العدد 365 -

السنة الواحدة والثلاثين، جمادى الآخرة 1438هـ، أذار 2017م

حركاتُ السّلامِ اليهوديّةِ: وجهٌ آخرُ للصهيونية!!. (5)

حركاتُ السّلامِ اليهوديّةِ:

وجهٌ آخرُ للصهيونية!!. (5)

 

حمد طبيب – بيت المقدس

تحدثنا في الحلقة السابقة عن الحقيقة الثالثة المتعلقة بصفات اليهود، وأعمالهم وشرورهم على وجه الأرض؛ وهي: (عداوة اليهود لأمة الإسلام)، وذكرنا شواهد من التاريخ ومن الواقع على صدق إخبار المولى (عز وجل) ورسوله صلى الله عليه وسلم عن هذه العداوة المتأصلة المستمرة… وفي هذه الحلقة سنتحدث عن الحقيقة الرابعة المتعلقة بهذا الموضوع؛ وهي (فكرة السلام)؛ حقيقتِها ومعانيها، وأصلِ نشأتها هذه الأيام عند اليهود، وعند بعض الببغاوات من الحكام، أو بعض من يسمون أنفسهم علماء، ويرددون ما يقوله اليهود من هذه الفكرة الخبيثة…

وقبل أن نذكر حقيقة هذه  الفكرة الماكرة المضللة (فكرة السلام) – معناها وواقعها – نقول: إن الأصل في الكفار قاطبة بشكل عام -واليهود بوجه خاص- أنهم يكرهون أمة الإسلام ولا يحبونها، وأنهم أعداءٌ دائمون لأمة الإسلام.. وأنه لا يوجد بيننا وبينهم سلام، ولا مودة، ولا قربى، ولا وئام؛ وهذا الأمر قد شهد به الحق تبارك وتعالى (العليم الخبير بنفسيات اليهود ومكنون نفوسهم) قال تعالى: (لَا يَرۡقُبُونَ فِي مُؤۡمِنٍ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُعۡتَدُونَ ١٠)، وقال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ١١٨)، وقال: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ)، وقال: (وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ ١٢٠)…

ولبيان هذا الأمر (خديعة وكذبة السلام)؛ لا بد أن نبين معنى السلام والسلم في الإسلام، ثم نرى الاختلاف والبون الشاسع بين المعنيين، وبين أهداف كل منهما… فمعنى كلمة سلام كما وردت في معاجم اللغة العربية: جاء في (لسان العرب لابن منظور): (قال ابن عرفة: قالوا سلامًا؛ أي قالوا قولًا يتسلمون فيه، ليس فيه تعدٍّ ولا مأثم، وكان العرب في الجاهلية يحيّون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحًا، وأبيت اللعن، ويقولون: سلام عليكم، فكأنه (علامة المسالمة وأنه لا حرب هنالك)، وقوله تعالى: (لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ)  قال الزجاج:  سميت دار السلام؛ لأنها دار السلامة الدائمة التي لا تنقطع ولا تفنى، وهي دار السلامة من الموت والهرم والأسقام، وقال أبو إسحاق: أي للمؤمنين دار السلام، وقال: دار السلام الجنة؛ لأنها دار الله عز وجل؛ فأضيفت إليه تفخيمًا لها… وتقول: سلم فلان من الآفات سلامة سلمه الله منها، وفي الحديث: «ثلاثة كلهم ضامن على الله… أحدهم من يدخل بيته بسلام»… والحديث كما أخرجه أبو داود هو: «ثلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا في سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلاَمٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»  أخرجه أبو داود عن أبي إمامة الباهلي. قال ابن الأثير في معنى الحديث: «أراد أن يلزم بيته طالبًا للسلامة من الفتن ورغبة في العزلة» وقيل: أراد أنه إذا دخل سلم، قال: والأول أوجه. وسلم من الأمر سلامة: نجا، وقوله عز وجل: (وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰ) معناه: (أن من اتبع هدى الله سلم من عذابه وسخطه…) لسان العرب- (ج7/-242-241).

فالسلام في لغة العرب بناء على ما ذكره أصحاب المعاجم هو: (الأمن والأمان، والطمأنينة والموادعة…) ، وسمي الإسلام بالسِلم ( بكسر السين)؛ في بعض الآيات الكريمة؛ كقوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ٢٠٨)؛ قال (الإمام القرطبي) رحمه الله في تفسيره: قال الكسائي: السِلم والسَلم بمعنى واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين، وهما جميعًا يقعان للإسلام والمسالمة. وفرق أبو عمرو بن العلاء بينهما، فقرأها هنا: (ادخلوا في السِلم)، وقال هو الإسلام، وقرأ التي في  «الأنفال» والتي في سورة «محمد» صلى الله عليه وسلم  السَلم (بفتح السين)، وقال: هي بالفتح المسالمة. وقال ابن عباس  نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى، ادخلوا في الإسلام بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم  كافة؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار…» رواه الإمام مسلم. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال: «…والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة، يدخل في عالم كله سِلم وكله سلام… عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضىً واستقرار… لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال… سلام مع النفس والضمير… سلام مع العقل والمنطق… سلام مع الناس والأحياء… سلام مع الوجود كله ومع كل موجود… سلام يرف في حنايا السريرة… وسلام يظلل الحياة والمجتمع… سلام في الأرض وسلام في السماء….» 

فالسِلم  والسلام بناء على هذه المعاني: هو (الطمأنينة والمودة والمحبة والإخاء)، وهذا لا يكون إلا في الإسلام؛ لذلك سمي الإسلام بالسِلم؛ لأن فيه كل معاني الانقياد والخضوع والاستسلام لله وحده، وفيه كل معاني الطمأنينة والسلم من الشرور والآفات… هذا هو المعنى اللغوي والشرعي للسلام؛ كما ذكره القرآن الكريم  والسنة النبوية، وكما فهمه العلماء من أهل اللغة، ومن الفقهاء…

أما معنى السلام الذي يقصده الكفار –خاصة اليهود– ويدعون له فهو: الاستسلام والخضوع الذي نهى الله ورسوله عنه؛ قال تعالى: (فَلَا تَهِنُواْ وَتَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلسَّلۡمِ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمۡ وَلَن يَتِرَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٥)، يقول (الإمام الشوكاني) في تفسيره: «…نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن، والضعف فقال: (فَلَا تَهِنُواْ …)؛ أي تضعفوا عن القتال، والوهن الضعف وتدعوا إلى السَلم، أي: ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء منكم، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف… قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يُسلموا… وقرأ (أبو عبد الرحمن السلمي وتدّعوا بتشديد الدال، من ادعى القوم وتداعوا. قال قتادة  معنى الآية: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها»، وقال: (وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ)، يقول (الشيخ ابن عاشور) في تفسيره التحرير والتنوير: «وعزتهم -أي المؤمنين- بكون الرسول صلى الله عليه وسلم  فيهم، وبتأييد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم  وأوليائه؛ لأن عزّة الله هي العزّة الحق المطلقة، وعزّة غيره ناقصة، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يُقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به… وتقديم المسند على المسند إليه في قوله:  ولله العزة؛ لقصد القصر وهو قصر قلب، أي العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، لا لكم كما تحسبون». وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الترمذي. هذا ما يتعلق بفكرة السلام عند المسلمين، وحقيقة الكذب والخداع في استخدام هذه الفكرة من قبل اليهود والنصارى على السواء. 

– فالحقيقة أنه لا يوجد سلام بين المسلمين والكفار؛ لأن السلام -كما ذكرنا- مودة وطمأنينة وإخاء ومحبة وقربى، ولا يوجد أيٌ من هذه المعاني بيننا وبين الكفار؛ لأن العلاقة بيننا وبين الكفار بشكل عام هي علاقة حرب وقتال، أو علاقة عهدٍ وميثاق؛ خاضعة لأحكام الجهاد؛ وهي حالة استثنائية تُبرم مع الكفار بعد الرضوخ وإعطاء الجزية، أو في حال الهدن الحربية المؤقتة على جبهات القتال، قال تعالى: (قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩). يقول الحافظ (ابن كثير) في تفسيره: «قوله تعالى (حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ) أي: قاتلوهم إن لم يسلموا حتى يعطوا الجزية…  (عَن يَدٖ) أي: (عن قهر لهم وغلبة)، (وَهُمۡ صَٰغِرُونَ) أي: (وهم ذليلون حقيرون مهانون…) فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة، ولا رفعهم على المسلمين، ومن هذا الباب منع الإسلام مبادأتهم بالسلام إعلاء لشانهم، وإعزازًا لهم على المؤمنين؛ قال صلى الله عليه وسلم :«لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» صحيح مسلم.

– قال الحافظ (ابن حجر العسقلاني) رحمه الله: قال القرطبي في قوله: «وإذا لقيتموهم في طريق…» معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكرامًا لهم واحترامًا…. وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى طرفه حتى يضيق عليهم، لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب…».

– ويقول صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى» متفق عليه… يقول الحافظ ( ابن حجر العسقلاني) -رحمه الله- في كتاب ( فتح الباري) في شرح الحديث : «إن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: «إلا بحق الإسلام» يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل فلمَ لمْ يكتفِ به، ونص على الصلاة والزكاة؟. فالجواب أن ذلك لعظمهما، والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أمّ العبادات البدنية والمالية…) وهذا الحديث فيه دلالة جلية -إضافة إلى ما ذكرنا من الآيات الكريمة- أنه لا مودة ولا سلام ولا وئام بيننا وبين الكفار، ويستثنى أهل الذمة؛ (ممن يعيشون في حاضرة الدولة الإسلامية) ببعض المعاملات الخاصة في بِرِّهم والإقساط إليهم… لأن أهل الذمة -ممن يعيشون تحت سلطان الإسلام- لهم ما لنا وعليهم ما علينا؛ قال تعالى: (لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ٨)، ويدخل في هؤلاء (أهل الذمة) ممن يعيشون تحت سلطان الإسلام… وقال: (قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩)، والصغار هو خضوعهم لسلطان الإسلام، إما بالذمة في دولة الإسلام، أو بالعهد خارجها… وقال صلى الله عليه وسلم : «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه؛ فأنا خصمه يوم القيامة» رواه أبو داود، وقال: «من قتل معاهدًا لم يرِح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً» رواه الترمذي.

والحقيقة أن اليهود -على أرض بيت المقدس خاصة (لا علاقة بيننا وبينهم في سلم ولا عهد، بل إن العلاقة معهم هي علاقة حربٍ وقتال، حتى يزالوا  نهائيًا عن أرض بيت المقدس، ولا يبقى لهم أي وجود)، وأن علاقة العهد -خارج نطاق الحرب والقتال- لا تجري بيننا وبينهم؛ لأن في العهد -دون قتال–  إقرار لهم واعترافٌ بوجودهم على الأرض المعاهَد عليها، وهذا لا يجوز بحق (أرض بيت المقدس)؛ لأنها ارض إسلامية (خراجية)؛ مغتصبة فلا يجري بحقها عهدٌ ولا ميثاق، ولا بحق من يغتصبها.. أما الهدن العسكرية المؤقتة فهذه من دواعي الحرب والقتال، إذا اقتضت الضرورة العسكرية ذلك، وقد كان قواد المسلمين يعقدون مثل هذه الهدن المؤقتة استعدادًا للقتال، أو انتظارًا للمَددْ العسكري..

– أما الاتفاقيات التي عقدت بين بعض حكام المسلمين -هذه الأيام-  وبين  اليهود ممن اغتصبوا أرض بيت المقدس؛ بما فيها أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين، فإنها  باطلة ولا يبنى عليها شيء، وليس لها أي اعتبار شرعي… وذلك لعدة أسباب شرعية منها:

1- في هذه المعاهدات وضع للحرب إلى الأبد بين المسلمين واليهود، وهذا لا يجوز شرعًا؛ لأن فيه تعطيلًا لفريضة الجهاد التي حكم الله عز وجل باستمراريته إلى يوم القيامة؛ فلا يعطلها عدل عادل ولا جور جائر… وفيه سكوت عن اغتصاب جزء من أرض المسلمين؛ حيث يعيش فيها مسلمون أسارى مستضعفين من قبل أشد الناس عداوة لأمة الإسلام (اليهود)، وقد أمر الله عز وجل بتخليصهم من هذا الاغتصاب والأسر، قال تعالى: (وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٧٥)…  يقول الإمام القرطبي في تفسيره: «قوله تعالى: (وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ) حض على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب،  ويفتنونهم عن الدين؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده». ويقول (الإمام الماوردي) في الحاوي: «إذا دخل العدو بلاد الإسلام ووطئها؛ فيتعين فرض قتاله على أهل البلاد التي وطئها ودخلها، فإن لم يكن بأهلها قدرة دفعه تعيَّن فرض القتال على كافة المسلمين، حتى ينكشف العدو عنهم إلى بلاده… وإن كانت بهم قدرة على دفعه لم يسقط بهم فرض الكفاية عن كافة المسلمين ما كان العدو باقيًا في دارهم…»

2- المعاهدات  مع اليهود نصت على إزالة أسباب العداوة والبغضاء، وإزالة كل نصوص التشريع التي تبقي هذه العداوة، وهذا الشرط باطل؛ لأنه يخالف أصل  الإيمان الذي يقوم على (التفريق بين المسلم والكافر)، وأن الكافر عدو لله أبدًا حتى يسلم، ويتخلى عن كفره… جاء في تفسير (الإمام القرطبي) في تفسير قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ ١١٨): «نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْيَهُودِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ وَوُلَجَاءَ، يعني: أصدقاء ومقربين؛ يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ، وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ…». ويقول الإمام ابن عاشور في (التحرير والتنوير) في تفسير قوله تعالى: (لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ): «المقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادة من يعلم أنه محاد الله ورسوله هي مما ينافي الإيمان، ليكف عنها من عسى أن يكون متلبسًا بها». ويقول صلى الله عليه وسلم  في الحديث: «لا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ» رواه أبو داود في سننه. 

3- هذه المعاهدات أقرت  اليهود على ما أخذوه من أرض الإسلام -خاصة فلسطين- عنوة وغدرًا، وهذا لا يجوز. وهي أرض فتحها المسلمون، ودخل أهلها في الإسلام، وأصبحت بذلك من أرض الإسلام التي لا يجوز للمسلمين التخلي عنها، بل يجب عليهم القتال لاستردادها من  اليهود. جاء في كتاب أحكام أهل الذمة (لابن القيم) رحمه الله: «…ولما كانت التولية؛ أي -إعطاء الكافر الولاية على المسلمين وأرضهم-  شقيقة الولاية، كانت توليتهم نوعاً من توليهم، وقد حكم الله تعالى بأن (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ)، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة  والولاية أبداً… والولاية إعزاز؛ فلا تجتمع هي وإذلال الكفار أبدًا… والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبدًا…»

4- هذه المعاهدات مع اليهود قد أبرمها من ليس له صلاحية إبرامها أصلًا، وكل من أبرم معاهدة ليست من صلاحياته فهي باطلة شرعًا. يقول الإمام (ابن قدامه المقدسي) في كتاب المغني: «…ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه… فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح…».

 ومن أجل هذه الأسباب وغيرها من أسباب شرعية؛ فإن هذه المعاهدات معاهدات باطلة وقعت يوم وقعت بطريقة باطلة، والعقد الباطل كأنه لم يكن، كعقود الربا والزنا والسرقة وقطع الطريق وقتل المسلم، لا يجوز الوفاء بها ولا اعتقاد صحتها…

وقد صدرت فتاوى كثيرة عن علماء المسلمين تحرم وتجرم كل من أبرم معاهدة سلام مع اليهود المغتصبين المجرمين… من هذه الفتاوى:

– جاء في كتاب (المعيار المعرب والجامع المغرب، عن فتاوى علماء أفريقيا والأندلس والمغرب) للإمام (أحمد بن يحيى الونشريسي) رحمه الله، بخصوص الصلح مع العدو الفرنسي الكافر، حيث قال -في أجوبة أسئلة- بعد أن تكلم عن جواز الصلح إذا كان العدو مطلوبًا في أرضه: (…وأما إن كان العدو طالبًا -كما في تلك الناحية وغيرها من الأقطار- فقال في (المعيار): (…لا يجوز الصلح والهدنة بحال، وإن وقع وجب نقضه؛ لأن العدو حيث نزل أو قارب النزول فالجهاد متعين، وترك المتعين ممتنع، فالصلح المذكور ممتنع؛ لأنه تعود على العدو -أهلكه الله مصلحته- وعلى المسلمين مفسدته…).

وجاء في الفتوى الصادرة عن مؤتمر علماء فلسطين؛ الذي انعقد في مدينة القدس سنة 1935م: «…وبعد النظر في الفتاوى التي أصدرها المفتون، وعلماء المسلمين؛ في (العراق ومصر والهند وسوريا وفلسطين والأقطار الإسلامية الأخرى) ؛ والتي أجمعت على تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود، وتحريم السمسرة على هذا البيع والتوسط فيه، وتسهيل أمره، بأي شكل وصورة، وتحريم الرضا بذلك كله والسكوت عنه… فان البائع والسمسار والمتوسط في ذلك هو  (عامل ومظاهر على إخراج المسلمين من ديارهم، ومانع لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وساع في خرابها، ومتخذ لليهود أولياء من دون المؤمنين، ومؤذٍ لله ولرسوله وللمؤمنين، وخائن لله ولرسوله وللأمانة…) فكيف بمن يملك قسمًا كبيرًا من أرض بيت المقدس لليهود، ويعترف بحقهم القانوني والتاريخي عليها؛ ضمن الهيئات والمؤسسات الدولية، والدول الكافرة الراعية لهذه المؤسسات الدولية ( كهيئة الأمم المتحدة )؟؟!!.

وجاء في الفتوى  الصادرة عن  علماء (المؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان 1968م): جوابًا على سؤال: «هل يجوز للمسلمين -وفقًا لأحكام الشرع الإسلامي- إبرام صلح مع هؤلاء اليهود المحاربين المعتدين، قبل أن يتخلوا عن البلاد التي اغتصبوها من أهلها المسلمين، وقبل إعادة أهلها إليها؟ وهل يجوز الاعتراف بهؤلاء اليهود الذين أقاموا دولة باغية ظالمة على هذه الأراضي الإسلامية؟ فالرجاء بيان حكم الشرع فيما ذكرنا، وما يجب على المسلمين في هذا الحال؟؟». وكان الجواب من هؤلاء العلماء ما نصه: «إن الصلح مع هؤلاء المحاربين لا يجوز شرعًا لما فيه من إقرار الغاصب على غصبه، والاعتراف بحقية يده على ما اغتصبه، فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود المعتدين؛ لأن ذلك يمكنهم من البقاء كدولة في أرض هذه البلاد الإسلامية المقدسة، بل يجب على المسلمين جميعًا أن يبذلوا قصارى جهودهم لتحرير هذه البلاد، وإنقاذ المسجد الأقصى وسائر المقدسات الإسلامية في أيدي الغاصبين. وعلى جميع المسلمين أن يقوموا بواجب الجهاد إلى أن يسترجعوا هذه البلاد من الغاصبين، ونهيب بالمسلمين كافة أن يعتصموا بحبل الله المتين، وأن يقوموا بما يحقق العزة والكرامة للإسلام والمسلمين…».

هذا ما يتعلق بالحقيقة الرابعة في هذا الموضوع وهي (فكرة السلام ومعناها اللغوي والشرعي)؛ وذلك قبل أن نستعرض واقع حركات السلام في الواقع المشاهد المحسوس ونستعرض أعمالها الخبيثة المضللة.

أما (الحقيقة الخامسة) فهي حقيقة (الحركة الصهيونية)؛ من أين نشأت، وما هي أهدافها الظاهرة والخفية؟؟.. وسنتحدث عن هذه الحقيقة في الحلقة القادمة إن شاء الله…       [يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *