العدد 317 -

السنة السابعة والعشرون جمادى الآخرة 1434هـ – نيسان 2013م

دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات (2)

——————–

ياسين بن علي

——————–

نشأة مفهوم الأقليات

لم تعرف المجتمعات الأوروبية قبل ما يسمى بعصر التنوير مفهوم الأقليات كمفهوم سياسي وقانوني، وذلك لأن الحكم كان قائماً على نظرية الحق الإلهي القائلة بأن الملك أو الحاكم يحكم باسم الله وباسم الدين، وكانت السيادة تبعاً لهذه النظرية للملك لا للشعب، فهو الذي يشرع وهو الذي يحكم، وحكمه ماض ومُسَلَّم به، وعلى رعاياه الطاعة والقبول بغض النظر عن أعراقهم ولغاتهم، ولما بدأ الفكر الغربي بالتحرر من سلطان الكنيسة وأخذ يتمرد عليها وعلى الفكر الديني السائد في القرون الوسطى فإنه اتجه وجهة عالمية وجعل الفرد محل اهتمامه، وكانت شعارات الثورة الفرنسية التي كانت محطة مهمة في تاريخ الصراع بين رجال الفكر والكنيسة شعارات ذات صبغة كونية «حرية، إخاء، مساواة».

ولكن الفكر الغربي واجه أزمة في الفكر السياسي عندما أراد أن يطبق الأفكار التي ينادي بها في دولة بعد القضاء على نظرية الحق الإلهي، حيث كان ملزماً بإيجاد نظرية تحل محلها ويمكن تطبيقها، ولما كانت فكرته تقول بأن السيادة للشعب لا للملك، وكانت في الوقت نفسه ذات صبغة كونية؛ فقد وجد إشكالية في تعريف الشعب أو الأمة، إذ لم يكن للشعب بمقتضى نظرية الحق الإلهي دور مهم في ناحية الحكم، وكان يعرف عن طريق الملك، فرعايا الملك الخاضعون لحكمه هم الشعب، وبعد أن سقطت هذه النظرية ولم يعد الشعب يعرف عن طريق الملك، فمن هو الشعب إذن الذي ينبغي أن يملك السيادة؟ وهل ينبغي جعل العالم كله دولة واحدة ويكون الناس جميعاً هم الشعب؟ وللخروج من هذا المأزق الفكري اخترع فلاسفة الغرب الفكرة القومية بمفهومها السياسي وعرفوا الشعب أو الأمة على أساسها. والفكرة القومية بهذا المفهوم السياسي لم تكن تمثل حقيقة قائمة في أرض الواقع بل هي مسألة متصورة ذهنياً فقط، إذ لم يكن هناك شعب فرنسي ولا إنجليزي ولا ألماني يمثل وحدة سياسية بالمفهوم القومي، بل كانت هناك مناطق خاضعة للملوك المختلفين، فكان الرعايا الخاضعون للملك الفرنسي هم الذين تقوم بهم الدولة الفرنسية، وكان هناك حكام وأمراء متعددون في منطقة واحدة كألمانيا مثلاً. فقام الغربيون بتخيل شعب اسمه الشعب الفرنسي في حدود الدولة الفرنسية القومية وآخر اسمه الشعب الألماني وهكذا، وأعطوه صفات ومميزات تميزه عن غيره تتمثل في العرق الواحد واللغة الواحدة والتاريخ الواحد المشترك، ولما لم تكن هذه الصفات والخصائص موجودة على النحو الذي أرادوه فقد افترضوا وجودها افتراضاً، وفرضوا القومية على الوجه الذي اخترعوه وتصوروه ضمن وحدة جغرافية وسياسية فرضاً. وخير مثال على ذلك ألمانيا فإنها كانت مكونة من إمارات كثيرة مستقلة، وكانت كل منطقة تتحدث بلهجة بعيدة عن اللهجات الأخرى، ولم تكن هناك لغة جامعة فصحى، فجعلت إحدى اللهجات اللغة المعتمدة وأجبر الناس على دراستها، وحرص المفكرون الألمان والشعراء والكتاب على زرع مفهوم القومية الألمانية في قلوب الناس بعد أن كان غريباً عنهم، وحاولوا الحديث عن عرق واحد ولغة واحدة وتاريخ مشترك، ولما جاء بسمارك وحد المناطق المتنافرة المقسمة بقوة الحديد والنار.

إن هذا الإسهاب في شرح كيفية تكوّن الدولة القومية في الغرب وكيفية ميلاد الشعوب والأمم بهذا المفهوم مهم جداً لمعرفة كيفية نشأ مفهوم الأقلية عندهم، فالدولة القومية والأمة القومية لما صارت تقوم على معرفات من العرق واللغة والتاريخ المشترك افترضت وجود عرق واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد في الوحدة السياسية الواحدة وجعلت هذه المعرفات هي المكونة للأمة أو الشعب الحافظة لوحدته وهي التي تعطي الشرعية للحكم وللحاكم، ولما كان الواقع بخلاف ما افترض وكان في كل وحدة سياسية أعراق مختلفة ولغات متنوعة وتاريخ متباين، فقد عمل على دمج هذه المجموعات في القومية المفترضة، وحيث لم يتيسر ذلك فقد وجدت مجموعات في الدولة القومية تخالف في العرق أو اللغة أو التاريخ، أو فيها جميعها ما حددت على أساسه الدولة القومية، وقد أصبحت هذه المجموعات تعرف بالأقليات العرقية واللغوية وألحق بها الأقليات الدينية والثقافية وغيرها. وعليه فإن الأقليات بمفهومها السياسي والقانوني الموجود في الغرب هي نتاج تطور فكري وسياسي في الغرب، وبكلمات أدق هي نتاج الدولة القومية والأمة القومية بالمفهوم السياسي الحديث وإفراز من إفرازاتها.

خطأ مفهوم الأقليات

إن مفهوم الأقليات كما أسلفنا فرع عن الفكرة القومية التي نشأت في الغرب، والفكرة القومية كمفهوم سياسي فكرة فاسدة لأسباب كثيرة لا يتيسر لنا رصدها في هذا السياق، ويكفي في بيان فسادها أنها جاءت لحل أزمة في الفكر السياسي الغربي، فهي ليست أصيلة بل هي نوع من الحل الاضطراري والتلفيق، وهي فوق ذلك فكرة خيالية مبنية على أوهام؛ لأن الأمة بالمفهوم القومي الغربي غير موجودة في أرض الواقع بل متصورة فقط. ثم إن بناء الأمة التي تتكون منها الدولة على أسس عرقية أو لغوية خطأ؛ لأنه لا يجوز أن يكون للعرق أو اللغة مدخل في إنشاء الأمة وتعريفها لأنها تقود إلى صراع وخصومات داخل المجتمع الواحد والدولة الواحدة، وظاهرة الأقليات هي نوع من أنواع هذا الصراع وهذه الخصومة. وما دامت الفكرة القومية فاسدة فإن مفهوم الأقليات المبني عليها فاسد أيضاً.

إن مفهوم الأقلية بمعناه السياسي والقانوني الغربي هو مفهوم خطر جداً على المجتمعات البشرية، فهو يفترض وجود تنافر وصراع بين الأقليات والأكثرية من جهة، وبين الأقليات فيما بينها من جهة أخرى لمجرد وجود اختلافات عرقية أو دينية أو لغوية أو ثقافية، تماماً مثلما افترضت الشيوعية وجود صراع بين طبقات المجتمع وبين العمال وأرباب العمل، مع أن هذه الاختلافات طبيعية في المجتمعات وهي من سنن الله، ولا يلزم من وجود هذه الاختلافات حصول صراعات وتولد حقوق وواجبات بهذه الأوصاف. فأين المشكلة في وجود أعراق متعددة في بلد واحد يمثل وحدة سياسية واحدة بحيث يسيطر عليها الانسجام والاتفاق بدل التنافر والاختلاف؟ ولماذا يفترض أن تكون الناحية العرقية أو اللغوية مثلاً سبباً لمطالب سياسية؟! وأن تكون الأكثرية العرقية متعدية على الأقليات العرقية الأخرى حتى يجعل مفهوم الأقليات مدخلاً لرد هذا التعدي بحفظ حقوق الأقليات؟

إن مفهوم الأقليات الغربي يؤسس لتفتيت المجتمعات وضرب مكوناتها بعضها ببعض، وهو مؤذن بوجود فوضى عارمة في الدول بدل أن يكون عامل تثبيت واستقرار، حتى في المجتمعات والدول الغربية، فالدول الغربية اليوم هي التي ترسم سياسات العالم وهي المؤثرة في الموقف الدولي، وقد اتفقت على جعل الصراعات فيما بينها خارج أراضيها، ولا يوجد في العالم اليوم قوة تعمل على ضرب الدول الغربية ومصالحها، ولولا ذلك كله لرأينا الصراعات في هذه الدول على أشدها خصوصاً إن وَجدت من يغذيها؛ ففي الدول الأوروبية يوجد أكثر من 300 أقلية عرقية حسب تعريفهم، وهي في أغلبها غير حاصلة على حقوقها بمقتضى مفهوم الأقلية، ويكفي إلقاء نظرة على ما حصل مع الباسك في إسبانيا وفرنسا ومع الكاثوليك في المملكة المتحدة، وما حصل في يوغوسلافيا لوضع سيناريوهات حول ما ستؤول إليه الأوضاع في أوروبا إذا ما أثيرت فيها مسألة الأقليات.

وكذلك فالتعريف العائم لمفهوم الأقلية وعدم ضبطه والنسبية التي فيه تجعله مرشحاً لمزيد من التوسع ليشمل فئات متعددة في المجتمع تعد نفسها من الأقليات وتطالب بمزيد حقوق وفق مفهوم الأقليات، فالمعرفات التي اعتمدها المفكرون الغربيون في تحديد الأقلية معرفات غير ثابتة ومطاطة، إذ يمكن أن يفسر العرق واللغة والدين والثقافة تفسيرات متعددة، فيجعل العرق الواحد أعراقاً، واللغة الواحدة لغات ولهجات، والدين الواحد أدياناً ومذاهب، والثقافة الواحدة ثقافات وثقافات، وفوق ذلك فقد تطالب بعض الفئات في المجتمع بعدِّها أقلية لمعرِّفات أخرى تكتسب أهمية أكبر عند هذه الفئات من المعرفات المعتمدة حتى الآن، وقد تكون هذه المعرفات تافهة، ولكنها تملك سلطاناً أقوى من سلطان المعرفات التقليدية، فالمتابع للشأن الغربي والواقف على واقع المجتمعات الغربية يلاحظ أن الرابط بين مجموعات سائقي الدراجات النارية أو فرق مشجعي لعبة كرة القدم أقوى وأكثر أثراً من الرابط العرقي أو الديني الذي يجمع هؤلاء، فلماذا تبقى المحددات العرقية والدينية هي المعتبرة بينما لا يلتفت إلى هذه المحددات؟ وقل مثل ذلك في محددات أخرى كالروابط المهنية والفنية والعلمية. وأولى من هذه جميعها المعرفات الفكرية والسياسية التي تنتظم فئات ومجموعات في المجتمع لا يمكن إدراجها تحت الأحزاب السياسية لأنها لا تفي بالشروط المطلوبة في الأحزاب السياسية، وهكذا إذا سرنا في عدِّ المعرفات التي يمكن أن يتوسع مفهوم الأقليات ليشملها فإننا لن نحصيها لكثرتها وتنوعها، وبهذا يظهر أن المعرفات التي وضعها المفكرون الغربيون هي معرفات انتقائية عشوائية لا تصمد أمام الضبط الفكري الصحيح. وتدل على خطأ مفهوم الأقليات.

وهناك ناحية تضليلية في مفهوم الأقليات، إذ يظهر للوهلة الأولى أن العمل بهذا المفهوم يضمن للأقليات حقوقها، مع أن الواقع بخلاف ذلك في كثير من الأحيان، ولنأخذ المشاركة السياسية كمثل على ذلك، فإنه يجري إيهام الأقلية بإحراز حقوقها عن طريق مشاركة بعض أبناء هذه الأقلية في المناصب السياسية، بينما يجري استغلالها لتحقيق مصالح لجهات أخرى في المجتمع، فأوباما انتخب كأول رئيس من أصول سوداء للولايات المتحدة الأميركية وكان لتصويت السود لصالحه أثر في نجاحه في الانتخابات، فما الذي عمله للأقلية السوداء هناك؟ وما هي المطالب التي حققها لهم؟ وهل يمثل الرجل فعلاً آمال الأقلية السوداء بالمساواة مع البيض من الشعب الأميركي أم أنه خادم لمصالح أصحاب رؤوس الأموال ومنفذ لخططهم وقراراتهم بغض النظر عن الأقلية السوداء وحقوقها؟! وها هم المسلمون في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها يدعون للمشاركة في الانتخابات البرلمانية تحت غطاء تحقيق مصالح الأقليات، ويقدم بعض من ينتسبون إلى الإسلام لاحتلال مناصب سياسية باسم مشاركة الأقليات، كأعضاء في البرلمان الإنجليزي من أصول باكستانية، ووزراء في حكومتي ألمانيا وفرنسا من أصول مغاربية وتركية، ومسؤولين كبار في بلديات في هولندا وبلجيكا من أصول مغربية وتركية، وكالمشاركة في الأحزاب السياسية الغربية ليصل بعضهم إلى مناصب قيادية كزعيم حزب الخضر في ألمانيا فهو من أصول تركية، وهكذا. فما الذي يحققه المسلمون من هذه المشاركة ومن حصول أفراد منهم على مناصب سوى عمل هؤلاء الأفراد على الاستفادة الشخصية من هذه المناصب وتنفيذ ما تريده القوى الفاعلة من أصحاب رؤوس الأموال والنافذين؟ ومثل ذلك التصويت للأحزاب الغربية التي تدعي أنها تعمل على حماية الأقليات وحفظ حقوقهم وتقدم نفسها على سبيل المثال للمسلمين كضامن أفضل لمصالحهم من الأحزاب الأخرى، فيقوم المسلمون بانتخابها بناء على هذا الوهم ولكنها لا تلبث أن تنقلب عليهم بعد أن أخذت منهم حظها، وما أمر انتخاب بوش الابن مع حزبه، وانتخاب شيراك في فرنسا وانتخاب توني بلير في بريطانيا وانتخاب الحزب الاشتراكي في كل من ألمانيا والنمسا عنا ببعيد، مع ما قامت به هذه الأحزاب وممثلوها من إضرار بالمسلمين وتعدّ عليهم سواء في البلاد الغربية أم في العالم الإسلامي، فأين هي المصلحة في مشاركة الأقليات في العمل السياسي المدعى لتحصيل حقوقها؟

وإذا ما أضفنا إلى مخاطر مفهوم الأقليات سالفة الذكر البعد الاستعماري له فإنه يبرز مدى إضراره بالبشرية واستغلاله من قبل الدول الغربية لزرع الشقاق والاختلاف في دول العالم المستضعفة لتحصيل مصالح مادية، فآلاف الحروب التي أشعلها الغرب في ما يسمى بدول العالم الثالث ومنها البلاد الإسلامية على خلفية إثارة النعرات الطائفية والدينية وإثارة مسألة الأقليات خير شاهد على فظاعة هذا المفهوم. فلا تخلو دولة من الدول القائمة في العالم الإسلامي ولا في العالم الثالث من مشاكل أقليات لم تكن معروفة من ذي قبل، أدت إلى تفتيت دول وتدمير مجتمعات بأسرها، وما أحداث السودان وإندونيسيا والعراق وأفغانستان ولبنان ومصر ورواندا وبوروندي إلا نماذج قليلة من المصائب التي يجلبها العمل بمفهوم الأقليات.

موقف الإسلام من مفهوم الأقليات

للوقوف على رأي الإسلام في مفهوم الأقليات وإدراكه، يحسن أن نبين مجموعة من القضايا التي جاء بها الإسلام مما له مساس بهذه المسألة:

أولاً: لقد كان المجتمع الذي أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم والدولة التي أقامها في المدينة المنوَّرة نموذجاً متميزاً عما سبقه وعما لحقه. فقد أسس النبي  صلى الله عليه وسلم  الأمة الإسلامية على العقيدة الإسلامية وجعل الرابط بينها يقوم على الإيمان بالإسلام، فلم يعر الناحية العرقية أو اللغوية أو غيرها من الفوارق الموجودة أي اهتمام، بل حصر الأمر كله في الإيمان بالإسلام فقط. فمن ينتمي للأمة الإسلامية يكون كسائر المسلمين سواء بسواء. قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ). وقال  صلى الله عليه وسلم : «المسلم أخو المسلم». وجاء في صحيفة المدينة: «هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس». وقد أرسل الله عزّ وجلّ محمّدا  صلى الله عليه وسلم  إلى الناس كافة رحمة للعالمين، فقال سبحانه: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )، وقال: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ). فدعا النبي  صلى الله عليه وسلم  الناس جميعا إلى الإسلام، فدخلوا فيه أفواجا؛ دخل فيه سلمان الفارسي، وكان من الصحابة الأولين ومن المقرّبين من نبي الرحمة  صلى الله عليه وسلم  حتّى قال فيه عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه: «سلمان منا أهل البيت» رواه الحاكم. وولاّه عمر بن الخطّاب المدائن. ودخل فيه بلال الحبشي الأسود وكان من الأوّلين ومن المقرّبين. ودخل فيه صهيب الرومي، وكان هو الآخر من الأولين المقربين. ودخل فيه عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً، فأسلم وأصبح من أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم . ولم يكن الأمر على هذا النحو زمن النبي  صلى الله عليه وسلم  فقط، بل استمر زمن الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم حيث حمل المسلمون الدعوة إلى الإسلام ونجحوا في صهر مختلف الشعوب والأمم في بوتقة الإسلام حتى تكونت الأمة الإسلامية المنتشرة في بقاع الأرض كلها، ومع أن رسالة الإسلام بدأت في جزيرة العرب وكانت بلسان عربي إلا أن غير العرب حملوها بعد أن آمنوا بها بقناعة وحماسة لا تقل عن المسلمين الأوائل من العرب. وبرز من غير العرب أئمة لا يتيسر حصرهم في مختلف المجالات؛ فقد برز في الفقه أبو حنيفة، وفي الفقه الدستوري الماوردي، وبرز في اللغة سيبويه، وفي الحديث البخاري ومسلم وأصحاب السنن، وفي الأصول الآمدي، وفي الرياضيات الخوارزمي، وفي الطب ابن سينا، وفي القيادة العسكرية صلاح الدين وقطز وبيبرس، وفي علم التاريخ والاجتماع ابن خلدون، وفي الفرق والمذاهب ومسائل الاعتقاد الماتريدي والشهرستاني، وغير هؤلاء ممن لا يحصون عدداً. هذا، وحكم غير العرب قروناً من الزمن ودان المسلمون لحكمهم كالعثمانيين. ويلاحظ أن المسلمين لم يقتصروا على الناحية النظرية من مفهوم الأمة الإسلامية بل طبقوه عملياً إلى أن ظهرت الدعوات القومية والوطنية، وبدأ يتسرب إلى المسلمين شيء من مفاهيم الغرب، أما قبل ذلك فإن الرابط بينهم كان رابط العقيدة الإسلامية الممثل في مفهوم الأمة الإسلامية. ولم يقصر الإسلام مفهوم الأمة الإسلامية على الرابطة الروحية بل جعله مفهوماً ذا بعد سياسي وقانوني يربط بين المسلمين في المجتمع والدولة وتنبني عليه حقوق وواجبات مفصلة في مظانها.

ثانياً: لم يفرق الإسلام في نظرته إلى الناس بناء على معطيات خَلقية من عرق أو لون، أو على أساس لغوي، بل جعل محط نظره الإنسان من حيث هو منذ لحظاته الأولى في أول آيات جاء بها الوحي، حيث قال سبحانه وتعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ). وصرح القرآن بهذا النظرة في أكثر من موطن، قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ). وقال: ( وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ). فالناس عند الله سبحانه وتعالى وفي نظر الإسلام سواسية، والتفاضل بينهم محصور بأمور كسبية جمعها لفظ التقوى وهي العمل بطاعة الله سبحانه وتعالى رجاء رحمته ورضوانه ومخافة عصيانه وعقابه. وجاءت السنة مؤكدة هذا المعنى فقال e: «يا أيها النّاس، ألا إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» رواه أحمد في المسند.

وأما الأمور المختلفة بين الناس من عرق ولون ولغة فهي أمور طبيعية، وهي من آيات الله وعلامات قدرته فلا يجوز النظر إليها نظرة سلبية ولا تفضيلية. ولم يفتُر القرآن عن توجيه ندائه إلى الناس وذكرهم في آيات كثيرة، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ )، وقال: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا )، وقال سبحانه: ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) )، وقال: (  يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ومثل ذلك جاء في السنة النبوية المطهرة. وفوق ذلك فقد حرم الإسلام التمييز القائم على أساس اللون والعرق واللغة وغيرها واعتبره من أمور الجاهلية المنتنة. عن جُنْدُبِ بنِ عبد اللّه البَجَلِيّ قال: قال رسول اللّهِ e: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمّيّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيّةٌ» رواه مسلم. وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله e: «… ومن دعا دعوى الجاهلية فهو جثاء جهنم. قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم، وإن صام وصلى، ولكن تسموا باسم الله الذي سماكم عباد الله المسلمين المؤمنين» (رواه أحمد في المسند).

ثالثاً: لم يُعَرِّف الإسلام الدولة الإسلامية على أسس عرقية أو لغوية، ولم يجعل لها حدوداً جغرافية وسياسية ثابتة، بل جاء الإسلام بمفهوم دار الإسلام ودار الكفر حين قسم الدنيا إلى دارين، وعرف هاتين الدارين بالحكم والأمان، فجعل دار الإسلام هي البلاد التي تطبق فيها أحكام الإسلام ويكون أمانها بأمان الإسلام، ودار الكفر هي البلاد التي تطبق فيها أحكام الكفر أو يكون أمانها بغير أمان المسلمين، وأوجب على المسلمين وحدة الدار بوحدة الدولة حين ألزمهم بتنصيب خليفة واحد، أي أن الأصل في الإسلام أن تطابق حدود دار الإسلام حدود الدولة الإسلامية. ودار الإسلام تضيق وتتسع تبعاً لانحسار الرقعة التي تطبق فيها أحكام الإسلام واتساعها.

رابعاً: مع أن مفهوم الأمة الإسلامية يحوز قدراً كبيراً من الاهتمام في الإسلام غير أنه لم يجعل الأساس للتابعية في الدولة الإسلامية، بل شرط الإسلام فقط الولاء للدولة والنظام في حامل التابعية الإسلامية. وحامل التابعية هو كل من يقيم في دار الإسلام وفي الدولة الإسلامية إقامة دائمة سواء أكان مسلماً أم غير مسلم. وكل من يحمل التابعية فإنه من رعايا الدولة الإسلامية الذين لا يجوز أن تفرق الدولة بينهم في الحكم ورعاية الشؤون. ولذلك فإن المسلم المقيم خارج دولة الإسلام لا يتمتع بحقوق حامل تابعية الدولة الإسلامية، ولكن غير المسلم المقيم في الدولة الإسلامية فإنه يتمتع بحقوق التابعية.

إن هذه الأمور الأربعة تبين بكل وضوح أن مفهوم الأقليات مرفوض في الإسلام جملة وتفصيلاً؛ لأنه قائم على أساس تقسيم الناس إلى أعراق وقوميات ولغات. وهذه التقسيمات غير مقبولة في الإسلام، إضافة إلى أنها لا تجعل أساساً في التابعية وتعريف الدولة، وكذلك تقسيم الناس إلى أتباع ديانات مختلفة فإن هذا لا مدخل له في الإسلام في موضوع التابعية وتعريف الدولة. وأما هذه الاختلافات الموجودة بين الناس فإن الإسلام ينظر إليها نظرة تنوع ويجيز للناس أن يتحدثوا بلغاتهم ويدينوا بأديانهم دون أن يتدخل في ذلك، والدليل على هذا القول ما نجده من تعدد للغات والأقوام والأديان في البلاد الإسلامية بعد مضي ما يزيد على أربعة عشر قرناً من ظهور الإسلام وسيطرته.

قلنا إن الناحية العرقية والناحية اللغوية ولون البشرة أمور لا ينظر إليها الإسلام مطلقاً ولا يفرق فيها بين الناس، ولكن الإسلام دين وينبغي أن يطبق في الدولة الإسلامية، وهذه الدولة كما سلف سيكون فيها أناس غير مسلمين، فكيف يكون التعامل معهم، أفلا يعتبرون أقلية حسب مفهوم الأقليات؟ والجواب على ذلك أن مفهوم الأقليات غير موجود في الإسلام حتى فيما يتعلق بغير أهل الإسلام، ولكن يوجد في الإسلام مفهوم أهل الذمة وهو مفهوم يختلف اختلافاً بيناً عن مفهوم الأقليات.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *