الغرب والصهيونية: أيهما يسخّر الآخر؟
1991/11/06م
المقالات
2,006 زيارة
ذهب المراقبون مذاهب مختلفة في هذا الموضوع، فمنهم من قال: إن الصهيونية هي التي تسيطر على أميركا وعلى الغرب وعلى العالم. ومنهم من قال: إن أميركا وقبلها الانجليز والغرب عامة هم الذين أوجدوا الصهيونية ودولة إسرائيل لخدمة مصالحهم وسياساتهم. ومنهم من قال: هناك تبادل منافع بينهما.
في المقال التالي يحاول الكاتب أن يبين حقيقة الواقع في العلاقة بين الصهيونية والاستعمار. ونظراً لأهمية البحث وفائدته رأت «الوعي» نشره لقرائها. وبسبب ضيق المساحة في «الوعي» فقد اقتصرت على نشر قسم من البحث، ذلك القسم الذي رأيناه يفي بالغرض. وفيما يلي كلام الكاتب:
بقلم: عبد الوهاب المسيري
باحث عربي في الشؤون الصهيونية
-
أصبح الحديث عن سيطرة اليهود على الإعلام الغربي وقراره وعن نفوذ اللوبي الصهيوني من ثوابت الخطاب السياسي والاعلامي العربي، ولا توجد سوى قلة قليلة من المحللين السياسيين والاعلاميين لا يقبلون هذه المقولة (خصوصاً بعد تجدد الخلاف بين الرئيس جورج بوش والمنظمات الصهيونية الداعمة لموقف إسرائيل) التي سنحاول اختبار مقدرتها التفسيرية في هذا المقال.
النفوذ الصهيوني
عرف الغرب مصلحته الاستراتيجية منذ بداية القرن التاسع عشر بطريقة تجعله ينظر إلى المنطقة العربية باعتبارها مصدراً هائلاً للمواد الخام، ومجالاً خصباً للاستثمارات الهائلة، وسوقاً كبيرة لسلعه، وقاعدة استراتيجية في غاية الخطورة والأهمية إن لم يتحكم فيها قامت قوى معادية باستخدامها ضده. ويعبر هذا الموقف عن نفسه في اصطلاح مثل «الفراغ» الذي كثيراً ما يستخدم للاشارة إلى شرقنا العربي، وكأن وطننا رقعة أرض أو مساحة لا يقطنها شعب عريق له امتداده الحضاري.
وحتى حينما تتحول إلى أكثر من مجرد مساحة فإن الإدراك الغربي للمنطقة، وهو إدراك تحدده مصلحته كما يراها هو أو كما تراها نخبته الحاكمة ومؤسسات صنع القرار فيه، نقول أن الادراك الغربي يرى وطننا العربي على أنه منطقة مأهولة بشعوب وقبائل وأقليات معظمها يتحدث العربية، وتدين بديانات مختلفة لا يربطها رابط حضاري أو اجتماعي واحد، لكل مصلحته الاقتصادية ومستقبله السياسي المستقل. وتكمن مصلحة الغرب في الحفاظ على عدم الترابط الحضاري أو الاجتماعي في عالمنا العربي.
ويتفق المفهوم الصهيوني لعالمنا العربي تمام الاتفاق مع المفهوم الغربي. فالصهاينة يشيرون إلى فلسطين باعتبارها «أرضاً بلا شعب» وإلى الضفة الغربية باعتبارها يهوداً والسامرة، وهي مصطلحات تلغي التاريخ تماماً، فكلاهما يؤكد فكرة أن عالمنا العربي مكان بلا زمان، وجغرافيا بلا تاريخ، أو مساحة تسكنها شعوب كثيرة متفرقة متناثرة. والصهيونية في نهاية الأمر وليدة التراث الفكري الاستعماري الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي اداته في المنطقة، ومن هنا الدعم الغربي الحاسم للمشروع الصهيوني ـ اداة الغرب ـ في خلق الفراغ والحفاظ عليه كوسيلة للدفاع عن أمن الغرب لا عن أهل المنطقة، وعن مصالح الغرب لا مصالح العرب.
ودعم هذا التعريف نجاح الدولة الصهيونية في طرح نفسها على أنها قاعدة عسكرية رخيصة وأداة طيعة يفوق عائدها تكلفتها، وقد أكد الزعماء الصهاينة الواحد تلو الآخر أن تمويل مثل هذا المشروع مسألة مربحة للدولة التي ستستثمر فيه.
ففي عام 1920 أكد الزعيم الصهيوني ماكس نوردو أن رجال السياسة البريطانيين الذين كانت تواجههم مشكلة التوازنات الدولية، قاموا بحساباتهم الدقيقة وتوصلوا إلى أن اليهود يعتبرون في الحقيقة «مصدر قوة» و«ربما مصدر نفع» أيضاً لبريطانيا وحلفائها.
وأدرك مؤسس الحركة الصهيونية، تيودور هرتزل هذه المصلحة باكراً واستخدم حاييم وايزمان الاستعارة التجارية ذاتها حين كتب لتشرشل قائلاً:
«إن السياسة الصهيونية في فلسطين ليست على الاطلاق تبديد للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لك بسعر أرخص من أن يحلم به أي فرد آخر».
وأفاض وايزمان في شرح وجهة نظره، مبيّناً أن الاستعمار البريطاني بتأييده للمنظمة الصهيونية، قد وضع ثقته في مجموعة مستعدة أن تتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية المادية عن الاستعمار «وإذا تبين أن تكاليف الحامية البريطانية ستكون مرتفعة، عند ئذ يمكن تنظيم وتسليح المستعمرين اليهود». ثم يتساءل وايزمان بشيء من الخطابية وبكثير من التوتر:
«هل تمت أية عملية استعمارية أخرى تحت ظروف مواتية أكثر من هذه، أن تجد الحكومة البريطانية أمامها منظمة لها دخل كبير على استعداد أن تضطلع بجزء من مسؤولياتها التي تكلفها الكثير؟».
وقد بيّن وزير المال الاسرائيلي يعقوب ميريدور مدى رخص المشروع الصهيوني وانخفاض ثمنه. ففي حديث إذاعي له في راديو القوات المسلحة الأميركية ذكر: «أن إسرائيل تحل محل عشر حاملات طائرات». ثم قدم الوزير الاسرائيلي كشف حساب بسيط جاء فيه: «أن تكلفة بناء الحاملات العشر هذه تبلغ 50 بليون دولار». وأضاف الوزير، وهو الخبير بالأمور الاقتصادية، أنه لو دفعت الولايات المتحدة فائدة قدرها عشرة في المئة على تكاليف تشييد هذه الحاملات لبلغت خمسة بلايين دولار، في حين أن المعونة الأميركية لا تصل بأية حال إلى هذا القدر. واختتم ميريدور حديثه بملحوظة وقال: «أين إذن بقية المبلغ؟». وعلى الخط الاعلامي نفسه ذكر ارييل شارون أن «المعونات التي قدمتها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني لا تزيد على ثلاثين ملياراً من الدولارات، أما الخدمات التي قدمتها إسرائيل إلى أميركا فتفوق مئة مليار دولار». ثم قال بشكل جدي ما قاله ميريدور بشكل فكاهي: «أن الولايات المتحدة لا تزال مدينة لنا بسبعين ملياراً».
وترد الفكرة نفسها في مقال لشلومر ماعوز المحرر الاقتصادي في الـ «جيروزاليم بوست» بعنوان «صفقة استراتيجية» حين أشار إلى أن الاسرائيليين يعرفون جيداً أن مساعدة الولايات المتحدة للدولة الصهيونية هي في جوهرها مساعدة لخدمة مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية «فالولايات المتحدة تدفع سنوياً 130 بليون دولار لقواتها في حلف شمال الأطلسي و40 بليوناً للوفاء بالتزامهاتها في المحيط الهادئ وبالتالي فمساعداتها العسكرية والمدنية لإسرائيل صغيرة بشكل مضحك، إذا ما قورنت بالمبالغ الآنفة الذكر، خصوصاً إذا ما تم النظر إلى هذه المساعدات باعتبارها استثماراً لحماية مصالح أميركا في المنطقة».
هذا هو المفهوم الغربي لإسرائيل. فالمدافعون عنها في الولايات المتحدة لا يتحدثون عن المغانم الاقتصادية الثانوية أو المغارم الاقتصادية التافهة وإنما يشيرون دائماً إلى الحليف الذي يمكن التعويل عليه، وإلى المغانم الاستراتيجية الأساسية الهائلة، وقد عبرت مجلة «الايكونومست» (20 تموز/ يوليو 1985) عن موقف هؤلاء بقولها «إذا كان من الممكن لأميركا أن تدفع 30 بليون دولار كل عام تكاليف حلف الأطلس فمن المؤكد أن إسرائيل وهي المخفر الأمامي والقاعدة المحتملة، تستحق مبلغاً تافهاً مثل 4 ملايين دولار».
ولخص صحافي اسرائيلي كل المواضيع والاستعارات السابقة في قوله أن الزعماء الاسرائيليين مضرطون دائماً أن «يذكروا» القيادة الأميركية «في واشنطن بمقدار تكلفة الهبات الممنوحة لنا» وبيّن «أن الجيش الاسرائيلي ليس خدمة حربية كامنة وحسب، وإنما أيضاً خدمة رخصية بل أنها أرخص من أي خيار عسكري آخر محتمل أميركياً في منطقتنا» وحسب ما جاء في مقاله أن البنتاغون يوافق على هذا الرأي، ولذا لا يبدي «أي تأفف ازاء الحساب الذي يقدمه الاسرائيليون، حتى أن هناك من يرى فيه أنه رخيص نسبياً».
هذا هو السر الحقيقي للنجاح الصهيوني في الغرب، فهو لا يعود لسيطرة اليهود على الإعلام، أو إلى لباقة المتحدثين الصهاينة أو إلى مقدرتهم العالية على الاقناع والإتيان بالحجج والبراهين، أو ثراء اليهود وسيطرتهم على التجارة والصناعة، وإنما يعود أن «صهيون الجديدة» هي جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، وإلى أن الإعلام واللوبي الصهيونيين يمثلان أداته الرخيصة.
-
حتى أدلل على «أن نجاح الصهاينة الإعلامي وقوة اللوبي الصهيوني مستمدان من اتفاق المصالح والادراك، لا من عبقرية الصهاينة الخاصة» سأضرب مثلين واحد تاريخي والآخر معاصر. الأول يتعلق بصدور وعد بلفور. فمن المعروف أن الوجود اليهودي في ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى كان قوياً للغاية، وكان اليهود يشغلون مناصب حكومية مهمة وفي مواقع اقتصادية ذات طبيعة استراتيجية. وكانت برلين هي مقر المنظمة الصهيونية العالمية، وكان الصهاينة على أتم استعداد أن يجعلوا مشروعهم جزءاً من المشروع الألماني الاستعماري. في المقابل كانت توجد جماعة يهودية صغيرة للغاية في بريطانيا مندمجة تماماً ومعادية بشكل كامل للصهيونية (وايزمان والقيادات الصهيونية من شرق أوروبا).
مع هذا نجح الصهاينة في بريطانيا في استصدار وعد بلفور، على رغم ضعفهم وعزلتهم، بينما فشل صهاينة ألمانيا في ذلك على رغم قوتهم وارتباطهم الصهيوني. لكن علينا أن نعود إلى تحركات الامبريالية الألمانية. ألمانيا كانت متحالفة مع السلطنة العثمانية ولذا لم يكن هناك مجال لاعطاء أي وعد للصهاينة على حساب هذه السلطنة بينما كان الوضع مختلفاً بالنسبة لبريطانيا. فقد ظل التحالف قائماً بينها وبين السلطنة حتى اندلاع الحرب. وحينما صدر أول «وعد بلفوري» انكليزي، وهو الخاص بمشروع شرق أفريقيان كان وعداً بقطعة أرض خارج أرض السلطنة. وبعد أن قررت بريطانيا تقسيم السلطنة أصدرت «وعد بلفور» لمجموعة من الصهاينة من غير الانكليز. وكان على الموجودين في بريطانيا من غير الانكليز. وكان على الموجودين في بريطانيا أن يقطعوا علاقتهم مع المنظمة الخاضعة لنفوذ ألمانيا آنذاك. وكان الوعد هذه المرة اعطاء قطعة أرض داخل حدود السلطنة.
وتثرثر الدراسات الصهيونية عن مناورات حاييم وايزمان وأحابيله، وتثرثر الدراسات العربية عن اختراعه لمادة اللاستيون وعن النفوذ الصهيوني الهائل. ومن المفيد أن نذكر بعض الوقائع التي تضيف أبعاداً أكثر تعقيداً من الصورة الشائعة. قبل أن تنشب الحرب العالمية الأولى ببضعة أيام سافر وايزمان هو وأسرته لقضاء اجازة في سويسرا (الأمر الذي يدل على عدم مقدرته على قراءة الأحداث) وعند نشوب الحرب سارع بالعودة إلى بريطانيا وقابل السير لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني الذي حوله إلى الوزير هربرت صمويل، السياسي اليهودي، ورفض وايزمان في بداية الأمر مقابلة صمويل لأنه يهودي.
فيهود بريطانيا كانوا معادين للصهيونية، وظن وايزمان أنه مثلهم لكنه رضخ للأمر، وعرض عليه المطالب الصهيونية، فوجدها صمويل متواضعة للغاية وتضايق منه لذلك السبب وأخبره أن يوسع من أفقه قليلاً ويزيد من مطالبة «TO THINK BIG»، وهذه لم تكن نصيحة يسديها يهودي لآخر وإنما كانت قراراً بريطانيا. فالوزارة البريطانية كانت قد ناقشت عام 1914 خمس أوراق بالنسبة لمستقبل فلسطين واختارت فلسطينن إلى مستعمرة صهيونية فوراً وتسلميها للمستوطنين الصهاينة. وواجه الاقتراح صعوبات للغاية نظراً للكثافة السكانية العربية، فتقرر تبني الورقة الخامسة، أي وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني لعدة سنوات، تفتح أثناءها أبواب فلسطين للهجرة الاستيطانية اليهودية، ويتم خلالها بناء المؤسسات الاستيطانية التي تقوم بتسلم فلسطين حينما تكون جاهزة لذلك. ويدل هذا الأمر على أن العنصر المؤثر هنا، في أهم واقعة في تاريخ المشروع الصهيوني هو المصالح البريطانية لا قوة الصهاينة الذاتية أو «حليهم الثعبانية». وهذه المصالح هي ذاتها التي كانت تقرر مضمون «القرارات» الكثيرة التي أصدرتها وزارة الخارجية البريطانية إبان فترة الانتداب.
-في بداية القرن العشرين ظهر اتجاه صهيوني بين أعضاء المؤسسة الحاكمة الأميركية على رغم أن غالبية أفراد الجماعة اليهودية كانوا يعارضون الصهيونية، إما من منظور اندماجي أو ديني، وأيّ>ت الولايات المتحدة وعد بلفور وحنث ولسون بوعوده، وأيد شعار حق تقرير المصير لا رضوخاً لأي ضغط يهودي أو صهيوني وإنما لأنه رأى أنه لا يمكن أن يقرر مصير الشرق الأوسط من دون أن يكون لواشنطن دخل فيه، ووجد أن تأييده لوعد بلفور وهو وسيلته لذلك. واحتج كثير من الجماعات اليهودية الاندماجية.
-حينما أُعلنت دولة إسرائيل اعترفت الولايات المتحدة بها فوراً، ولم يكن اللوبي الصهيوني قوياً بعد، باعتراف أولئك الذين يروّجون لاسطورته. كما أن اللوبي اليهودي المعادي للصهيونية كان لا يزال قوياً، الأمر الذي يعني أن مسارعة الولايات المتحدة بالاعتراف لا يمكن تفسيرها إلا على أساس المصالح الأميركية وليس لها علاقة بالضغوط اليهودية أو الحملات الاعلامية.
-حينما تحالف إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا عام 1956 وشنت العدوان الثلاثي على مصر من دون موافقة الولايات المتحدة عوقبت أشد العقاب، إذ أن الاستراتيجية الأميركية حينذاك كانت هي أن تعلب واشنطن دوراً نشطاً في الشرق الأوسط وتحل محل الاستعمار التقليدي (الانكليزي والفرنسي) وتملأ الفراغ بعد انسحابهما منه. والدولة الصهيونية باشتراكها في هذه المغامرة وقفت ضد الطموح الأميركي، وكان من الضروري تأديبها الأمر الذي أملى موقف ايزنهاور «النزيه» و«العادل» و«المحايد».
أما الواقعة الثانية فهي الغاء مشروع طائرة «لافي». فالمؤسسة الحاكمة الصهيونية كانت حريصة على الحرص على انتج هذه الطائرة محلياً في إسرائيل وبعون أميركي، لأسباب كثيرة من بينها تحقيق شيء من الاستقلال السياسي وتحسين صورة إسرائيل القومية أمام المستوطنين الصهاينة الذين يشعرون باعتماد دولتهم المذل على الولايات المتحدة. وتعني طائرة «لافي» أيضاً انشاء صناعة طائرات محلية توفر عشرات الوظائف للمهندسين والفنيين الاسرائيليين على أمل أن يحد ذلك بعض الشيء من ظاهرة هجرة العقول من إسرائيل ونزوح عناصر النخبة الفنية منها.
ووجدت المؤسسة الصناعية العسكرية في الولايات المتحدة أنه ليس من صالحها السماح لإسرائيل بانتاج الطائرة، فألغى المشروع على رغم المحاولات اليائسة والمريرة لمدة عامين، ولم ينجح اللوبي الصهيوني أو غيرها في أن يؤثر على القرار الأميركي. وفعلاً تزايد عدد النازحين من الدولة الصهيونية، وقلّت قدرتها الاستيعابية للمهاجرين الجدد، خصوصاً ذوي المؤهلات العالية، وهو الأمر الذي يثير مشكلة خطيرة في القوت الحاضر مع هجرة اليهود السوفيات.
-أقدم بعض الاسرائيليين اليهود السوفيات المقيمين في الولايات المتحدة على تأسيس عصابات تمارس الجريمة المنظمة «المافيا» ولها نشاط في عالم المخدرات والجنس وتزييف العملات. ولم يتردد الكونغرس الأميركي في اجراء تحقيق في الموضوع ونشر نتائج التحقيق الأميركي الذي أساء لصورة اليهود الإعلامية (جيروزاليم بوست 19/04/1988) ولكنه فعل ذلك من دون تردد لأن الجريمة تهدد أمن الولايات المتحدة القومي، ولم يخش أحد من سطوة الإعلام الصهيوني.
ولا شك أن الإعلام اللوبي الصهيونيين يحاولان أن يؤكدا للغرب مدى صلاحية الدولة الصهيونية كقاعدة وأداة، بل أنهما يحاولات أن يوسعا من المساحة التي تتحرك فيها إسرائيل بحرية، ويبذلان أقصى جهدهما أن تحصل على مكافأة كبيرة وتحقق عائداً أمنياً واقتصادياً وسياسياً مرتفعاً لما تؤديه من خدمات. ولكن كل هذه التحركات مضبوطة بالأطروحات الاستراتيجية الأساسية التي تتحدد خارج مجال ضغوط الإعلام ونفوذ اللوبي الصهيوني. ومن الضروري أن نشير إلى حقيقة في غاية الأهمية تبين حدود القوة اليهودية. من المعروف أن الأقلية تشكل أثرى أقلية دينية في الولايات المتحدة ـ وربما في العالم ـ وقد بيّن أحد الاحصاءات عام 1985 أنه بين 400 شخص يعدون أكثر الأفراد ثراء في الولايات المتحدة يوجد 114 يهودياً، أي بنسبة 24 ـ 26 في المئة على رغم أن اليهود يشكلون 2,54 في المئة فقد من السكان. هذه المعلومة تساق باعتبارها دليلاً على «نفوذ» اليهود. ولكن بقليل من التحليل المتعمق سنكشف أن هذه المعادلة البسيطة ليست على جانب كبير من الصحة. فاليهود ـ على رغم ثرائهم ـ لا يمتلكون أياً من الصناعات الثقيلة (الحديد والصلب وصناعات السيارات والكيماويات) كما أنهم لا يمتلكون أياً من المؤسسات المالية الكبرى، مثل المصارف المهمة، على عكس ما يشاع.
ونجد أن كثيراً من الناس في العالم العربي يعتقدون أن أسرة روكفلر يهودية وهذا غير صحيح، فهي أسرة بورتستانية وهي من ضمن هذه النخبة (الانغلو ـ ساكسون البروتستانت البيض) التي تمتلك معظم الصناعات الثقيلة وتسيطر على القطاع المالي.
ومن صفوف هؤلاء يتم تجنيد أعضاء النخبة السياسية الحاكمة ومن صفوفهم جاءت الغالبية الساحقة من رؤساء الولايات المتحدة باستثناء جون كنيدي الكاثوليكي من أصل ايرلندي.
لا يمتلك أثرياء اليهود ، إذن، صناعات ثقيلة ولا بيوت مالية ضخة وإنما تجدهم مركزين في أعمال العقارات والسمسرة والمضاربات الكازينوهات وصناعة السينما ودور النشر والصناعات الخفيفة (الملابس خصوصاً). ووجودهم في هذه القطاعات يعطيهم بروزاً ويؤكد حضورهم ويولد صورة عامة بالقوة تتنافى مع واقع توزيع القوة الحقيقي. ومن أهم مظاهر حدود قوة اليهود ومدى هيمنة المؤسسة الحاكمة الغربية على الجميع، هو الكيفية التي يتحول بها أفراد الجماعات اليهودية إلى الصهيونية في آخر القرن التاسع عشر عارضتها الجماهير اليهودية. وبعد أن حصلت المنظمة الصهيونية على وعد بلفور اعترف وايزمان أن الوعد كان مبيناً على الهواء. وعلى حد قوله عام 1927، كان يرتعد خوفاً خشية أن تسأله الحكومة البريطانية عن مدى تأييد اليهود للحركة الصهيونية «فهي كانت تعلم أن اليهود ضدنا. كنا وحدنا نقف على جزيرة صغيرة، مجموعة صغيرة من اليهود لهم ماض أجنبي».
وقد اقترح وايزمان وغيره من الصهيانية حل المشكلة «من أعلى» من ناحية المصالح البريطانية وليس من أسفل من ناحية الجماهير اليهودية. وحدد الاستراتيجية على النحو التالي «إذا دخلت فلسطين في نطاق النفوذ البريطاني وإذا شجعت بريطانيا عملية استيطان اليهود هناك وأصبحت دولة خاضعة لبريطانيا فسيصبح هناك خلال عشرين إلى ثلاثين عاماً، مليون يهودي يقومون بخدمة المصالح البريطانية.
وعندما أعرب أحد المسؤولين في الحكومة الانكليزية عن دهشته للموقف المناهض للصهيونية الذي اتخذه قادة اليهود البريطانيين أكد وايزمان له «أن خطة شن الهجوم من أعلى مؤكدة النجاح». وتكهن أنه بمجرد الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً لليهود، فإن اليهود البريطانيين المناهضين للصهيونية سيوافقون على الفر «على الحل الصهيوني، وأنهم هم أنفسهم سينخرطون في صفوف الحركة الصهيونية في الوقت المناسب».
إن قوة الحركة الصهيونية تنبع من أنها تخدم المصالح الأميركية لا أنها تقف ضدها، وهكذا يجب أن نفهم سر سطوة الإعلام الصهيوني وسر نفوذ اللوبي. وقد جاء في مقال «واشنطن بوست» بقلم ريتشارد شتراوس 27 نيسان (ابريل) 1986 أن «السوبر لوبي الصهيوني الجديد في واشنطن هو ريغان» وأن اللوبي الصهيوني يجلس الآن لا يفعل شيئاً بل أن معاداة العرب أصبح لها حركية مستقلة عن اللوبي الصهيوني. ولعل ما ورد في مقال ليندا فيلمان «جنود كسر العظام يحطمون الصلة مع يهود العالم» في «كريستيان ساينس مونيتور» نشر في جريدة «الوطن» 17 آذار (مارس) 1988، يبيِّن أن مصلحة الولايات المتحدة في نهاية الأمر هي اللوبي الحقيقي، إذ تشير كاتبة المقال «إلى الدور المحتمل لليهود الأميركيين بما يتمتعون به من مهارات وقوة في أن يشكل اليهود الأميركيون عاملاً حاسماً في عملية السلام وفي الضغط على اسرائيل، إذ أنه بسبب تحركات اسبانيا واليونان لإغلاق القواعد الأميركية، بالإضافة إلى سقوط شاه أيران تعاظمت الأهمية الاستراتيجية لاسرائيل بالنسبة للويات المتحدة».
والعنصر الأخير سيقلل من أهمية رأي اليهود الأميركيين في صوغ الاتجاه السياسي، أي أن مصلحة الولايات المتحدة لا اللوبي الصهيوني ولا القرار الاسرائيلي هو الذي يحدد القرار الأميركي في نهاية الأمر. وهذا أمر طبيعي ومنطقي بالنسبة لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة لها مصالح استراتيجية في كل أنحاء العالم ولا يمكن لها أن تخضع لضغط هذه الأقلية أو تلك»□
1991-11-06