العدد 15 -

السنة الثانية – العدد الثالث – ذو الحجة 1408هـ، الموافق آب 1988م

ما يجري على الساحة السياسية في بلادنا مخالفة لأحكام الإسلام وتضليل للمسلمين

 وأخيراً انزاح الستار عن ميثاق الوفاق الوطني بعد أن تمخض عن حكومة الوفاق الوطني. فقد ظلت مشاورات الأحزاب المتمثلة في الجمعية التأسيسية مستمرة قرابة الشهرين ناقشوا خلالها ما يزيد على الثلاثين مسألة لتنتهي بتكوين حكومة من غالبية الأحزاب الممثلة في الجمعية التأسيسية عدا قلة قليلة ممن يسمون أنفسهم بأحزاب الكتلة الأفريقية.

إن هذه النتيجة التي وصلت إليها أحزاب الوفاق ليست بغريبة على النظام الديمقراطي، فهذه هي سمته وإفرازاته، حكومات ائتلاف وحكومات وفاق وحكومات وحدة وطنية، فلا يتوقع المرء من نظام يطبق دستوراً ديمقراطياً واقعاً أفضل مما نشاهد على الساحة، ولكن الأمر الذي يستحق الوقوف عنده ويحتاج إلى توضيح هو تلك الضجة الكبرى التي أثيرت أثناء مشاورات حكومة الوفاق حول ما اسماه هؤلاء المتآمرون «بالقيد الزمني لتطبيق الشريعة»، واختلاف الأحزاب الموقعة على ميثاق الوفاق الوطني على موعد تطبيق الشريعة الإسلامية، فمُمَثلوا الجبهة الإسلامية القومية قالوا: لا بدّ من تحدي موعد تطبق بحلوله الشريعة الإسلامية واقترحوا ستني يوماً، وممثلة الاتحاد الديمقراطي طالبوا بتطبيقها فور إجازتها، أما حزب الأمة، صاحب أكبر كتلة برلمانية، فقد حاول التوفيق بين الرأيين ليضمن مشاركة الطرفين معه في الحكومة لضمان استقرار السلطة، كما اقترحت أقليات أخرى تأجيل مناقشة موضوع الشريعة لحين انعقاد المؤتمر الدستوري المزعوم.

إن الذي يستمع إلى مثل هذا الجدل أو يقرأ تفاصيله على صفحات الجرائد ليظن أن الدولة الإسلامية على وشك أن تقام في السودان، مع أن الحقيقة هي أن هؤلاء الساسة والحكم حين يتكلمون عن الشريعة الإسلامية لا يقصدون بذلك أكثر من تطبيق مجموعة من القوانين الإسلامية لترقيع النظام الديمقراطي الكافر ولمعاقبة من يخالف مبادئه أو يعتدي عليه بعقوبات الإسلام.. دون أن يخطر ببالهم تطبيق الإسلام كمبدأ سياسي متكامل بمفهومه الصحيح.

إن هذا الذي يجري على الساحة السياسة، والذي يمكن أن يحدث في أي بلد آخر من بلاد المسلمين، من محاولات لتطبيق قوانين شرعية في ظل دستور ديمقراطي، ما هو إلا ضلال لإبعاد المسلمين عن نظام الإسلام، ومحاولة لحماية نظام الكفر ـ النظام الديمقراطي ـ بعد أن ظهر عواره وطغت عفويته، وأوشك على الانهيار، فإن كان ما يقوم به هؤلاء السياسيون والحكام من محاولات عن قصد منهم بغرض تشويه أحكام الإسلام لينفروا المسلمين منه، فنسأل الله أن يخزيهم ويُذهب ريحهم ويفضحهم بين عباده، وإن كان جهلاً منهم بنظام الإسلام وطريقة تطبيقه في الدولة المجتمع، فهلاّ سألوا ليعلموا؟ فالسؤال شفاء العيي، وقد أنزل الله إلينا قرآناً لا يأتينه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، جعل فيه الهدى والنجاح وفي غير الضلال والضنك، وقد منَّ الله علينا وجعلنا في أمة سيد المرسلين وجعلنا من بعده حملة رسالته للعالم لنخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور، فكيف بنا وهذا حالنا أن ننهض بهذه التبعة؟ وساستنا ـ إن احسنّا الظن بهم ـ يجهلون أحكام الإسلام وهم يمرون على آيات القرآن وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم  ولا يتدبرونها ولا يفقهون أحكامها البينة، ناهيك عن الأحكام التي تحتاج إلى عمق في التفكير.

لقد جاءت الآيات القرآنية وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم  جلية واضحة في بيان الأمر، فبعد أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم  إلى الرفيق الأعلى تصدى أصحابه الميامين للأمر وحملوا مسؤولية الإسلام من بعده، فلم يُنقل إلينا عنهم أنهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ليتشاوروا هل يطبقون الإسلام كاملاً كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  أم يؤجلون تطبيق بعض الأحكام حتى تستتب الأمور أو ليضيفوا بعض المبادئ الديمقراطية إلى مبادئ الإسلام، كالعرف والعادات والتقاليد؟ لم ينقل إلينا عنهم أي شيء من هذا القبيل، حاشا لهم وهم يتلون كتاب الله حيث يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ) [المائدة:3] ، أو قوله تعالى: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة:49] ، أو قوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65] ، أو قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا) [الأحزاب:36] ، فلو كان لحكامنا عقول يفهمون بها هذه الآيات لما جاءوا اليوم بعد كل هذه القرون ليقولوا بتطبيق شرع الله مجزأ أو بعد شهرين لأن هذا هو الجهل بعينه، وكيف أجاز هؤلاء السياسيون لأنفسهم تجزئة الإسلام أو تأجيل تطبيق أحكامه ومل يجز ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المبعوث بالرسالة، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وقد أمرنا الله باتباعه، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الممتحنة:6]، وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7] وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ) [آل عمران:31] ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم  لم يقبل من قريش أن يشترك معهم في رعاية شؤونهم بغير الإسلام، وقد عرضوا عليه عروضاً مغرية يسيل لها لعاب طلاب الحكم والسلطان، فقد ورد في سيرة ابن هشام “أن وفداً من سادة قريش جاءوا إلى أبي طالب وقد اشتد عليه المرض فقالوا له: ادع لنا ابن أخيك فخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنه ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم، كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم العجم»، قال فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات، قال: «تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه». قال: فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن أمرك لعجيب، قم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً ما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، قال ثم تفرقوا”. وحادثة أخرى وردت في سيرة ابن هشام، أن عتبة بن ربيعة قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو في المسجد حتى جلس إليه، فقال: “يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة، والمكانة في النسبة، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل بعضها، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قل يا أبا الوليد أسمع»، قال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرها مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رؤيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد»، قال: نعم، قال: «فاسمع مني»، قال: افعل، فقال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ @ حم @ تَنـزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ @ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) حتى انتهى إلى السجدة من سورة ـ فصلت، فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذلك»”. وحادثة أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لم يقبل من وفد ثقيف أن يدع لهم صنمهم اللات ثلاثة سنين لا يهدمه ولا أن يعفيهم من الصلاة على أن يدخلوا في الإسلام، فلم يقبل منهم تأخيراً لسنة ولا لشهر ولا حتى ليوم، فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم  من قريش ولا من غيرها مالاً ولا ملكاً ولا جاهاً ولا وزارة ولا تطبيقاً جزئياً ولا تأجيلاً لحكم ولو إلى حين، بل عرض الإسلام كاملاً وأصر على تطبيقه كاملاً، مع ملاحظة أن من عرض عليهم كانوا كفاراً، أما اليوم فإن تطبيق القوانين الشرعية تتداوله أحزاب تدعو للإسلام لتطبيقه على مسلمين، وهذا ما يتعجب له كل مسلم.

لقد صار الأمر واضحاً أن حديث هؤلاء السياسيين والحكام عن القوانين الشرعية بهذه الطريقة إنما يقصدون منه إسكات جماهير الأمة الإسلامية التي تطالب بالإسلام، والمحافظة على كراسي الحكم، وأما ادعاء البعض بأنهم يريدون أن يعملوا على الإصلاح من الداخل فهذه مغالطة فاضحة ولا تجوز شرعاً في الإسلام. فالرسول صلى الله عليه وسلم  لم يقبل ذلك كما عرضنا في المشاهد السابقة الذكر. فلا ينظر إلى تحقيق مصلحة آنية أو شخصية مهما كانت وإنما العبرة باتباع الحكم الشرعي والحكم الشرعي وحده. وليحذر عامة المسلمين من غير السياسيين من هذه الأمور فإنها تخدير لهم وانصراف عن القضية الأساسية ألا وهي تحكيم الإسلام كاملاً وإحلاله مكان النظام الديمقراطي الكافر.

أما إذا كان حكام المسلمين في السودان أو في غيره يريدون العمل لإعادة الإسلام في الدولة والمجتمع فعليهم أن يقدموا للأمة تصورهم الكامل للإسلام في شكل مشروعات دستور وقوانين عملية تعالج مشاكل العصر، ويعملوا على إفهام الأمة هذه الأحكام والأفكار والآراء الإسلامية ويحرضونها للعمل لإزالة نظام الكفر الديمقراطي وإقامة نظام الإسلام: نظام الخلافة، وهذا العمل يكون بالصراع الفكري عن طريق الكفاح السياسي دون حاجة للاشتراك في حكومات الكفر التي تحكم بغير ما أنزل الله.

واعلموا أيها المسلمون أن الإسلام لا يأتي بترقيع النظام الديمقراطي الكافر، فَهُما طرفا نقيض، فترقيع النظام الديمقراطي تقوية له وإطالة لعمره، قال رسول لله صلى الله عليه وسلم : «من مشى مع ظالم ليقويه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج عن الإسلام»، كما هو تشويه للإسلام وتضليل للمسلمين.

فحكام المسلمين اليوم إن كانوا حريصين على الإسلام فعليهم تطبيقه كاملاً وعاجلاً وخلع ما سواه، لأنه المخرج من هذه الظلمات وهذه الأزمات المتلاحقة على الأمة من إعراضها عن أمر ربها، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طه:124].

فلا تنخدعوا أيها المسلمون بأقوال هؤلاء الحكام، بل عليكم محاسبتهم وإلقاء كلمة الحق في وجوههم، وتقديم النصح لهم، وتصحيح فهمهم وإرجاعهم إلى الحق والعمل به، وفي ذلك النجاة لكم ولهم، عسى الله أن يقبل توبتنا ويغفر لنا ذنوبنا جميعاً، يقول الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ @ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)   [آل عمران:135-136].

شوال 1408

السودان ـ عباس محمد عبد اللطيف

(*) كان الرئيس السابق جعفر النميري قد أعلن العام 1984 عن تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، لكن إجراءه لم يتعد بعض قواني العقوبات. وعندما أطيح بالنم يري عام 1985، أوقف العمل بتلك القوانين.

ومنذ شهر آذار الماضي، تجري المفاوضات بين الأحزاب الأعضاء في الجمعية التأسيسية لتشكيل حكومة ائتلافية. وقد وافقت «الجبهة الوطنية الإسلامية» لأول مرة منذ العام 1985 على الاشتراك في الحكومة الائتلافية، واشترطت لذلك حداً أقصى لتطبيق الشريعة الإسلامية. وقد تعهدت الحكومة بالعمل على اعتماد تطبيق أحكام للشريعة الإسلامية قبل نهاية حزيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *