العدد 56 -

السنة الخامسة – العدد 56 – جمادى الأولى 1412هـ الموافق كانون الأول 1991م

الغرب والصهيونية، أيهما يسخّر الآخر؟

تعقيباً على ما جاء في مقال الدكتور عبد الوهاب المسيّري، عن الغرب والصهيونية أيهما يسخر الآخر، فإنني أرى أن ما جاء في المقال لم يف بالغرض المطلوب، ولم تتضح الصورة الكاملة لدى القارئ ولم تتضح معالمها، وقد اقتصر البحث على الصراع القائم بين اللوبي الصهيوني والسياسة الأميركية. وبين أن لا أثر للوبي الصهيوني على السياسة الأميركية. فالمسيّر للسياسة الأميركية هي المصلحة الأميركية ليس غير. وأن إدراك زعماء اليهود لأهمية وجودهم في المنطقة بالنسبة لمصالح أميركا وغيرها يجعلهم يتمادون في طلباتهم وابتزازهم لدول الغرب قاطبة بشكل عام وللمصالح الأميركية بشكل خاص.

والذي لا بد من إيضاحه هو: كيف ولماذا وُجدت المنظمات الصهيونية، ومن أوجدها، ومن أوجد إسرائيل؟ هل هو نشاط اليهود وإخلاصهم لقضيتهم كما يتبادر، للذهن، أم أنه كيان فرض على اليهود كما فرض على المسلمين؟

وهل الغاية منه العطف على شعب إسرائيل المشرد، وإيجاد وطن قومي له؟ أم أنه لغاية أخرى في نفس من أوجد هذا الكيان؟

أما بالنسبة لنشوء المنظمات الصهيونية فإن المتتبع لنشوء الحركة الصهيونية يرى أن الظرف الذي وضع فيه اليهود في أوروبا وروسيا كان كافياً لدفع اليهود للبحث عن ملجأ يأوون إليه، فكانت الهجرة الواسعة من روسيا ودول أوروبا إلى أي مكان يقبل بوجودهم.

إن هذا الظرف مكن بريطانيا ودول أوروبا الغربية مثل فرنسا وإيطاليا، التي اكتوت بنار الإسلام والمسلمين، من إيجاد تكتلات يهودية تعمل لغرس فكرة العودة إلى أرض الميعاد: أرض فلسطين، لا حباً باليهود بل لغاية في نفس يعقوب قضاها. تظهر جلية في مؤتمر لندن (مؤتمر كامبل باترمان).

وأما القول أو العزف على مقولة: العطف على شعب مشرد مضطهد منذ آلاف السنين فيعارض ما حصل في الدول التي تدعي العطف على اليهود، إذ أن من يعطف على أحد يؤويه عنده ويرعاه. ففي بريطانيا (مؤسِسَّة المنظمات الصهيونية وراعيتها) أصدر الملك إدوارد الأول مرسوماً يقضي بطرد اليهود من الأراضي البريطانية، وكان رجال الدين النصارى يجوبون المناطق لإثارة الناس على مناهضة الكفار (اليهود). وقد رُحّل من اليهود أكثر من 16 ألف يهودي إلى فرنسا.

وفي فرنسا قرر الملك فيليب طردهم إلى أسبانيا عام 1306. وفي عام 1489 أمر لويس الثاني عشر ملك فرنسا بنفي اليهود متهماً قادتهم بارتكاب الجرائم. وخيرهم بين النفي أو التنصر. فقام جامور حاخام مدينة ارل باستشارة مجلس الحاخامين في استامبول. فرد المجلس الحاخامي عليه “بأن ملك فرنسا يطلب منكم أن تعتنقوا الديانة المسيحية. فلبوا طلبه، إذ ليس في مقدوركم مخالفته. ولكن احتفظوا على الدوام بشريعة موسى في قلوبكم. وتقولون بأنهم يقصدون الاستيلاء على أموالكم فاجعلوا أبناءكم تجاراً. وتؤكدون بأنهم يهدمون مجامعكم وكنائسكم فابذلوا الجهد لأن يصير أبناؤكم كهنة واكليريكين. وهكذا يتسنى لكم هدم كنائسهم”.

وأما في أسبانيا فقد طرد اليهود منها كلية سنة 1493.

الاضطهاد على أشده خصوصاً بعد أن اشترك اليهود في محاولة اغتيال القيصر.

وهل إقامة كيان إسرائيل فرض على اليهود كما فرض على المسلمين؟

من تتبع مواقف اليهود من الحركة الصهيونية بشكل عام ومن العودة إلى فلسطين ومطالبتهم بإقامة كيان لهم في الأرجنتين أو البرازيل أو أوغنده يظهر جلياً أن فكرة العودة إلى أرض الميعاد كما أُطلق عليها لم تكن سوى فكرة أطلقها بعض المفكرين اليهود إما من كتابه كما يدعي، أو من عنده، أو أن بريطانيا أوحت له بمثل ذلك.

إلا أن المشاهد بالحس أن بريطانيا وهي الحاقدة على الإسلام والمسلمين هي صاحبة هذه الفكرة والتي لم تألُ جهداً في تحقيق ذلك – سواء رضى اليهود بذلك أم لم يرضوا – وأكبر دليل على ذلك مؤتمر لندن. (مؤتمر كامبل باترمان سنة 1905). ويبدو لي أن بريطانيا بعد أن عجزت عن تحقيق غايتها في إقناع اليهود، أو إقناع الدولة العثمانية باحتضان اليهود وإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، لجأت إلى العمل من القمة إلى القاعدة فدعت إلى عقد مؤتمر لندن. ودعت إليه كلاً من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولندا. عقد هذا في لندن سنة 1905 بصورة رسمية سرية، وقد استمرت جلسات المؤتمر حتى سنة 1907 برئاسة رئيس وزراء بريطانيا السير هنري كامبل باترمان. وقد تم تشكيل لجنة عليا متخصصة في الشؤون الاستعمارية مؤلفة من أعضاء الدول المشتركة واجتمعت هذه اللجنة في لندن 1907 وكانت تضم جماعة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول.

وانتهى تقرير المؤتمر عام 1907 باتخاذ توصيات عديدة مثل تقسيم مناطق النفوذ بينها وغير ذلك من أمور الاستعمار لأن اليافطة التي عقد المؤتمر تحتها يافطة الاستعمار والمحافظة عليه. إلا أن هناك أمراً هاماً لا بدّ من الوقوف عنده هو أكثر ما يهمنا من هذا المؤتمر وأخطره على الإطلاق. ولا أعني اتخاذ القرار بإنشاء دولة إسرائيل في فلسطين وذلك قبل وعد بلفور بعشر سنوات، وما يترتب على هذه الدولة من فصل عرب المشرق عن عرب المغرب ودعمها وتقويتها.

وإنما أعني صرف عداء المسلمين وتوجيهه إلى هذه الدولة بدلاً من الحقيقة التي استمرت أربعة عشر قرناً من حروب طاحنة بين الإسلام والمسيحية. فكان أخطر ما في هذه القرارات توجيه العداء لليهود وصرفه عن النصارى. بل اتخاذ النصارى أصدقاء وأولياء واتخاذ اليهود فقط أعداءً لهذه الأمة.

ان هذا الجانب الذي أهمله الباحثون، وأغفله المحللون قصداً أو عن غير قصد هو أخطر ما في الأمر كله.

نعم ان اليهود كفرة أعداء لله أعداء للإسلام والمسلمين. لم يغفلوا يوماً واحداً عن الكيد للمسلمين. إلا أن الحرب الفعلية معهم كان آخرها سقوط خيبر. وآخر صدام سياسي كان جلاء اليهود عن الجزيرة العربية بكاملها. ثم تجد هذا الصراع مع بداية ما يسمى بالحركة الصهيونية، بل على الأصح حين وضع الغرب الحركة الصهيونية في وجه المسلمين. وقد نجح نجاحاً منقطع النظير حين استطاع أن يقنع المسلمين عامة أن عدوهم الأول والأخير هو اليهود. واختص بذلك العرب، مصدر خوفه وقلقه، حتى بات المسلمون ومنهم العرب يرون أن أي تعامل مع اليهود هو خيانة عظمى، أمّا التعامل مع من أوجد اليهود والصهيونية فلا شيء فيه، بل لا يرى خطيب المسجد غضاضة حين يقول: (إخواننا المسيحيون) وأن يدين بالولاء لهم.

والغريب في الأمر كيف استطاع الغرب تركيز هذه الفكرة في نفوس المسلمين قاطبة، وكيف استطاع أن يمحو آثار حروب استمرت أربعة عشر قرناً، وكيف استطاع أن يزيل من النفوس آثار الحروب الصليبية واحتلاله جزءاً من بلاد المسلمين ما يزيد عن مائة سنة، كيف استطاع أن ينسي المسلمون الأندلس، بل ودول أوروبا الشرقية، وست جمهوريات من الاتحاد السوفياتي، وشبه القارة الهندية.

وجعل العداء فقط لإسرائيل.

هذا ما وددت من كاتب المقال، أن يشير إليه في مقالته، فالمسألة ليست: مَنْ سيّر مَنْ؟ وإنما المسألة: من أوجد إسرائيل وما الغاية من وجودها؟

أما بالنسبة لأميركا فلم تكن حاضرة يوم ولدت المنظمات الصهيونية من رحم بريطانيا، ولا يوم ولدت إسرائيل من رحم الدول الأوروبية مجتمعة وعلى رأسها بريطانيا. كانت في عزلتها، كانت في عالمها الجديد، ولكنها حين قررت الخروج من عزلتها بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت هذا اللقيط فاحتضنته، وقامت على إرضاعه وتربيته. مدركة الغاية التي وجدت إسرائيل من أجلها وبدأت تستعملها كما تشاء.

حافظ إبراهيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *