً واحد، ويقفون في موقف واحد. لذلك عمد الكفار وعملاؤهم إلى ضرب اجتماع المسلمين في حجهم، بإفقاد هذا الحج حقيقته وقوته ووحدته، في شكله ومضمونه، فكان أول ما صنعوا أن جمعوا كيدهم في حروب ومؤامرات وشراء الذمم والعملاء حتى تمكنوا من القضاء على الخلافة في أوائل القرن الماضي، فأزالوا بذلك قوة جموع الحجيج في مناسك حجهم ومقامهم في بلادهم، حيث كانوا جماعةً واحدةً، بأمير واحد، فأصبحوا جموعاً متفرقةً، تجتمع في الحج، وتتفرق بعده، تحت حكم دويلات ما أنزل الله بها من سلطان، تتصارع فيما بينها أكثر مما تواجه عدوها. ومع ذلك فقد بقي تجمع المسلمين في حجهم، في مكان واحد، يقض مضاجع الكفار وعملائهم، يخشون هذا التجمع في شكله كما يخشونه في مضمونه. لذلك عمدوا إلى كل وسيلة في جعبتهم لوضع العراقيل أمام من أراد الحج، فحددوا نسبته، وتحكموا في أعمار طالبي الحج حتى صار، في كثير من بلاد المسلمين، لا يسمح بالحج إلا لمن بلغ من العمر عتياً، وهم لا زالوا يبحثون عن معوقات للحج ما وسعهم إلى ذلك من سبيل.

  إن الحج شاهد على وحدة المسلمين، وهو يستصرخهم أن يعيدوا لحمتهم، ويقيموا دولتهم، ويبايعوا خليفتهم، ليعودوا جماعة متماسكة قوية، يقودهم خليفتهم، يقيم فيهم أحكام الله، ويجاهد بهم في سبيل الله.

  هذا هو الحج، وهذه عظمته، وهذا هو المطلوب فعله من خلاله، فهل نحن فاعلون؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *