العدد 44 -

السنة الرابعة – جمادى الأولى 1411هـ، كانون الأول 1990م

مصر القروض الأميركية

فيما يلي مقتطفات من مقال كتبه (محمود عوض) نائب رئيس تحرير أخبار اليوم المصرية في جريدة الحياة (03/11/90).

وهو يكشف عن نموذج من الاستعمار الجديد الذي فرضته أميركا وبقية دول الغرب على بلدان العالم الثالث ومنها مصر. يقول الكاتب:

  • قد يكون من أهم المؤشرات السياسية التي جرت أخيراً، تلك المبادرة الأميركية بإسقاط الجزء الأكبر من الديون العسكرية المستحقة على مصر إلى الولايات المتحدة. وبمقتضى تلك المبادرة الاستثنائية في السياق الأميركي يتم إسقاط 7,1 بليون دولار كانت مستحقة على مصر حتى الآن. وكلمة «حتى الآن» هذه أساسية جداً هنا، لأن الدين الأصلي قيمته أربعة بلايين ونصف البليون دولار فقط. لكنه، مع فوائده المرتفعة، كان يتوالد سنوياً بفوائده المركبة بحيث تنتهي مصر من تسديده في سنة 2006. عند ئذ تكون مصر قد سددت للولايات المتحدة واحداً وعشرين بليون دولار، وهكذا فإن ديناً صغيراً ومحدوداً كان يتحول في الواقع ـ وبهدوء تام ـ إلى خمسة أمثاله من دون أن تستطيع مصر الاعتراض، أو حتى التوقف عن الدفع، خشية الفضيحة الكبرى التي ستسوقها إليها الخزينة الأميركية.

فهذا الدين العسكري المصري المستحق للويات المتحدة يمثل ثلاثة قروض تمت في سنوات 1979 ـ 1981 لتمويل بيع أسلحة أميركية إلى مصر. وفي ذلك الحين لم تعلن أبداً شروط تلك القروض، وعلى العكس تماماً جرى التبشير بأنها دليل ثقة من «العالم المتحضر» في مصر وقياداتها وسياساتها. والآن فقط نعرف أن تلك القروض تمت بفائدة مرتفة تماماً (12 ـ 14 في المئة) وأن مصر ظلت تسدد للولايات المتحدة نحو ألففي ومئتي مليون دولار سنوياً عن الدين وفوائده، بما يعني في الواقع أن أصل الدين قد تم تسديده فعلاً، وأكثر. لكن الأغرب من ذلك أنه كان من شروط هذا الدين أن تستمر مصر في تسديد الأقساط حتى سنة 2006 وأن الولايات المتحدة ترفض قيام مصر بتسديد المبلغ قبل هذا التاريخ إلا في حال واحدة هي قيام مصر بتسديد واحد وعشرين بليون دولار دفعة واحدة، بحجة أن هذا هو الرقم الاجمالي المستحق في نهاية المدة.

ربما من أجل هذا نستطيع أن نفهم مجموعة ظواهر تم إغراق مصر فيها طوال الخمس عشرة سنة الأخيرة على الأقل. مظاهر تبدأ لفتح باب الاقتراض الخارجي من دون ضوابط، إلى محاولة إدخال جرثومة الطائفية في مجتمع مصري لم يعرف الطائفية مطلقاً، إلى إفتعال الخصومة بين العروبة والاسلام، إلى شركات توظيف الأموال، إلى المطالبة بهدم السد العالي وتفكيك الصناعات الكبرى، إلى الدعوة لربط مستقبل مصر ورغيف خبزها بمدى تدفق السياح الأجانب بدلاً من ربطه بتنمية حقيقية.

ولعل الموجز هنا لهذا كله هو أن إجمالي ديون مصر الخارجية حتى 1975 لم يكن يتجاوز 2,2 بليون دولار. تلك هي كل مديونية مصر الخارجية على الرغم من حرب 1967 وحرب الاستنزاف وحرب تشرين الأول (أكتوبر)، وعلى الرغم من بناء السد العالي ومجمع ضخم للألمينيوم وعشران الصناعات الأساسية الأخرى. الآن ـ في سنة 11990 ـ أصبحت مديونية مصر الخارجية نحو خمسين بليون دولار، على الرغمن من معاهدة صلح مع إسرائيل وإيرادات قناة السويس والبترول والعاملين المصريين في الخارج وبليونين من الدولارات تحصل عليها مصر سنوياً من الولايات المتحدة تحت عنوان «معونة» اقتصادية وعسكرية.

إنها إذن مفاقة كبرى، إذ أصبحت سنوات انكفاء مصر على ذاتها هي بذاتها سنوات القروض الخارجية والمديونية التي تقفز حمساً وعشرين مِثْلاً ولا تبدو في الأفق نهاية لها أو حتى تجميد لأعبائها.

والآن تبادر الولايات المتحدة بإسقاط الدين العسكري المصري المستحق لها في سياق تعامل أميركي شامل مع المنطقة يأتي في أعقاب الغزو العراقي للكويت. فهل تعتر هذه الخطوط المهمة عن رؤية أميركية جديدة لدور مصر، أو أنها مجرد جملة اعتراضية تعد بعدها السياسة الأميركية إلى مواقفها السابقة؟

لم يكن هذا ديناً، بل كان عقد إذعان، ولم يكن تعبيراً عن أي وثقة في مصر وسياساتها واقتصادها ولكن سلاسل حديدية تم بها تقييد مصر لسنوات طويلة تالية، في وقت سيطر فيه على السياسة الأميركية اتجاه يعتبر أن اضعاف مصر ومحاصرتها يمثل مصلحة أميركية كبرى في هذا الجزء من العالم، تلك هي الحقيقة مجردة بلا رتوش. فإذا كانت الولايات المتحدة تبادر الآن بإسقاط هذا الدين العسكري على مصر، فهل هذا يعني تغييراً جذرياً في تلك السياسيات المستمرة من الماضي، سياسات تحجيم وإضعاف مصر؟□

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *