العدد 34 -

العدد 34 – السنة الثالثة – رجب 1410هـ الموافق شباط 1990م

ماذا يحدث في روسيا

عندما قامت الثورة الشيوعية سنة 1917 بقيادة لينين كان الشيوعيين يظنون أن صراع الطبقات سيلغي صراع القوميات، وكانوا يتوقعون عن طبقة العمال سواء كانوا مسلمين أم نصارى، أتراكاً أم أرمن، أم غير ذلك من القوميات، كانوا يتوقعون أن طبقة العمال ستكون موحدة في وجه طبقة الرأسماليين وهكذا يحلون مشكلة القوميات بالطبقية العمالية وبفكرة الأممية.

ومات لينين وجاء خلفه ستالين الذي أدرك أن الطبقية لا تحل مشكلة القومية، فتعامل مع القوميات التي تتحرك بالعنف والكبت من جهة، وبنظرية (فرق تسد) من ناحية أخرى.

(قام استالين بترئيس شعوب الاتحاد السوفياتي وإعادة رسم الحدود بين الأعراق بشكل كيفي قسري مشجعاً النزعات التسلطية لدى البعض ومتطاولاً على حقوق البعض الآخر. وتمكن عن هذا الطريق من أن يمسك بالخيوط التي تشد موسكو إلى العواصم القومية. وعمدت السلطة الاستبدادية التي تبشر بالصداقة الأخوية بين الشعوب إلى دمج الزعماء المحليين في هرم السلطة الذي تصل قمته إلى الكرملين. ومورس التنكيل البشع ضد شعوب بأكملها كانت ترحل في ليلة سوداء إلى مناطق تبعد آلاف الكيلو مترات عن ديارها) [من تحقيق في جريدة الحياة 27/1/90].

ومع الوقت تراخت القبضة الحديدية التي أرهب ستالين بها شعوب الاتحاد السوفياتي، وتفشت في المجتمع الروسي ظواهر الفساد والرشوة، وأصبحت بلاد الاشتراكية في عهد بريجينيف في السبعينات منقسمة إلى أقلية تتمتع بالامتيازات والثراء وأغلبية مسحوقة: مسحوقة بحرمانها من الثروة ومسحوقة بحرمها من السلطة، وباشغالها بالمشاكل العرقية.

وجاء غورباتشوف وهو يرى ظواهر الفساد، وتناحر الأعراق، وعوامل التفجر التي تهدد الإمبراطورية السوفياتية والاشتراكية بالانهيار. وفكر بالإصلاح ولكن (ماذا تفعل الماشطة بالوجه البشع)، (وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر)، كما تقول الأمثال.

قال غورباتشوف بالسماح بشيء من الملكية والحرية الاقتصادية كحافز على الإنتاج. وقال بالانتخابات الحرة من أجل تسكين ثورة الشعب المطالبة بالحريات. وألغى مبدأ بريجينيف الذي ينص على حق روسيا في التدخل العسكري عند اللزوم في أية دولة من دول الكتلة الاشتراكية. وسمح لدول الكتلة الاشتراكية أن تجعل الحكم فيها ائتلافياً بين عدة أحزاب بدل أن يكن حكراً على الحزب الشيوعي. وسمح بممارسة الشعائر الدينية. ووعد بالسماح للجمهوريات السوفياتية بالاستقلال عن موسكو بطريقة مدروسة.

ويظن غورباتشوف أنه يستطيع حل المشاكل من حوله. ولكن هيهات. وهنا نحن نسمع إشاعات بأنه السوفياتي كي يتفرغ لمنصبه كرئيس للدولة. وربما كان هذا مقدمة لإدخال التعددية الحزبية إلى الاتحاد السوفياتي.

إن ما يحصل الآن في روسيا هو محاولة من غورباتشوف وفريقه لإنقاذ دولة الاتحاد السوفياتي من التفتت، وإنقاذ الاشتراكية من الزوال، وإنقاذ المعسكر الاشتراكي من الانهيار. وهذه المهمة ليست سهلة.

ويبدو أن أميركا وبعض دول أوروبا الغربية تساعد غورباتشوف في محاولته لأنها تخاف من عواقب تفتت الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الاشتراكي.

وليس من الحكمة الاستعجال والقول بأن دولة الاتحاد السوفياتي تفككت. فها هي أعلنت حالة الطوارئ في أذربيجان وأرسلت قواتها لمنع الانفصال. ومنعت لتوانيا من الانفصال ووعدتها بسن قانون لمنح الاستقلال لمن يشاء ضمن شروط.

والمعسكر الاشتراكي ما زال موجوداً، فها هو حلف وارسو ما زال قائماً كما هو، وها هي منظمة الكوميكون ما زالت قائمة، وإن كانت الاقتراحات وردت من أجل إدخال التعديلات.

وبخصوص الاشتراكية، كمبدأ، ليست هي المرة الأولى التي تصطدم فيها مع الواقع، بل هي اصطدمت بالواقع حين تحولت بعض الدول مثل الصين من الإقطاعية إلى الاشتراكية دون أن تمر بالرأسمالية كما يفترض كارل ماركس، فرقعوا ذلك بعبارة (حرق المراحل). واصطدمت بالواقع حين نشرت الشيوعية عن طريق الاحتلال والضم كما حصل حين ضمنت دول أوروبا الشرقية في الحرب العالمية الثانية وليس عن طريق انتصار الطبقة العمالية، واصطدمت بالواقع حين تراجعت عن منع الملكية الفردية في كثير من الحالات، واصطدمت بالواقع حين لم تستطيع إذابة القوميات والعرقيات بالطبقية. وفي كل مرة كانوا يجدون الترقيعات التي يستترون بها عيوب الاشتراكية. وكانوا يغضون النظر عن هذه العيوب.

والآن ليس من الصعب عليهم أن يجدوا الترقيعات التي يرضون بها أنفسهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *