العدد 55 -

السنة الخامسة – العدد 55 – ربيع الآخر 1412هـ الموافق تشرين الثاني 1991م

غرض أميركا من النظام العالمي الجديد

من محاضرة ألقاها الدكتور محمد نائل عبيدات في نادي كفرسوم ـ الأردن في 28/07/1991

سقطت القسطنطينية سنة 1453م على يد السلطان محمد الفاتح بعد خطة بحرية لم يسبق لها مثيل، لتتحقق فيه البشارة النبوية: «لتفتحنّ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش» ثم تقدمت جيوش الدولة العثمانية الإسلامية لتحتل بعد فترة وجيز أجزاء من أوروبا حتى وصلت إلى أسوار فينا عاصمة النمسا. وقد اعتبرت أوروبا أن هذا السقوط كارثة ما بعدها كارثةن فأرّخت بها، فاعتبرت أن سنة 1453م كانت نهاية العصور الوسطى، وبداية العصور الحديثة. وبدأت أوروبا النصرانية تتكتل لتقف في وجه هذا الزحف الاسلامي، ونجحت في ذلك. وكونت ما سمي في حينه «الأسرة الدوليةالأوروبية»، والتي كان هدفها كيفية إيقاف هذا الزحف. واشترك في هذه الأسرة، بداية، دول أوروبا الغربية، ثم انضمت إليها باقي الدول النصرانية في أوروبا وخارج أوروبا، وكاناول مؤتمر يعقد وتوضع فيه قواعد ما سُمي بالقانون الدولي هو مؤتمر وستفاليا سنة 1648، فهو الذي نظم القواعد التقليدية للقانون الدولي، وبناء على قواعده هذه وجدت الأعمال السياسية بشكل متميز، ووجدت الأعمال الدولية الجمايعة، أي أن أصل القانون الدولي بداية كان ضد الدولة العثمانية الإسلامية.

وقد كونت بعض الدول بعد الحرب العالمية الأولى نظاماً دولياً، كانت مهمته الأولى تقاسم أملاك الدولة العثمانية الاسلامية، فكانت عصبة الأمم فصارت الدول الاستعمارية تستعمر بلاد المسلمين باسم عصبة الأمم، وتحت اسم الانتداب أو الوصاية. والملاحظ أن ألمانيا هي التي دخلت الحرب أولاً ضد الحلفاء، ثم دخلت الدولة العثمانية الحرب، ولكن المنتصرين في الحرب قسموا الدول العثماينة، ولم يمسوا وحدة ألمانيا، مع أنهم كبلوها بمعاهدة اعتبرت في حينها مذلة، وكانت أبرز نتائج هذا النظام الدولي هي القضاء على وحدة بلاد المسلمين باتفاقية (سايكس ـ بيكو)، وكذلك وعد بلفور.

ثم قامت الحرب العالمية الثانية لتقضي على عصبة الأمم. واجتمع المنتصرون في الحرب ليؤسسوا هيئة الأمم المتحدة، وكان هدفها تأمين مصالح الأقوياء، وضمان سيطرتهم على العالم. وكانت فكرة الرئيس الأميركي روزفلت في ذلك الوقت هي تأسيس عالم واحد يسهل لأميركا الانفراد بسياسته الدولية، واستخدام المنظمات التابعة لهذا النظام للسيطرة على العالم.

وأخذت أميركا تحاول تصفية الاستعمار القديم للحلول محله، واتفقت مصلحتها في ذلك الوقت مع اتجاه روسيا الاشتراكية في تحرير الشعوب ظاهرياً، فأخرجت فرنسا من الهند الصينية، وصفّت كثيراً من مستعمراتها، ومن مستعمرات بريطانيا، التي فطنت إلى هذا الموضوع فأخذت تمنحها الاستقلال، وتربطها بها بالكومنولث، أو بالحكام العملاء. وقد قفزت أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظل هذا النظام الجديد إلى مركز الدول الأولى في العالم، وتزعمت المعسكر الغربي، في حين تزعمت روسيا المعسكر الشرقي، واصبح المعسكران يتنافسان حتى اتفاقية فينا بين خروشوف وكندي سنة 1961 والتي ظهر بعدها أن الموقف الدولي تحول إلى موقف بين دولتين فقط، هما أميركا وروسيا، وليس بين معسكرين وإن بقيا موحدين. وخروج أميركا من عزلتها نقل مركز الدولة الأولى وللمرة الأولى من العالم القديم إلى العالم الجديد. وتعود جذور هذا الانفتاح الأميركي على العالم إلى أزمة الثلاثينات، فقد اتضح أن الاجراءات الاقتصادية لحل معضلة أزمة 1929 غير قادة وحدها على معالجة المشاكل الهيكلية التي يعاني منها اقتصاد الولايات المتحدة، وقد استخلص قطب الصحافة الأميركي هنري لوس في إحدى مقالاته سنة 1941: «أن فرصة الولايات المتحدة الوحيدة للخروج من المأزق هي في البحث عن مضاعفة تنشيط الاقتصاد الأميركي في اطار اقتصاد عالمي ونظام عالمي».

وبالفعل فقد خرجت الشركات الأميركية إلى العالم، وما زالت تتربع على عرش الثروة العالمية. في هذه الفترة كان لحرب فيتنام تأثير كبير على الشعب الأميركي إلى درجة تهديد بنيته بما سُمي بعقدة فيتنام. فصدر الكثير من الدراسات كان أهمها دراسة للبروفسور «ليسكا» العضو في مركز واشنطن لأبحاث السياسة الخارجية سماها «الامبراطورية الأميركية» بحث فيها نشوء وسقوط الامبراطوريات ومواطن الضعف والقوة فيها وخص بالدراسة أحوال الدول الرومانية، والتي عمرت طويلاً. وعزا سبب ذلك إلى أن روما أوجدتعلى أطراف الامبراطورية مراكز للقوة من القبائل تقوم بدفع العدوان، وحماية حدود الدولة، وأنه نادراً ما كانت تتحرك الامبراطورية من القلب لدرء الأخطار مما أبقاها قوية، وبيّن أن أميركا تمثل قلب امبراطورية مترامية الأطراف، وإذا بقي القلب ينبض من كل تهديد للحدود فإن ذلك يضعف القلب، فيستنزف معنوياً واقتصادياً وعسكرياً ونفسياً، وخلص إلى أنه يجب إيجاد مراكز إقليمية دولية بالإضافة لأميركا والاتحاد السوفياتي، وخص بالذكر الصين واليابان وأوروبا.

وتبنى كيسنجر في مقال له عام 1968 وجهة نظر مشابهة (لليسكا) فقال: «إنه يجب تطوير نظام متعدد القطبية سياسياً، وثنائي القطبية عسكرياً». ولفتت هذه المقالة نظر الرئيس نيكسون، والذي كان قد نجح لتوه في انتخابات الرئاسة الأميركية، فاستدعى كاتبها، وعينه مستشاراً للأمن القومي، ووُجد ما سمي (بمبدأ نيكسون) والذي يقضي بتطوير القوى الاقليمية المتوسطة لتحمل مسؤولية أعباء الحفاظ على المصالح الأميركية. وهذا يقتضي بروز السلام والاستقرار في الأطراف. وكانت الغاية هي إخراج اتحاد السوفياتي من مناطق نفوذه خارج مجاله الحيوي، وعدم إعطاء أي نفوذ لأي من الأقطاب الآخرين، فالأقطاب يوازن بعضها بعضاً، بينما النفوذ السياسي للولايات المتحدة مع تحملها لأقل الأعباء.

وقد خطط الاستراتيجيون الأميركان لارهاق الاتحاد السوفياتي بسباق التسليح، لينفردوا بالموقف الدولي، وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح، أثمر بسياسة البيروستريكا، التي اتبعها غورباتشوف، فانسحب الاتحاد السوفياتي من التأثير في الساسية الدولية، لينكفئ لحل مشاكله العقائدية والاقتصادية. فأعلنت أميركا نفسها سيدة العالم بلا منازع.

وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي العقائدي والاقتصادي برزت فكرة روزفلت القديمة «عالم واحد يسهل لأميركا الانفراد بسياسته» مع فارق واحد أن أوروبا واليابان متقدمتان صناعياً وألمانيا موحدة. وتبنى بوش هذه الفكرة وشجعه على التطلع نحو نظام عالمي جديد «سلمي وآمن ومستقر» حسب رأيه هو اجتماع 34 رئيس دولة أوروبية شرقية وغربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة وكندا أعضاء حلفي شمال الأطلسي ووارسوا في 19/11/1990 في ما سمي «مؤتمر الأمن الأوروبي» ووقعوا على معاهدة تخفيض الأسلحة التقليدية في أوروبا، وإنهاء الحرب الباردة بين المعسكرين. وقد كانت بداية تفكير بوش في ذلك هي اجتماعه مع غورباتشوف في 31/05/1990 عندما قال: «أن اجتماع القمة بين القوتين العظميين أفرز علاقة صدق جديدة قد تعيد تشكيل التاريخ، وأشعر بالعرفات لغورباتشوف لروح الصراحة التي تعامل بها مع كل مسألة مطروحة على مائدة المفاوضات، واعتبر هذا برهاناً على دخولنا بالفعل مرحلة جديدة في علاقاتنا مع الاتحاد السوفياتي» وبرأيي فإن هذه هي الموافقة النهائية للاتحاد السوفياتي على النظام العالمي الجديد.

كيف تفكر أميركا؟

قال روبرت كندي مرشح الرئاسة الأميركية سنة 68: «إن موضوع الرهان اليوم ليس قيادة البلاد فحسب وإنما حقنا في قيادة العالم».

قال هوفمان: «النظام الدولي الجديد يجب أن يكون أميركياً وربما على صورة الامبراطورية الرومانية، ولكنه سيدار من مركز الرأسمالية الجديد في أميركا» قال بوش في حملته الانتخابية: «سيكون القرن القادم قرناً أميركياً أيضاً، أعدكم بذلك».

قال بريزنسكي في كتابه (بين عصرين): «سيسود الدسكو الأميركي العالم» من هنا يظهر أن النظام العالمي الجديد ليس ابن ساعته، أو فترة ليومين، وإنما هو خطة أميركية خُطط لها منذ زمن بعيد بتروٍّ وطول بال ونجحت نجاحاً منقطع النظير في تنفيذها بأقل الأخطاء، وجهزت لها ما يلزم من القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، حتى صارت أقوى وأغنى دولة في التاريخ. ومن هنا فإن العلاقات الدولية في المرحلة القادمة سترتبط في الغالب بالقوة وسيطرة الاقتصاد الرأسمالي على العالم، إلى أن يظهر نظام عالمي جديد آخر يقف في وجهه.

وقد استغلت أميركا أزمة الخليج للترويج للنظام العالمي الجديد، والحاجة إليه طبقاً لوجهة النظر الأميركية، وبحراسة القوة الأميركية، وتحت سيطرة الاقتصادة الأميركي. ففي آب 1990 تحدث بوش عن ضرورة التحرك المسلح إلى الخليج للدفاع عن نمط الحياة الأميركية، وعن المصالح الأميركية. وقال للمحاربين القدامى بأن الأزمة تثبت بأنه لا بديل للقيادة الأميركية. وقال في 29/01/1991: «إن آمال الإنسانية تتجه إلينا ومن بين دول العالم فإن الولايات المتحدة وحدها تملك من المستوى الأخلاقي، ومن الإمكانيات ما يكفي لخلق نظام عالمي جديد» بينما تقول مارغريت تاتشر عندما كانت في الحكم في مقابلة مع مجلة أميركية: «إنني لا أعرف أبداً معنى هذا النظام العالمي الجديد».

وإن المظاهر الأولى لتطبيق هذا النظام العالمي الجديد تجلت في عدة أمور وبشكل واضح، فقد هبط الاتحاد السوفياتي من مركز الدولة الأولى، وانتهت الحرب الباردة، وتفككت الأحلاف، فلم تعد أوروبا في هذه الحالة تخشى غزواً روسياً، وبالتالي فلا داعي للحماية الأميركية. وصارت اليابان تفكر بنفس الطريقة، ومن هنا فإن الزاحم داخل العائلة الواحدة والتنافس سيشتد إن على المكاسب الاقتصادية والسياسية، ولا سيما أن ألمانيا توحدت لتصبح أقوى دولة أوروبية، وقد تنهض عسكرياً، أو تساعدها أوروبا عدوتها التقليدية على النهوض ليقفوا سوياً في وجه كبير العائلة، الذي يريد أن يستولي على جميع تركة العائلة، غير تارك لاخوته سوى فتات مائدته، وكذلك لن يكون هناك داع لتوجيه الإعلام ضد الماركسية، فقد انتهت كتطبيق عملي، ولا أمل برجوعها للتطبيق في المدى المنظور.

إن أميركا ستكون هي المسيطرة على النظام العالمي الجديد، وستكون هي المانحة للشرعية أو النازعة لها في أي عمل أو أي نظام، وبالتالي فسيصبح من المسوغ لها أن تسقط أي نظام لا يعجبها، أو أي حركة لا تناسبها أفكارها. ولذلك ستعمل عمل الشرطي العالمي، أو رئيس الشرطة، ولا مانع من مشاركة آخرين، ولكن القرار بيد الرئيس، وستدفع جميع الدول تكاليف هذه الوظيفة، وستكون التكاليف في معظمهما من كدح أبناء العالم الثالث. وهي تخطط لأن تحدد أنواع الأسلحة المتطورة لتبقى مسيطرة على هذا الوضع، والأهم من ذلك فإنها بعد أزمة الخليج أمسكت بمفتاح النفط لتبقى تتحكم بالدول الصناعية الأخرى خصوصاً أوروبا واليابان. فقد قال أحد المراقبين: «فلذلك فإن المنافسة ستشتد بين أوروبا وبين أميركا، وستخرج من السر إلى العلن، وقد تقرع طبول الحرب بعد اسكات الإيدلوجيات في المناطق المحرم عليها النهوض في النظام الجديد». فهذه ميزة النظام الرأسمالي الأساسية وهي أن رغيف الخبر آكله أنا لا أنت، أي بمعنى آخر آكله أنا وتجوع أنت ولو كنت أخي.

ولكن ما هذه الأيدلوجيات التي ستحاربها أميركا أولاً؟ أن أميركا لديها عقدة الأيدلوجيات، وقد ظهر ذلك جلياً في تاريخها القريب عند خروجها من إلى العالم من عزلتها فحاربت المبدأ الشيوعي بشدة، والسبب أن أميركا هي حاملة مبدأ تريد نشره في العالم، فقد أخذت المبدأ الرأسمالي من أوروبا وطورته بشكل كبير واجتهدت فيه، فأصبح لديها ما سمته بنمط الحياة الأميركي، والذي تريد أن تدفاع عنه كما قال بوش، وأميركا وبنظرة مخططيها تدرك أن مبدأها قابل للهزيمة إذا واجهه مبدأ فيه مقومات هزيمة الرأسمالية، ولذلك فإن أميركا تكره الايدلوجيات أو المبادئ، والآن هُزِمَتْ الايدلوجية الشيوعية بعد فترة قصيرة في عمر التاريخ لأسباب تكمن في الشيوعية نفسها، ولم يبق أمامها أي دولة ذات ايدلوجية أو وجهة نظر تحملها إلى العالم وتخالف وجهة نظر أميركا في الحياة، فجميع الحكام ضالعون في النظام العالمي الجديد إما رغبة وإما رهبة أو عمالة ضد رغبة شعوبهم.

أما كيف ستضمن أميركا أن يكون القرن القادم قرناً أميركياً كما وعد بوش فإن هذا يحتم عليها القضاء على الايدلوجيات الموجودة في مهدها فلا تضمن أميركا أن بذرة الايدلوجيات سوف لا تنمو في الظل، ولن تترك الأمر للحظ فلا بد إذاً من تدمير هذه البذرة. والايدلوجية أو المبدأ أو وجهة النظر في الحياة الموجودة حالياً والمرشحة لأن تقف في وجه أميركا هي المبدأ الاسلامي حيث يعتنقه مليار انسان ويطبق عليهم قسراً عنهم النظام الرأسمالي، وتظهر بينهم بين الفينة والأخرى بوادر نهضة يقوم بها حاملو هذا المبدأ وعندم القابلية لذلك. فمبدأ الإسلام مبدأ عالمي انساني له قابلية التطبيق العالمي، وسبق أن طبق لفترة هي أطول فترة زمنية في التاريخ يطبق فيها مبدأ واحد، وكانت دولته أقوى دولة في العالم، وما زال أبناؤها يحملون أفكاراً ومشاعر تدل على توقهم إلى أن ترجع بلادهم موحدة وقوية دولة كبرى قيادية، فتراهم بعد كل هزيمة موقنين بأن النصر في النهاية سوف يكون لهم، هذا الأمر تدركه أميركا جيداً. فعندما أخذ الرئيس العراقي ينادي بنداء الإسلام كان كل هم بوش أن يخاطب المسلمين: «بأننا لا نحارب الإسلام ولا المسلمين» وبعد بدء الحرب أعلن بوش: «ألاّ مكان للإسلام في هذه المنطقة وستسود الديمقراطية». وبعدها بشهرين صرح كلود شيسون قائلاً: «يجب علينا عدم إضعاف صدام حسين لدرجة كبيرة، بل يجب تقويته لأننا نخشى أن يقفز الأصوليين إلى الحكم». واستوعب العراق الرسالة بشكل كبير فطبق ما يريده الغرب، بل أكثر من ذلك عندما صرح سعدي مهدي صالح رئيس المجلس الوطني العرقي كما ورد في جريدة الدستور في 05/07/91 بعد إقراره قانوناً للأحزاب يمنع بموجبه الأحزاب الإسلامية قال: «أن العراق أصبح مثل البلدان الغربية في الوسائل التي تستخدمها لتنفيذ الديمقراطية»□

د. نائل عبيدات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *