القومية والإسلام
1990/02/07م
المقالات
7,060 زيارة
مجلة (العالم) الصادرة في لندن باللغة العربية، نشرت في عددها رقم 309 (14 جمادى الثانية 1410هـ ـ 13 كانون الثاني 1990م) مقالاً للسيد عبد الحميد أبو علي بعنوان: الحدود الفاصلة بين العروبة والإسلام. ولأنه مقال قيّم رأت (الوعي) اطلاع قرائها على القسم الأهم منه. وهو فيما يلي:
إن القرآن لم يرفض الانتماء القومي من حيث كونه انتماء طبيعياً ورابطة قربى ونسب وعواطف مستقيمة، كلا فالإسلام أوصى بالقربى وجعل صلة الرحم من الواجبات المهمة: ]وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ[ ولكن حتى صلة الرحم هذه اشترط لها القرآن ألا تتعارض مع الرابطة الأقدس، قال تعالى: ]وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا[ وقال تعالى: ]وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ[.
نعم لم يرفض الإسلام الانتماء القومي الطبيعي والميل إلى القوم بالحب ولكن عندما يتعدى الشعور القومي وراء ذلك ليكون مبدءاً يحرك الإنسان ويحدد توجهاته ويتحكم بعواطفه الأخرى، عند هذا يعلن الإسلام معارضته الشديدة لهذه الروابط بل يعلن الحرب ضدها، حرباً لا تعرف المساومة أو التسامح، بل تصل إلى حد البراءة. ففي الحديث الشريف: «ليس منا من دعا عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية» وفي حديثه r عن هذه القيم قال: «دعوها فإنها منتنة». كما أنه r أول ما أراد في قوله: «كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي» إنما أراد هذه المفاهيم لأنها تمثل قوام الجاهلية وأساسها الأول… بل أن الإسلام ذهب أكثر من هذا في محاربته هذه القيم عندما نهى بشدة حتى عن التفاخر بالآباء والأعراق وقد عدّ ذلك من الجاهلية. وقد حرم الإسلام أن يكون التفاضل بين الناس على أساس انتمائهم القومي أو العنصري وهذا من بديهيات الإسلام التي لا يختلف فيها اثنان والنص القرآني في ذلك صرح: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[. وفي الحديث المشهور في خطبة الوداع: «كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».
ومعلوم جداً أن الإسلام قد حارب ما هو أقل من هذا بكثير، حارب حتى الموقف الواحد الذي يتخذه المرء لا في خدمة مبدأ قومي عنصري بل ولو متأثراً فقط بتلك المفاهيم، فقد واجه النبي r الصحابي الذي يصدر منه مثل هذا بقوله: «إنك امرؤ فيك جاهلية».
وخلاصة القول هنا أن الإسلام الذي جاء ليهدم كل المعتقدات الواهية قد حارب المفاهيم القومية والعنصرية كما حارب الوثنية، فالإسلام في بعده الإنساني لا يمكن أن ينسجم مع القومية التي هي على حقيقتها ليست سوى عشائرية ولكن بدائرة أوسع. فالعشيرة تمثل حلقة قطرها 50 كلم مثلاً والقومية حلقة قطرها 1000 كلم، أما المفهوم فهو ذاته والحقيقة هي نفسها وما الصياغات الجديدة التي تستحدثها القوميون إلا محاولات لإقناع النفس الكبيرة بمفهوم ضيق ولإسكات العقل المتفتح الذي يتطلع دوماً لما هو أوسع.
القومية والإسلام
استفاد القوميون العرب خاصة من و جود الروابط المهمة بين العروبة والإسلام والمتمثلة في عدة جوانب منها: أن نبي الإسلام عربي وأن شريعة الإسلام جاءت باللغة العربية وأن أجزاء أساسية في أهم العبادات لا تتم إلا باللسان العربي، وأن العرب هم الذين حملوا الإسلام إلى الأمم الأخرى وقادوا أدوار التاريخ الإسلامي الأولى سواء في بلاد العرب أو خارجها. من هذه العوامل استفاد القوميون العرب خاصة في تدعيم نظرياتهم القومية وإغراء الناس بدعوى عدم وجود تناقض بين فكرة القومية العربية والإسلام بل أن هناك عوامل اتحاد وانسجام تجعل من الصعب فصل أحدهما عن الآخر. وبهذه الدعوى استطاعوا أن يحققوا مستوى من النجاح في البلدان العربية، وراح بعضهم إلى أبعد من هذا حيث استغل هذه الأرضية مضافاً إليها بساطة الناس وقلة وعينهم في حقائق الأمور ليصور لهم أن الدعوة إلى القومية ليست إلا خطوة في طريق الوحدة الإسلامية الكبرى وأن وحدة القوميات هي القناة التي لا بد للوحدة الإسلامية الشاملة أن تمر خلالها.
من أجل هذا فقد أصبح الكشف عن الحدود الفاصلة بين القومية بشكل عام والعروبة بشكل خاص وبين الإسلام أمراً لازماً… نتناول هنا حقيقة المواقف القومية من الإسلام والوحدة الإسلامية، فكراً وعقيدة وتنفيذاً موجزة بالنقاط التالية:
1- إن الهدف الأساسي في خلق الحركات القومية كان تفتيت الوحدة الإسلامية إسقاط الوجود السياسي للإسلام، فقد أسست هذه الدعوات في وقت كانت فيه أغلب الشعوب الإسلامية متصلة ومتحدة فمزقتها باسم القومية. ومما جاء في أحد منشورات حزب تركيا الفتاة: “أن هذه البدعة الخيالية المخيفة التي يسمونها الأمة الإسلامية التي ظلت إلى حد طويل سداً يحول دون التقدم بوجه عام ودون تحقيق الوحدة الطورانية بوجه خاص هي في طريقها إلى التفكك والزوال”… وأما القومية العربية فإن لورانس (الذي كان يقود حركة الشريف حسين التي تسمى الثورة العربية الكبرى) يقول عنها: “لقد كنت أؤمن بالفكرة العربية إيماناً عميقاً وكنت واثقاً قبل أن أحضر الحجاز أنها هي الفكرة التي ستمزق تركيا شذر مذر” (وتركيا تعني دولة الخلافة الإسلامية آنذاك) علماً أن هذه (الثورة العربية) لم تكن تمثل طموحات الشريف حسين ولورانس وحدهما بل كانت تمثل طموحات القوميين العرب كلهم، فقد جاء في المادة 9 من دستور حزب البعث: “أن راية الدولة العربية هي راية الثورة العربية التي انفجرت عام 1916 لتحرير الأمة العربية وتوحيدها“. وهذا وحده يكفي لإثبات صحة المقولة: (إن الاحتجاج بالعروبة عداء للإسلام).
2- ما هو موقف الأيديولوجيات القومية من الإسلام؟ هل تناصره أم تحايده أم تعارضه وتعاديه؟ يقول خلدون ساطع الحصري: “إن الاشتراكية والقومية العربية علمانية تهدف إلى الفصل فصلاً قاطعاً وحاسماً بين الدولة والدولة”. ويقول ميشال عفلق في كتابه (في سبيل البعث): “إن الإسلام لا يصلح لأنه يفرق بين الشعوب”. ويقول اليأس فرح: “أن نظرة حزب البعث للحياة وللدولة هي نظرة علمية ومنهجية لا تؤمن بالفكر الغيبي“. وحتى الجهال يفهمون أن إنكار الفكر الغيبي يعني عدم الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه ووحيه واليوم الآخر.
وأما نجيب عازوري فكان يأمل في ضم مكة والمدينة المنورة في ولاية واحدة يترأسها حاكم ديني ويقول: “وبهذا التدبير تكون قد حلت المعضلة الكبرى أعني فصل الدين الإسلامي عن الدولة”. وأما أتاتورك فغني عن التعريف ذلك الوحش الذي يهيجه كل شيء يمت إلى الإسلام بصله.
هذه هي عقيدة القوميين بالإسلام والتي خلاصتها كفر صريح بأصوله وفروعه وأهدافه.
3- حيث تأسست الحركات القومية التركية والعربية لم يظهر بين مؤسسيها وزعمائها زعيم واحد من أصل تركي أو عربي أو إسلامي فالقومية التركية التي لم يكن أحد من قادتها تركياً ولا مسلماً، قد نشأت في ولاية سلانيك حيث تتمركز الأقلية اليهودية، والقومية العربية هي الأخرى التي ليس من قادتها من له أصل عربي أو إسلامي نشأت في لبنان حيث تتمركز الأقلية المسيحية. وكيف لا يسعى هؤلاء لتأسيس دولة قومية لا علاقة لها بالإسلام فهل كانت قلوب هؤلاء السادة! تبكي على الإسلام أم هي تئن للعروبة!؟
4- إن إحياء القوميين اليوم لتراثهم الجاهلي هو إفصاح آخر عن حقيقة بعدهم عن الإسلام. فالفارسي الذي يعيد أمجاد كسرى وجمشيد والآسيوي الذي يفاخر ببطولات هولاكو وجنكيز خان والعربي الذي يبحث عن هويته في بقايا حمورابي ونبوخذ نصر، إن لم يكن في أهدافهم سوى اخفات لمعان وعظمة المجد الإسلامي الذي يعتز به المسلمون في كل مكان، لكان كافياً لطرحهم وراء حدود الإسلام.
أما المصيبة فهي مصيبة من تعلم إسلامه من هؤلاء واكتفى به ديناً فهذا هو الذي لا يجد تعارضاً بين دينه وما يحمله من المبادئ القومية بطبيعتها وأصولها وأهدافها التي مر ذكرها.
وبهذا يمكن الخلاص إلى حقيقة أن القومية التي طهرها الإسلام من جاهليتها إذا انسلخت عن الإسلام فقد (عادت عجوزاً غير ذات خليل ـ شمطاء جزت شعرها وتنكرت ـ مركونة للشم والتقبيل).
وأما عندما تبلورت بصيغة مفاهيم قومية فقد أصبحت الوجه المعادي للإسلام والذي طعن الإسلام من الداخل. فهي أشد خطراً على الإسلام والمسلمين من العدوان الخارجي شرقياً كان أو غربياً
عبد الحميد أبو علي
1990-02-07