العدد 56 -

السنة الخامسة – العدد 56 – جمادى الأولى 1412هـ الموافق كانون الأول 1991م

الدعوة إلى الإسلام (8)

إزاء ما ذكرنا عن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أهمية التأسي به وعدم الخروج عن طريقته نجد هناك طروحات يقف وراءها جماعات إسلامية أو مفكرون مسلمون تتعلق بهذا الموضوع. وبغض النظر عن القائل فلا بد من الاهتمام بالقول. ولا بد من استعراض سريع لها وإماطة اللثام عنها حتى لا يبقى المسلم متحيراً، ويضيع في متاهات هذه الطروحات أو يحمل شبهات تتعلق بحمل الدعوة. ونعرض فيما يلي أهمها:

· قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه». قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: «بأن يحملها فوق ما تطبيق». وهو حديث صحيح. يحتج به بعض المسلمين للقعود عن العمل لإقامة الخلافة لما في هذا العمل من مشقة وإذلال وتعرض للعنت والأذى وتحميل النفس ما لا تطيقه.

إن من طبيعة هذا الدين أنك لا تجد فيه اختلافاً أو تناقضاً بين الآيات والأحاديث، أو بين فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله. قال تعالى: ]لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ[[فصلت:42]، وقال تعالى: ]وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[[النساء:82]. بل إن نصوص الشرع تكمل وتفسر بعضها البعض ولا تعارض بينها.

وإذا وجد المسلم ما يظهر له أن فيه تعارضاً فما عليه إلا أن يفهم النصوص فهماً تشريعاً بفهم الواقع الذي نزلت عليه حتى يرفع هذا التعارض. فمثلاً قوله تعالى: ]إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[[القصص:56] يعارض من حيث الظاهر قوله تعالى: ]وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[ [الشورى:52] والحق فإنه لا تعارض بين النصين حين نعلم أن هداية الله للإنسان هي من حيث الإيجاد والتوفيق، وأن هداية الإنسان للإنسان هي من حيث الدلالة والإرشاد. ومثلاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير الشهود من يشهد قبل أن يُستَشهد» وقوله صلى الله عليه وسلم في مكان آخر يصف فيه آخر الزمان. فيقول: «ثم يفشوا الكذب حتى يَشهد الرجل قبل أن يُستَشهد». ففي الحديث الأول يمدح وفي الثاني يذم. وعندما نعود إلى واقع كل حديث يتبين لنا عدم التعارض. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مدح المسلم الذي يشهد قبل أن يستشهد فيما يتعلق بحق من حقوق الله وذم من يشهد قبل أن يستشهد فيما يتعلق بحق من حقوق العباد. وهكذا يرفع التعارض.

والإسلام قد نهى المسلمين عن أن يضربوا القرآن بعضه ببعض. فلا يجوز للمسلمين أن يتبنوا الرأي الذي يناسبهم ثم يطوِّعوا النص لما تبنوه. ويستشهدوا به لتبيان صدق رأيهم، فإن هذا سيجعل الشرع يبدو متعارضاً يخالف بعضه بعضاً إن لم نقل يكذب بعضه بعضاً.

نحن حين نرجع إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته نجد وبشكل قطعي أنهم في حملهم للدعوة قد تعرضوا لمشقات جسام، وتحملوا ما تنوء الجبال الشامخات تحته. وقيل فيهم وأشيع عليهم. وكان القرآن يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصدع والصبر. وكان يواسيه عندما تحزب عليه الأمور. وكان صبرهم وتوكلهم على الله واستمداد العون منه مضرب المثل يحتذى ويتأسى به.

فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم قد استهزأ به قومه، وسألوه المعجزات الحسية استهزاءً وقال تعالى: ]إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[[الحجر:95].

ولقد عُذب آل ياسر عذاباً شديداً حتى قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة، إني لا أملك لكم من الله شيئاً».

وعانى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته آلام الجوع والحرمان وألوان الفاقة والعوز في الشِعب عند مقاطعة قريش للدعوة ولحملتها وحُماتها.

وكان منـزل الرسول صلى الله عليه وسلم يُرجم وكانت أم جميل زوجة أبي لهب تلقي النجس أمام بيته. وكان أبو جهل يلقي عليه رحم الشاة مذبوحة ضحية للأصنام.

وقد ذكرت كتب السيرة أن كل قبيلة وثبت على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ونُعِتَ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق بأنه ساحر وكاذب ومجنون ومتقوِّل.

وبعد ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة، وردّه بشر رد، وطرده من البستان الذي لجأ إليه، رفع رأسه إلى السماء ودعا بدعاء تذرف له العيون، وتحنو له القلوب وقال معبّراً عن حاله وحال الدعوة: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنـزل بي غضبك، أو تحلَّ عليَّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».

والقرآن قد ذكر أن المسلمين يمرون بأوقات الاستضعاف والذلة والخوف والظلم، وأن الله يبدلهم ذلك ويمكِّنُ لهم الدين وينصرهم إن هم عبدوه وكانوا لا يشركون به شيئاً.

قال تعالى: ]وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[[آل عمران:123].

وقال تعالى: ]وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ… [[الأنفال:26].

وقال تعالى: ]وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ[[القصص:5].

وقال تعالى: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  @ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ… [[الحج:39-40].

وقال تعالى: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا… [[النور:55].

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أفضل الجهاد كلمة حق عند ذي سلطان جائر» ويقول صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله».

فمن الطبيعي أنه إذا قام الفرد منا (أو الجماعة) يواجه الحكام الظالمين وينصحهم ويغيِّر عليهم يأمرهم وينهاهم، ولم يقبلوا منه أو من الجماعة ذلك كما هو حالنا اليوم، فإنهم سيسومون من يقوم بذلك سوء العذاب وسيجرعونه الغصص وسيشعرونه بالذلة والمهانة… إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مدح من يقوم بوجههم.

لذلك فإن حديث: «لا ينبغي لمسلم… » لا يعارض ما ذكرناه فيما يتعلق بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية ولا يجوز طرحه بشكل وكأنه يعارضه. لأن طرحه بهذا الشكل فيه رخصة للناس كي يقعدوا عن العمل لتغيير الحاكم وهو فرض، وإقامة الإسلام وهو فرض. والقعود عن ذلك هو إثم.

وإن هذا الدين الذي أُمرنا بإقامته لقوله تعالى: ]أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ… [ [الشورى:13] لا بد إلا وأن يمر بسنة ماضية لا تتخلف: ]سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً[[الإسراء:77] فسرها قول ورقة بن نوفل للرسول صلى الله عليه وسلم عند بدء نزول الوحي عليه: “لتكدبنّه، ولتؤذنّه، ولتقاتلنّه، ولتخرجنّه”.

وشدة الطريق ووعورة السير يجب أن لا تلجئ المسلم لمثل هذا التفسير. فإن كان القعود عن إقامة الدين إثماً، فصرف الناس عنه بمثل هذا الفهم إثمه أكبر.

· وهناك من المسلمين من يقول بأن فرض العمل لإقامة الخلافة يجب أن يقتصر على دعوة الحكام وملئهم. والملأ من الناس هم سادة الناس ممن بيدهم الأمور ويحيطون بالحكم. فإن نجحت دعوة هؤلاء تغيرت المجتمعات لصالح الإسلام بسهولة وإلا فلن يحصل تغيير. والذي ألجأ إلى هذا الاقتصار على الملأ في الدعوة هو أن العمل لإقامة الخلافة من خلال دعوة المسلمين العاديين سيوقعهم تحت ذل الحاكم وستتحمل نفوسهم ما لا تطيق الصبر عليه، والمسلم قد نهي عن ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه».

والناظر في الواقع الذي تنشأ فيه الدعوات يرى أنها تنشأ في المجتمعات التي يكثر فيها الظلم والفسق والضياع والعنت ومشقة الحياة. وحيث يكون مرد كل هذه الظواهر إلى البعد عن الإيمان بالله وحده وحقه بالحاكمية. لذلك كان الأنبياء سابقاً، ومنهم رسولنا الكريم يدعون أول ما يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته.

والمجتمعات بشكل عام، قديماً وحديثاً، يقودها الحكام ومَلَؤُهم. وتكون التصورات الاعتقادية الباطلة وما ينشأ عنها من قوانين بحسب مصالحهم. ويحافظون عليها لحفاظهم على مصالحهم ومراكزهم. ويتولون كبر الدفاع عنها وحمايتها. وهذا ما حدا بأعرابي حصيف عندما سمع بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأول مرة لأن يقول كلمة بعيدة الغور، صائبة الهدف: “إن هذا أمر تكرهه الملوك”. والناس في هذه المجتمعات ينقادون لهؤلاء الحكام ومَلَئِهم، فهم يتأثرون أكثر مما يؤثرون. ويخضعون للنظام المطبق عليهم ولو كانوا له كارهين. ويعلمون أن دفع ظلم الحكام عنهم مكلّف.

والأنبياء والرسل عندما يبعثهم الله، يبعثهم إلى أقوامهم ليبصروهم الحق ويهدوهم سواء السبيل. وكان الذي يتولى مسؤولية الرد وقيادة المواجهة هم الحكام وملؤهم من الذين استكبروا.

والملأ: هم أعوان الحكام الظالمين، وهم أصحاب المصالح الأغنياء المترفون. وهم زعماء الناس وسادتهم، وهم الذين يشكلون الوسط السياسي والفكري للحاكم، ويعتمد عليهم ويستعين بهم. وهم الذين بيّن الله سبحانه أنهم في طليعة من يتصدى لأنبياء الله. لأن نفوسهم قد امتلأت بحب المال والجاه، ومصالحهم ارتبطت بمراكزهم. لذلك فعندما تأتي دعوة الله سبحانه وتعالى لهم يظنون أنها تتعارض مع مصالحهم ومراكزهم فيتصدرون المواجهة ويوغرون صدر الحاكم، ويزينون له محاربتها والقضاء عليها. فينصاع بما تحمل نفسه من شرور وآثام لنصائحهم وتقوم المواجهة على أشدها بين أنبياء الله وهؤلاء الحكام الذين يحيط بهم هؤلاء الملأ، وتبدأ المعركة الفكرية والكفاح السياسي بين أنبياء الله وهؤلاء الحكام وملئهم على استجلاب الناس. ويقوم الأنبياء بالدعوة إلى الحق بالحق وهم عزل وضعفاء لا يملكون من القوة إلا سلطان الكلمة الصادقة بما لها من تأثير على النفوس. فيواجههم الحكام ومعم ملؤهم بالحجة الباطلة ابتداءً من قولهم إنها سحر البيان أو إنها أساطير الأولين أو إن حاملها مجنون أو كذاب. وإن المؤمن بها سفيه من أراذل الناس. وحين لا ينفع ذلك يلجأون إلى التعذيب والتشريد والبطش والتقتيل. وتنفتح المعركة من أوسع أبوابها بين الأنبياء وأتباعهم وبين الحكام وملئهم ومن يبقى من الناس على دين ملوكهم. سُنّة واحدة يحدثنا القرآن عنها بإيجاز معبر.

فها هو سيدنا نوح يدعو قومه. فيعترضه أول ما يعترضه الملأ من قومه.

قال تعالى في سورة الأعراف: ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ @ قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ @ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ[[الأعراف:59-61].

وها هو سيدنا هود يدعو قومه عاداً. فيردُ عليه دعوته أول ما يردّ الملأ منهم.

قال تعالى في سورة الأعراف: ]وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ @ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ[[الأعراف:65-66].

وها هو سيدنا صالح حين دعا قومه ثموداً كان أول من أنكر عليه دعوته هم الملأ من قومه:

قال تعالى في سورة الأعراف: ]وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ… [ [الأعراف:73].

وقال تعالى: ]قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ @ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ[ [الأعراف:75-76].

  وها هو سيدنا شعيب حين دعا قومه في مدين واجهه الملأ مستكبرين..

قال تعالى في سورة الأعراف: ]وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ… [ [الأعراف:85].

وقال تعالى: ]قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا… [ [الأعراف:88].

وها هو سيدنا موسى إذ أرسله الله إلى فرعون وملئه فكذبوه وأخافوا من معه وأشاعوا عليه وحرضوا فرعون على قتله. قال تعالى: ]ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[[الأعراف:103]، وقال تعالى: ]قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ[[الأعراف:109]، ]وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ… [[الأعراف:127]، وقال تعالى: ]فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ[[يونس:83].

وتحدثنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والتي لا تشذ عن سيرة من سبقه من الأنبياء أن الذي كان يجمد الدعوة ويمنع الإيمان بها والاستماع لها هو شدة الملاحقة والتعذيب للمؤمنين. فيخاف المؤمن أن يفتنه قومه وأهله عن إيمانه. ويخاف الذي يريد أن يؤمن   لأنه سيلاقي ما يلاقيه من قد آمن . وتبقى المعركة سجالاً بين المؤمنين وبين من خالفهم وعلى رأسهم الملأ ينسحب البساط من تحت أرجل الطواغيت ويمسك بزمام الأمر من قام بحق هذه الدعوة.

وقد جاء في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “بينما النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، …» قال ابن مسعود رضي الله عنه فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر”.

إن مكة لم تعرف زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حاكماً واحداً وملأ له، بل كانت تقوم على ملأ متعددين وهم الذين ذكرهم البخاري في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء هم الذين تصدروا مواجهة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وصرف الناس عنها.

والأنبياء أُرسلوا إلى أقوامهم بينما أُرسِلَ محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الناس كافة.

وإذا تولى الملأ من قريش كِبْرَ الرد والصد فليس معنى ذلك أن الدعوة كانت مقصورة عليهم. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا الجميع من غير تفريق فلم تعرف دعوته تفريقاً بين غني وفقير ولا بين سيد ومسود. حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عاتبه ربه لما عبس في وجه ابن أم مكتوم وهو مؤمن فقير أعمى لما وجد عنده من حرص على دعوة السادة الذين كان مجتمعاً بهم ويطمع بإيمانهم طمعاً بإيمان من وراءهم. وليس هذا العتاب من الله لرسوله منعاً من الاهتمام بدعوة السادة بل فيه منع من التفريق فقط. فدعوة السادة كدعوة العامة سواء في الطلب.

حتى أن السِّيَرَ تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعو السادة لم يكن يدعوهم فقط لأنهم زعماء وسادة بل كان يدعوهم طمعاً في إيمان من وراءهم من الناس العاديين. إذاً فإن الدعوة كانت تشمل الجميع.

وكذلك فقد لبى نداء الدعوة أناس لم يكونوا معتبرين أسياداً في قومهم من مثل بلال وعمار وأمه وأبيه. وكذلك صهيب وسلمان لم يكونا من سادة قريش. وكذلك فإن عامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة والنهدية وابنتها وجارية بني مؤمل كلهم كانوا رقاباً أعتقهم أبو بكر رضي الله عنه وهؤلاء كانوا من أوائل المؤمنين.

فالرسول صلى الله عليه وسلم  كان يدعو من يأنس فيه الخير ابتداء ثم دعا الناس جميعاً وكان يستجيب له صغار السن وكبارهم. والوضيع في قومه والشريف.

فلا اقتصار في موضوع الدعوة بل شمول للجميع وبالطريقة التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يحقق لنا ما حققه الرسول صلى الله عليه وسلم من إقامة دار الإسلام.

· وهناك من المسلمين من يقول بأن العبادة هي المطلوبة وليس العمل لإقامة الدولة الإسلامية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى عبادة الله ولم يَدْعُ إلى إقامة دولة إسلامية، أو أن القضية المركزية هي عبادة الله وليست الدولة الإسلامية أو ليس المهم أن نقيم دولة إسلامية بل المهم هو أن نعبد الله، أو ما في هذا المعنى.

وللإجابة على هذا الاعتراض لا بد من تحديد واقع العبادة وكيف تتحقق.

فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليعبده. فالعبادة هي الغاية التي خلق الله الإنسان من أجلها. ومعنى (لا إله إلا الله) أي لا معبود إلا الله وحده وأن ما عداه باطل يجب أن يكفر به ويجب أن يشهد الإنسان بذلك. و(محمد رسول الله) أي أن تكون العبادة والطاعة بحسب ما جاء به محمد رسول الله وحده صلى الله عليه وسلم ويجب أن يشهد الإنسان بذلك.

فالعبادة هي لله وحده ولا تكون إلا بما شرع الله مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهذا أصل يجب تحقيقه في كل عمل أو قول في حياتنا.

فالمسلم حين يقوم في هذه الحياة بالعمل لتحقيق حاجة في نفسه أو لتحقيق قيمة ما في واقع حياته فهو إنما يندفع بدافع إشباع حاجاته وغرائزه التي قد تشبع على أكثر من وجه.

وإشباعها على الوجه الشرعي فقط والاقتصار عليه وتعليق ذلك على الإيمان بالله يجعل عمل المسلم عبادة.

وحيث أن وراء كل عمل تحقيق رغبة أو حاجة، كانت أعمال الإنسان شاملة لكل نواحي الحياة.

فالعبادة هي أن يجعل الإنسان كل أعماله مسيَّرة بأوامر الله ونواهيه، وأن يكون هذا التسيير قائماً على الإيمان بالله وحده وهذا يؤدي إلى شمولية العبادة لكل أعمال الإنسان.

وعندما تقول لمسلم: (أعبد الله) فليس معنى هذا أنك تأمره فقط بأن يصلي أو يزكي أو يحج أو أن يقوم بما وضعه الفقهاء تحت باب العبادات. إنما معناه أن يطيع الله في كل ما أمر وأن ينتهي عن كل ما نهى عنه.

فالإيمان بالله هو أصل الأعمال. والعبادة تكون لتسيير الأعمال جميعها بناء على الإيمان بالله وحده وعلى هذا فالدين كله عبادة، والعبادة معناها الذل. ومعنى ندين لله أي نعبده ونتذلل لأمر الله العليم الخبير ونخضع له راضين مستسلمين له.

لذلك كان من عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق، وإقامة دين الله في حياة المسلمين، ونشر الدعوة بين الناس جميعاً، وحماية بيضة المسلمين، كما تظهر في الصلاة والزكاة والقيام…

وعبادة الله الشاملة لكل أعمال الإنسان يقوم بها المسلم بحسب الواقع الذي يعيشه. فإذا كان واقع المسلم أنه لا يصلي فدعوته إلى الصلاة هي دعوة عبادة، ودعوته إلى الصيام هي دعوة إلى عبادة ودعوته إلى أن يبيع ويشتري بحسب الشرع الإسلامي هي دعوة إلى عبادة. وحيث أن الإيمان بالله هو أصل كل عبادة لذلك كان يجب أن يسبق الدعوة إلى الصلاة أو الصيام، إنارة منطقة الإيمان في المدعو، وجعل الإيمان هذا هو الدافع للتقيد والمسيّر للأعمال.

وكذلك فإن الدعوة إلى إقامة الإسلام، والحكم بما أنزل الله هي أمر الله يجب طاعته. ويقوم به من يؤمن بالله، ويجب أن يسبق الدعوة له الدعوة إلى الإيمان بالله، وبهذا تتحقق العبادة في هذا الأمر.

واليوم وبما أن المسلمين يعيشون في أنظمة كفر لا تستمد أحكامها من عند الله، ولا يحيا المسلم خلالها الحياة الإسلامية المطلوب أن يحياها، إلا بصورة جزئية. فتكون الدعوة إلى إقامة الدين هي دعوة إلى عبادة يجب أن تنصرف إليها الهمم وتنعقد عليها الجهود.

فسيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام ربط دعوته إلى عبادة الله بمشكلات عصره عندما دعا قومه إلى عدم تطفيف الكيل. وكذلك سيدنا لوط ربط دعوته إلى عبادة الله بمشكلات عصره عندما دعا قومه إلى عدم إتيان الرجال شهوة من دون النساء.

وكذلك نحن علينا أن نربط دعوتنا إلى عبادة الله بمشكلات عصرنا والتي تتجمع جميعها بالدعوة إلى استئناف الحياة الإسلامية حيث تتحقق عبادة الله على أكمل صورة.

ولذلك كانت طبيعة طرح هذا الموضوع من قبل هؤلاء المسلمين خاطئة لأنها تظهر وكأن العمل لإقامة الخلافة متعارضة مع العبادة. وفيه ضرب للقرآن ببعضه وهذا نهي عنه المسلمون.

وكذلك كانت الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية هي دعوة إلى إقامة الدين وهي عبادة. وهي دعوة إلى عبادة. ولكونها أمراً من الله الذي آمنا به. والذي لا يقوم بذلك يكون مفرطاً بعبادة الله سبحانه.

· وهناك من يقول بأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم غير محققة، ومعنى ذلك أننا غير ملزمين بنصوص ليست موثقة. وبالتالي فإننا غير مطالبين بالعمل بها. ويعتبرون أن ذلك حجة لهم (ليس عليهم) في القعود عن التأسي بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة حين العمل لإقامة الخلافة.

وللإجابة على هذا التساؤل نقول بأن السيرة هي أخبار وحوادث تحتاج إلى تحقيق وتوثيق. وبما أنها متعلقة بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فهي جانب من الوحي. وعليه يجب أن يهتم المسلمون بسيرة المصطفى اهتمامهم بالكتاب والسنة. فسيرته في مكة هي أعماله التي قام بها. وأدى قيامه بها إلى إقامة دار الإسلام في المدينة وإهمالها يورث القادرين على تحقيقها إثم عدم التحقيق ويورث المسلمين إثم عدم حث القادرين على تحقيقها.

ومن عجيب الأمر أن الذين يطرحون هذا الطرح هم ممن يهتمون عادة بتخريج الأحاديث وتحقيقها. يطرحونه وكأنهم مُعفَوْن من العمل لإقامة الدين، يطرحونه ويكتفون بأنهم سجلوا نقطة مهمة وفاصلة.

أَنسي هؤلاء الأخوة أنهم مأمورون كأي مسلم آخر بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية، مما يوجب عليهم البحث والتقصي والتحقيق. إنه إذا دعاهم الواقع لتخريج أحاديث نبوية في أمور شرعية، جزئية، وهو جهد يشكرون عليه، فبذلوا الجهود وقضوا الأوقات الطويلة في ذلك. فكيف بهم وكم عليهم أن ينفقوا من الجهود والأوقات متى علموا أن الأمر متعلق بإقامة الدين؟

إن كتب السيرة لم تصل إلى الحد الذي تهمل فيه أخبارها كما لم تصل إلى الحد الذي تؤخذ فيه كل مروياتها.

إن طبيعة الكتابة التاريخية التي عمل كتَّاب السيرة في مجالها لم يعتمد فيها ما اعتمد في طرائق المحدثين من شدة في التدقيق، وحرفية في المنحى، ومبالغة في الإيجاز، وتحرج في النقل.

هذه الطبيعة جعلت علماء الحديث أو المهتمين بالتحقيق ينظرون إلى كتّاب السيرة وكأنهم متحللون ومتساهلون. والحق أن علم الحديث يتطلب ما حققه المحدثون وعلماء الحديث في أنفسهم وفي نقلهم.

وإن علم السيرة يتطلب في جانب منه هذا، وهو الجانب المتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. أما الجانب الآخر فليس التساهل مما يغمز في هذا العلم. فالحوادث كثيرة والأيام تمر بسرعة فلا يستطيع كاتب السيرة أو التاريخ الإحاطة بكل الحوادث إن هو أراد أن يعتمد طريقة المحدثين. أضف إلى ذلك أن سيرة غير الرسول وصحابته ليست وحياً إن ضاعت ضاع معها جزء من الدين. من هنا كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من أهم ما يجب على المسلمين العناية به لأنها تحوي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وسكوته وأوصافه. وهذه كلها تشريع كالقرآن. فالسيرة النبوية هي مادة من مواد التشريع لذلك تعتبر جزءاً من الحديث. وما صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر دليلاً شرعياً لأنه من السنة. هذا فضلاً عن أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم أمر به القرآن، قال تعالى: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[[الأحزاب:21] فالعناية بالسيرة وتتبعها أمر شرعي.

وقد كانت طريقة الأوائل في نقل السيرة تعتمد على رواية الأخبار. وقد بدأ المؤرخون شفوياً، وبدأ الجيل الأول الذي شاهد أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم أو سمع عنها ورواها يرويها لغيره. وحملها عنه الجيل الذي بعده، وقيد بعضهم منها أحاديث متفرقة كالتي تُرى في كتب الحديث حتى الآن. حتى إذا جاء القرن الثاني رأينا بعض العلماء يبدأون في جمع أخبار السيرة وضم بعضها إلى بعض وتدوين ذلك بطريقة الرواية بذكر اسم الراوي ومن روى عنه تماماً كما يفعل في الحديث. ولذلك يستطيع علماء الحديث ونقاده أن يعرفوا أخبار السيرة الصحيحة المقبولة من الضعيفة المردودة بمعرفتهم الرواة واسند. وهذا هو المعتمد عند الاستشهاد بالسيرة إذا كان صحيحاً. فالمسألة ليست إنشاء علم جديد، وإنما تقصي الدقة وتوخي الصواب من قول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه يوجد مَن حقق السيرة من بعض المهتمين. والجماعة أو الحزب الذي يقوم بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين لا بد من أن يتحقق من النصوص التي يعتمد عليها كأدلة لعمله.

كذلك فإن كتب السيرة على اختلافها تجمع كما تجمع كتب الحديث وكما يرشد القرآن الكريم على مراحل سير الدعوة وأعمالها. فقد بيّن القرآن الكريم كثيراً من تفاصيلها بالشكل الذي يكفي لأن يلقي الضوء الساطع على صحة المنقول منها. فقد جاء في القرآن الكريم ما يبين كثيراً في تحديد المطلوب وبشكل دقيق.

فمثلاً تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لمهاجمة العقائد الفاسدة فتعرض للأصنام والدهرية واليهودية والمجوسية والصابئين وقد دل القرآن على ذلك في كثير من آياته الشريفة… وهاجم الرسول صلى الله عليه وسلم العادات والأعراف حيث هاجم الوأد والوصيلة والحام والأزلام، وتعرض للحكام وتناولهم بالاسم وبالأوصاف وكشف مؤامراتهم على الدعوة والجماعة تلتزم بهذا كله. والتزامها به يكون التزاماً بأصل العمل وبالمعنى العام منه. وليس بتفصيلاته ولا وسائله ولا أشكاله. فتتعرض للأفكار الخاطئة والمفاهيم المغلوطة وتهاجم الأعراف والعادات المنحرفة عن الإسلام في واقعها وتتعرض للحكام وتكشف مؤامراتهم وتبين أفكار الإسلام وأحكامه وتدعو الأمة إلى تبنيها والعمل معها لإقامتها في حياتهم.

والرسول صلى الله عليه وسلم واجه وهو أعزل من غير محاباة ولا مسايرة ومن غير قبول لأنصاف الحلول، ورفض كل عروضات الترغيب والترهيب وصبر ولم يحد عن أمر ربه. والقرآن قد حدثنا عن هذا فيكون هذا إرشاداً للجماعة أثناء سيرها.

بل ان نزول قوله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم: ]فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ… [[الحجر:94] فيه دلالة على أنه قبل نزول هذه الآية لم يكن صدْعٌ بل سِرّية واستخفاء وهي مرحلة ما قبل الصدع.

وقوله تعالى: ]لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا[[الشورى:7] أمر بالدعوة خارج مكة وذكر القرآن للمهاجرين والأنصار دليل على وجود الهجرة والنصرة.

وبذلك يكون القرآن هو المرشد الأول. وكتب الحديث زاخرة بأخبار المسلمين في العهد المكي. والبخاري مثلاً قد ذكر تحت باب (ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة) فذكر حديث خباب بن الأرت عندما جاءه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء للمسلمين بالنصر، وذكر كذلك دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على الملأ من قريش وذكر كذلك أشد ما لاقى الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه حين صعد إلى الطائف. وكذا في باقي كتب الحديث. ولذلك فإننا لسنا أمام أمر مطلوب منا فعله ولا نملك نصوصه.

والجدير بالذكر هنا أن كُتّاب السيرة هم أئمة موثقون عدول ومشهود لهم.

– فابن إسحاق (85 هـ – 152 هـ) وله (المغازي) قال عنه الزهري: “من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق”. وقال فيه الشافعي: “من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق”. وذكره البخاري في تاريخه.

– وابن سعد وله (الطبقات). (168 هـ – 230 هـ) قال عنه الخطيب البغدادي: “محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه فإنه يتحرى في كثير من رواياته”. وقال عنه ابن خِلَّكان: “كان صدوقاً ثقة”. وقال عنه ابن حَجَر: “أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحررين”.

– والطبري (224 هـ – 310 هـ) وله (تاريخ الرسل والملوك) اتبع فيه طريقة الإسناد. وقال عنه الخطيب البغدادي: “كان عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم”. وكان لغلبة الحديث عليه أن وضع كتابه في التاريخ على طريقة المحدثين. وله كتاب في الحديث يسمى (تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار) حيث قال عنه ابن عساكر: إنه من عجائب كتبه وتكلم فيه بكل ما يصح عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

– وكذلك فإن ابن كثير والذهبي يعتبران ممن لهم باع طويل في الحديث.

· وهناك من المسلمين من يرى أن حمل السلاح في وجه حكام اليوم هو طريقة التغيير عليهم الواجب الاتباع. ويستدلون بحديث أشرار الأئمة الذين طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منابذتهم بالسيف إن لم يقيموا حكم الله.

وللإجابة على هذا الفهم الذي نجلُّ أصحابه وإن خالفناهم الرأي، نقول: أن التحقق من مناط الحديث أي الواقع الذي ينزل عليه ليعالجه يكشف لنا فقهه الصحيح. فالحديث يتناول الحاكم الإمام، في دار الإسلام، الذي بويع مبايعة شرعية. فكان إماماً بمبايعة المسلمين له. وكانت الدار التي يحكمها هذا الإمام هي دار إسلام أي تحكم بالإسلام وأمانها بأمان المسلمين. والمسلمون في هذه الحالة مأمورون بطاعته فإن حدث وفرّط هذا الحاكم بما أنزل الله، وأخذ يحكم علناً بأحكام الكفر، ولو بحكم واحد، من غير أن يكون معه حتى ولا شبهة دليل فإن المسلمين مأمورون بمنابذته بالسيف على ذلك. وتأمل معنى الحديث، موضوعنا، يتبيّن لك ذلك. فعن عوف بن مالك الأشجعي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم» قيل يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة». رواه مسلم، والمراد بإقامة الصلاة أي تطبيق أحكام الشرع من باب تسمية الكل باسم الجزء.

أما حاكم دار الكفر فواقعه يختلف تماماً: فهو ليس إماماً للمسلمين وإن كان حاكمهم، وليس منصباً عليهم تنصيباً شرعياً، كما هو مطلوب شرعاً، ولم يتعهد أصلاً بإقامة أحكام الإسلام في حياتهم وإن كان فرضاً عليه.

كذلك فإننا إذا نظرنا إلى واقعنا فإننا سنجد أنه لا يكفي حمل السلاح في عملية التغيير. وأن المسألة تتعدى تغيير الحاكم إلى الحكم بالإسلام، فمن سيقوم بأعبائه. إنه يحتاج إلى رجال دولة وإلى وسط سياسي إسلامي مجرب. وإنّ أمرَ الحكم بالإسلام ليس من السهولة بحيث يستطيعه قائد عسكري مهما أوتي من كفاءة عسكرية أو من إخلاص للإسلام. إنه يحتاج إلى خبرة ودراية ومتابعة وإلى فهم شرعي مميز. وطريق الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمّن كل ذلك.

– إنه يؤمّن القائد المسلم السياسي الفذ الذي يملك خبرة السنوات الطويلة التي قضاها في حمل الدعوة قبل إقامة الدولة الإسلامية، يعلم أحابيل الدول الكافرة ودجلها ودهاءها فلا تخدعه، ويستطيع أن يحمي الدولة وينتقل بها إلى الدور الذي يليق بها بين دول العالم: دولة هادية مهدية وخلافة راشدة على منهاج النبوة.

– ويؤمّن الشباب المؤمن الذي حمل أعباء الدعوة قبل قيام الدولة حيث سيشكلون مع غيرهم من المسلمين المهتمين بأمور الدعوة الوسط السياسي الإسلامي وسيكون منهم الولاة وأمير الجهاد والسفراء وحملة الدعوة للناس في الدول الأخرى.

– ويؤمّن القاعدة الشعبية التي تحتضن الإسلام ودولته وتحميها.

– ويؤمّن أهل القوة المدربين والذين ستزيد قوتهم بوقوف الناس معهم وليس في وجههم خاصة حين يعلمون أن الحاكم وجهاز الحكم معه والقوة التي يستند إليها هي قوة لهم يقومون بما فرضه الله عليهم من تطبيق للإسلام وإعزاز للدين.

ثم ان العمل المسلح يحتاج إلى مال وسلاح وتدريب وهو يفوق قدرة الحركة إلا إن هي لجأت إلى الغير، وهذا هو أول سبيل السقوط. وقد جرب المسلمون هذه الطريق فكانت وبالاً عليهم. مع ما في كلمة (جرَّب) من مغالطة.

وإننا حين نشير إلى حمل السلاح ليس هو الطريقة الشرعية في التغيير فذلك ليس ضناً بهؤلاء الحكام الظلمة الذين لم يرعَوْا في المسلمين إلاًّ ولا ذمة. بل ضناً بأخوة لنا في الدين، مخلصين نحب أن تتوحد جهودهم في العمل الشرعي المطلوب. ونذكرهم بمنع الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة من استعمال السلاح بناء على طلبهم وقوله لهم: «لم نؤمر بذلك بعد، وأمرت بالعفو» ونزول قوله تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ… [[النساء:77] الآية.

وهكذا تتضافر الأدلة الشرعية لتؤيد سلوك طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة. وأية إضافة أو حذف أو تغيير أو تبديل أو تحوير سيظهر أثرها السيئ على الدعوة وعلى الجماعة وعلى الأمة الإسلامية. ومن هنا حرصنا على أهمية القراءة الجيدة للشرع ولطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل الوصول إلى حسن التأسي، وعلى الله قصد السبيلq

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *