العدد 73 -

العدد 73- السنة السابعة، ذو القعدة 1413هـ، الموافق أيار 1993م

النظام الدولي الجديد (9)

المتغيّرات الدولية

بقلم: محمد موسى

الموقف الدولي والنظام الدولي:

عاد العالم غلى ما كان عليه سنة 1945، عاد عالماً واحداً وعائلة دولية واحدة، ولكن تسوده وجهة نظر عن الحياة واحدة هي وجهة النظر الغربية وقيمها ونظامها الرأسمالي بعد أن اندثرت الشيوعية وانهارت أنظمتها. عاد بهيكله الدولي ولكن مع متغيرات في المحتوى، متغيرات في العلاقات الدولية. لقد أضاف العملاق الأميركي إلى زعامته للعائلة الدولية، ومركزه الدولي منها كدولة أولى، تفرداً في السياسة الدولية.

كان الموقف الدولي سنة 1945 وبُعيدها موزعاً بين الدول الأربع الكبرى، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا وفرنسا. كان الاتحاد السوفياتي يحرز مشاركته في الموقف الدولي وفي السياسة الدولية بزعامته لمعسكر. وكانت كل من بريطانيا وفرنسا تحرز مشاركتها بقيادة لإمبراطورية عالمية واسعة. ولكن ذلك قد تغير بعد أن تفكك المعسكر وحُلّت الإمبراطوريات، وعادت روسيا وبريطانيا وفرنسا دولاً إقليمية، فانفردت أميركا في السياسة الدولية.

ومع انفراد أميركا حصلت متغيرات في علاقات القوة، فتقلّص فارق القوة بين أميركا والقوى الأخرى. انتهى احتكار أميركا للأسلحة النووية، وبنت دول أخرى مخزونها منها، إما من قبيل المساواة العددية كما هو حال روسيا، أو من قبيل الردع كما هو حال بريطانيا وفرنسا والصين. وقد أبقى هذا التطور على تفوّق بين القوة الأميركية والأهم من هذا، في إرادة استعمالها.

انحدر الاقتصاد الأميركي وإن بقي أكبر اقتصاد منفرد في العالم. فالشعب الأميركي ينتج ليستهلك، ويستهلك أكثر مما ينتج. أعطى كارتر الأولوية لإصلاح الاقتصاد ففشل، وكذلك فعل ريغان. كان أهم إنجاز لريغان في هذا الموضوع هو تقليص التضخم. عمد ريغان إلى رفع نسبة الفائدة إلى مستويات خيالية، فقلص التضخم على حساب النمو الاقتصادي. وكانت إنجازاته الفعلية هي في زيادة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الأميركي، وزيادة التركز في الثروة، وزيادة عدد الفقراء حتى اصبح حوالي 1/5 السكان فقراء.

كانت كل من ألمانيا، واليابان بعد الحرب العالمية ترزح تحت إدارة الحلفاء. ثم أصبحت اليابان عملاقاً اقتصادياً تحقق ناتجاً يعادل نصف الناتج الأميركي أو يزيد، وتحقق فائضاً سنوياً يزيد عن مائة وعشرين بليون دولار. كما أصبحت أكبر دائن في العالم وأكبر مانح للمعونات الدولية. أما ألمانيا فقد أصبحت قوة السوق الأوروبية المشتركة. وأخذت بريطانيا وفرنسا تستعيض عن نفوذها السياسي من خلال الإمبراطوريات، بنفوذها السياسي من خلال الإمبراطوريات، بنفوذها السياسي من خلال المجموعة الأوروبية. وقد أدى هذا إلى أن تعيد اليابان والدول الأوروبية تثبيت أقدامها على المسرح الدولي. ولا عجب في ذلك، فالقوة الاقتصادية عنصر من عناصر قوة الدولة وأداة من أدواتها الفاعلة، تحقق بها الدولة ما تحققه بالقوة العسكرية. أخذت هذه الدول تطالب بإعادة توزيع العدل الدولي وذلك بإصلاح الأمم المتحدة، فطالبت كل من اليابان وألمانيا بمقعد دائم في مجلس الأمن وذلك في دورة الجمعية العمومية لعام 92.

كانت الولايات المتحدة قد جسّدت رؤيتها للنظام الدولي في الأمم المتحدة، فبنت الأمم المتحدة على عين بصيرة لتجعل منها قاعدة ومقراً لقيادتها العالمية. لذلك فإن من الطبيعي أن تقف في وجه الدول الإصلاحية أي التي تدعو لإصلاح الأمم المتحدة طلباً لإعادة توزيع العدل الدولي. فهي دولة محافظة تسعى للوقوف في وجه كل محاولة لإصلاح نظام بنته بنفسها لنفسها. ولم تتوقف المطالبة بالإصلاح على هذه الدول وإنما تعدتها إلى دول عدم الانحياز. فقد طالبت هذه الدول اجتماعها عام 92 في جاكرتا بمقاعد دائمة في مجلس الأمن لدول من دول عدم الانحياز مثل الهند. لذلك فإن عودة العالم عالماً واحداً كما كان عليه الحال سنة 1945 لن يعيد للأمم المتحدة دورها الذي كانت ترجوه الولايات المتحدة من أقامتها. فهذا الدور بدأ يتسرب من بين أصابع الولايات المتحدة وسيزيد التسرب، ولن تفلح محاولات الولايات المتحدة في إيقاف التسرّب، فالعيال كبرت وتريد أدواراً في إدارة البيت الدولي، بل أخذ العيال في ممارسة شيء من هذه الأدوار، ويتفلتون من أميركا.

قد يتراءى للبعض أن تفكك الاتحاد السوفياتي قد جعل من روسيا دولة محلية فحسب، وأن الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي قد سارت على طريق الاستقلال الكامل والانعتاق من القبضة الروسية، وأن روسيا لا تبالي بمصير تلك الدول. وهذا محض وهم إلا أن تنهار روسيا انهياراً تاماً. وتزمع روسيا التي تمتلك قوة الاتحاد السوفياتي العسكرية والاقتصادية على احتلال مركز روسيا القيصرية الإقليمي. فإنه وإن أعطت روسيا الأولوية لما يسمى بالإصلاح الاقتصادي، فعلا صوته على ما سواه، فإنه يجري تحت السطح تركيز النفوذ الروسي في المجال الحيوي. سئل وزير الخارجية الروسي اندريه كوزيريف في مقابلة مع صحيفة لوموند نشرتها بتاريخ 06/07 من حزيران 92، سئل عن مصير الكومونولث وعن مصير علاقة روسيا بالجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي فأجاب:

«أصبحت فكرة مجموعة الدول المستقلة أكثر وضوحاً. فلا يمكن للدول التي نشأت نتيجة تفكك الاتحاد السوفياتي أن تنفصل دون أن تبقي على روابط ما مع روسيا. ولا يزال خط سيرنا كما كان، فنحن على استعداد للتعاون أو الاندماج مع أي من الجمهوريات أو معها جميعها وأن نشارك في أعمال مشتركة. وفي الوقت الحاضر فإنه يبدوا أن هذه الجمهوريات قد بدأت تدرك بشكل واضح موقعها في العالم. والجمهوريات الأوروبية تقع ضمن مجال مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، وأن عملية عودتها لإيجاد روابط أقوى وأمتن مع روسيا قد بدأت. وأنا متأكد من عودتها عاجلاً أم آجلاً. أما الجمهوريات الآسيوية فتنتمي إلى عالم آخر. وإن كان لديها بادئ الأمر بعض الوهم، فقد بدأت تتخلى عن هذه الأوهام أمام الحقائق الآسيوية فأخذت تتحقق أن من الأفضل لها تتوصل إلى حلف عسكري وسياسي مع روسيا يأخذ شكلاً ما. إن العملية مع الدول الأوروبية أكثر صعوبة مما يجعل من الأصوب أن تتكلم عن تعاون يأخذ المشاركة الفردية بطرق مختلفة وليس العودة إلى فكرة الكومونولث. وسيكون كومونولث متعدد الوجوه يستكمل بالاتفاقيات الثنائية وتشكيل مجموعات صغيرة حول مشاريع ذات مصلحة مشتركة».

قد لا يثبت الكومونولث كرابطة اقتصادية على المدى الطويل فتجد بعض دوله روابط اقتصادية بل وثقافية أفضل مع دول أخرى فتنعتق من الكومونولث مما يؤدي إلى انهياره. وانهيار الكومونولث أو انعتاق دول منه لا يعني انعتاق هذه الدول من المجال الحيوي الروسي. وكما يقول وزير الخارجية فإن روسيا ستجد روابط أخرى. وسيكون تحديد المجال الحيوي الروسي موضع خلاف مع أميركا مما يجعل من مخاض ولادته مخاضاً عسيراً وقد يكون مؤلماً.

خاضت الولايات المتحدة صراعاً مع الاتحاد السوفياتي، ولم يكن ذلك الصراع لأن الاتحاد السوفياتي كان دولة مبدئية فحسب، وإنما أيضاً لأنه كان يملك قوة قادرة على تدمير أميركا تدميراً شاملاً ومؤكداً. ولم يتوقف الصراع باحتواء أميركا للشيوعية مما أفقدها أثرها في العالم، بل امتد لاحتواء الاتحاد السوفياتي كقوة عسكرية. فكانت حقيقة الصراع ومحتواه تمثل بمعادلة ناتجها صفر. أي أن يدمر أحد العملاقين الآخر أو كل منهما الآخر. وقد ورثت روسيا قوة الاتحاد السوفياتي العسكرية، ومن المفروض إذن أن ترث أيضاً عداء أميركا. وستستمر أميركا في احتواء القوة الروسية بأشكال مختلفة. إن تخلّي روسيا عن المبدأ الشيوعي، وتحولها للمبدأ الرأسمالي، وتخليها عن الدور العالمي يقلل من أسباب الاحتكاك ولا يقتلعها فوجود هذا الكم من الأسلحة لدى روسيا سبب كافٍ لوجود نوع من الصراع. ومن هنا فإن روسيا تخشى من أن تنضم دول أوروبا الشرقية إلى حلف الأطلسي فتصبح حدود نشاطه على حدود روسيا نفسها.

كانت الصين قد قنعت بمركز الدولة الإقليمية الكبرى. ومع نمو قوتها العسكرية، وزيادة قدراتها الاقتصادية قد تطالب بزيادة دورها العالمي. إن ما يهم الصين في الوقت الحاضر كأولوية هو الإصلاحات الاقتصادية، أي ما أطلق عليه التحديث. وسيبقى دور الصين خارج الأمم المتحدة إقليمياً تعمل فيه الصين على توسيع مجالها الحيوي.

قال الاستراتيجي شونفيلد في محاضراته له من إذاعة لندن عن المتغيرات التي أوجدتها حرب فيتنام «أن تأثير الأسلحة في السياسة الدولية لم يَعُد يتناسب مع حجم هذه الأسلحة». وقال بمثل هذا المحللان الأميركيان جوزف ناي وروبرت كوهن. وإذا كانت قوة الدولة تتمثل في قدرتها على التأثير في قرارات الدول الأخرى، فإن قوة أميركا قد انحدرت كثيراً عما كانت عليه بُعيد الحرب العالمية. وتدليلاً على ذلك أسوق بعض الأمثلة. هددت أميركا بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 بأنها ستفرض على بريطانيا حظراً بترولياً إذا لم تنسحب من منطقة قناة السويس المحتلّة، فقال وزير الخزانة البريطاني: إنه الإفلاس إذن، فأذعنت بريطانيا وانسحبت.

أما في حرب الفوكلاند سنة 1982 فقد اتصل ريغان برئيسه وزراء بريطانيا، تاتشر، يطلب منها أن تعيد القوات البريطانية من عرض البحار، وأنه سيضع الفوكلاند تحت إشراف دولة محايدة حتى تقرر مفاوضات بريطانية ـ أرجنتينية مصيرها، فتعطى لصاحب الحق. فصرخت تاتشر في وجهه على الهاتف قائلة له بأنه لو كان الدم الذي أريق دماً أميركياً لما قبل ريغان بالانسحاب، وأنها لا تجد ما تبرر به الانسحاب للشعب البريطاني، ورفضت طلب ريغان واحتلت القوات البريطانية الفوكلاند. وإذا كان قد كشف عن هذا الاتصال فإن المخفي أعظم.

وكانت ألمانيا لا ترد للولايات المتحدة طلباً. وفي حزيران سنة 1992 رفعت ألمانيا نسبة الفائدة بسبب مقتضيات الاقتصاد الألماني مما أثر على الدولار. فضغطت أميركا على المستشار كول للعودة عن رفع الفائدة فرفض. فبعث رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي. سكوكروفت برسالة خطية إلى المستشار كول يتهمه فيها بنكران الجميل بالرغم من مساهمة أميركا الفعالة في توحيد ألمانيا.

ومواقف اليابان من ضغوط أميركا في الأمور التجارية هي من الكثرة بحيث لا تحتاج إلى تدليل. وقد وصل الحلف الياباني إلى درجة أن وجه رئيس البرلمان الياباني تهمة الكسل والغباء للعمال الأميركيين بمناسبة زيارة الرئيس بوش لليابان في كانون ثاني سنة 1992، مما يعتبر إهانة لأميركا بأسرها. وسياسة فرنسا الرئيسية تتمثل في الوقوف في وجه أميركا في أوروبا. وليس موقف فرنسا في مباحثات الجات سوى مظهر لهذه السياسة.

كان صراع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كصراع جبّارَيْن في عض الأصابع، فعندما يستسلم أحدهما صارخاً من الألم، فإنه يفعل ذلك بعد أن يكون قد أصاب الآخر بأذى بليغ. هذا هو حال الولايات المتحدة لدى تفكك الاتحاد السوفياتي، انحدار اقتصادي، تمزق في الشعب الأميركي وتشكك في القيم الأميركية وفي القيادات السياسية. والقوة نسبية، فلا تقاس قوة الدولة بمعايير مجردة، وإنما تقاس منسوبة إلى قوة أخرى. وبقياس قوة أميركا منسوبة إلى قوة غيرها تجد أن هذه القوة قد انخفضت اليوم كثيراً عما كانت عليه في السابق. كان مركز الولايات المتحدة في العائلة الدولية سنة 1945 كمركز أب لعيال صِبْيَة، بينما أصبح مركزها اليوم في العائلة الدولية كمركز أب لعيال كبرت، يعتمد في تدبير أمور نفسه على ما يقدمونه له من مساعدات. ومن المتوقع أن يزداد مركز الولايات المتحدة ضعفاً في المستقبل لتوفر أسباب أخرى. ففي الصراع تقتصر الدولة نفسها وقدراتها وطاقاتها من أجل الغلبة، وحجم الصراع يبرز حجم مركز الدولة. وما أن ينتهي الصراع حتى يخبو التحفز وتضعف الطاقات. فالأوراق التي سمحت لقادة أميركا بالحفاظ على مركزها وابتزاز الحفاظ على مركزها أخذت تتفلّت منهم شيئاً فشيئاً، واختفاء الاتحاد السوفياتي كان ولا شك الضربة الأكثر قسوة. وسيؤدي غياب الاتحاد السوفياني كعدو مشترك للدول الغربية إلى مزيد من تفكك حلفها وإلى تصاعد في تنازعها. لذلك يجوب ساسة أميركا العالم، كما كان يفعل دون كيشوت، للتفتيش عن خصوم وهميين يجعلون منهم ورثة هتلر وستالين فيجرّدون جيوشهم عليهم في محاولة يائسة لتثبيت الوهم بأن مركز أميركا لا يزال كما كان. ويروى أن عنترة العبسي سئل ذات مرة عن سر بطولته فأجاب أنه يتخيّر الضعيف الجبان فيضربه ضربة ينخلع منها قلب الشجاع فبهذا الأسلوب تعمل أميركا على فرض هيبتها.

ولا بد من التساؤل بعد كل هذا عما إذا كان إعلان الرئيس بوش عن ولادة النظام الدولي الجديد يحمل الجدّية التي تفترض أن تتميّز بها تصريحات رئيس الدولة الأولى في العالم. أم أن إعلان هذا كإعلانه في قمة الأرض في البرازيل، وهو يقف وحيداً في مواجهة مع زعماء العالم، بأنه زعيم البيئة الأول. ولذا كانت الولايات المتحدة عاجزة عن لملمة النظام الدولي القديم المتصدع وفرض إرادتها بالشكل الذي كانت تفعله من قبل، وإذا كان هذا النظام مرشحاً لمزيد من التسرّب من بين يديها فأي نظام عالمي جديد تريد؟!! وكيف ستفرضه؟

نظام عالمي؟! أم بلطجة أميركية؟!

تبيّن من استعراض العلاقات الدولية وواقع الولايات المتحدة لدى إعلان الرئيس بوش عن ولادة النظام العالمي الجديد، أن الولايات المتحدة كانت عملاقاً منهكاً ومصاباً بطعنة هنا وطعنة هناك. وسواء أكان انحدارها نسبياً أم مطلقاً، فالنتيجة واحدة، فالانحدار النسبي يمكن أن يصبح انحداراً مطلقاً. لقد أعطى الرئيسان كارتر وريغان الأولوية للإصلاحات الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية، ففشلا في تغيير الواقع، ولم يتابع الرئيس بوش مشوار الإصلاحات باستهداف مواطن الانحدار يأساً، وفضل الالتفاف عليها من الخارج بإيجاد معطيات على الحلبة الدولية توقف الانحدار أو تدفع بالدول المنافسة للولايات المتحدة للانحدار. ولكن أسباب الانحدار الأميركي أوسع وأعمق من أن تحل خارج الولايات المتحدة. تقول ماري ـ فرانسي توانيه مديرة الأبحاث في المعهد القومي للعلوم السياسية بباريس، في مقالة لها في صحيفة اللوموند ديبلوماتيك «وأيضاً فإن الأمور الجديرة بالاعتبار التي تميز هذا الانحدار هي في أنه يمسّ تقريباً جميع مجالات القوة في الولايات المتحدة، وتشلّ في الوقت نفسه الولايات المتحدة في ممارستها لما يبقيها قوة كبرى… وبلا شك فإن الانحدار الاقتصادي ليس أكثرها وضوحاً بالرغم من أنه لا ينكر».

كما تبيّن أن الولايات المتحدة لم تكن الدولة الوحيدة الفاعلة في المسرح الدولي، وإنما كان إلى جانبها دول أخرى، وإن كانت الولايات المتحدة تتفوق عليها في القوة العسكرية. ولما كان النظام الدولي ثمرة مزاوجة بين العلاقات الدولية للدول الكبرى، فإن إقامته تكون بعد مباحثات بين الدول الكبرى. أما النظام الدولي الذي يفرض من طرف واحد، فإنه يكون نظاماً لقيطاً لا يلبث أن يطاح به كما أطيح بنظام نابليون الدولي. فقد أخذ روزفلت في التباحث مع خليفته تشرشل وستالين منذ أن التقى بهما لأول مرة إبان الحرب العالمية الثانية على النظام الدولي الذي وقع ميثاقه سنة 1945 ـ 1946، فكان وليد مباحثاته طويلة وإن شابها الابتزاز الأميركي. وكان ما أجراه نيكسون في استراتيجية تعديلاً في السياسة الأميركية أكثر منه تعديلاً في النظام الدولي، ومع ذلك فقد تباحث مطولاً مع قادة الصين لأنها كانت الطرف المستجد في العلاقات الدولية. أما الرئيس بوش فقد فاجأ العالم بإعلانه عن النظام العالمي الجديد، وهذا يعني إما عدم الجدية، وأن إعلانه كان للاستهلاك المحلي بعد حرب الخليج أو أنه سيعمل على فرضه بطريقة أو بأخرى على المجتمع الدولي. وقد صاحب تصريح الرئيس بوش هذا تسريب نص وثيقتين صادرتين عن البنتاغون وبخاصة الوثيقة الأولى التي نشرتها صحيفتا نيويورك تايمز والهيرالدتربيون في 8 ـ 9 من آذار سنة 1991. فقد صدرت هذه الوثيقة عن وزارة الدفاع بالتعاون مع مجلس الأمن القومي وبالتشاور مع مستشاري الرئيس ومع الرئيس نفسه. وتضع هذه الوثيقة الفلسفة لرسوخ أميركي دائم في عالم متغير، وتبيّن تصميم أميركا على الحفاظ على تفرّدها بمركز الدولة العملاقة في العالم، وعلى تفرّدها في الهيمنة، وعلى الحيلولة دون أن يعرّض هذا المركز وهذا الدور لخطر بروز أي مركز للقوة في العالم، وعلى ردع المنافسين المحتملين عن أن يأملوا في لعب دور إقليمي أو عالمي أكبر، سواء أكانوا منافسين سابقين أم حلفاء. وهذا لا يدع مجالاً للشك في أن المقصود بالنظام العالمي الجديد هيمنة أميركا على العالم ومقدراته فحسب. وليس سيادة العدل والسلم والقيم الإنسانية. تقول ماري ـ فرانس تعليقاً على توجه الوثيقة في هذه الظروف الدولية: «ومن هنا فإن وثيقة البنتاغون الأولى التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز ليست إشارة على الرغبة في السيطرة من منطلق جنون العظمة. فالنتيجة التي لا مفر منها للتقييم والتي ليس بالإمكان التصريح بها للرأي العام الأميركي أو للعالم، والتي تشكل الأساس لجميع التوجهات السياسية لرئيسها بوش هي أن التخلّي عن الهيمنة سيسرع الانحدار، وسيحمل مخاطر الإطاحة بالتوازن الاقتصادي والنقدي المتزعزع بدرجة كبيرة والخاص بالولايات المتحدة بل وببقية العالم، إذ يعتمد أحدها على الآخر مما يجعل من المستحيل التخلّي عن أن يكون الدولار العملة المرجعية في العالم»، ثم تقول: «ويعلم الرئيس بوش أنه يتوجب عليه، ومن غير أن يملك الوسيلة، وفقط لأنه لا يملك الوسيلة، أن يحدد منفرداً النظام العالمي الجديد، في الشرق الأوسط، في الصين أو في روسيا. حق الولايات المتحدة وضع المفهوم، وواجب الحلفاء دفع الحساب».

وقول ماري ـ فرانس من أن الحافز هو أن التخلّي عن الهيمنة سيسرّع من الانحدار أمرٌ واردُ، فالخمول مع الانحدار سيؤدي إلى مزيد من الانحدار، كالعضو الذي لا يستعمل فإنه يضمر، ولكنه بالتأكيد ليس الحافز الرئيسي. فبالرجوع إلى الأعراف والتقاليد السياسية الأميركية نجد أن الاستئثار بالغنيمة والانفراد في القيادة من أهم تلك الأعراف والتقاليد. وإذا قبلت الولايات المتحدة أن يشاركها غيرها في شيء من هذا فإن ذلك يكون مرحلياً ولأسباب آنية. فقد قبلت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أن تشترك الدول الأربع الكبرى في تصريف شؤون العالم، ثم ما لبثت أن أسقطت بريطانيا وفرنسا، لتصرفها بالمشاركة مع الاتحاد السوفياتي، ثم أسقطت الاتحاد السوفياتي لتنفرد بها. لذلك ليس غريباً أن تتشبّث أميركا بتفردها من منطلق جنون العظمة بالرغم من أن الظروف الدولية غير مؤاتية لتكريس هذا التفرّد. وحقيقة الحال أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يلجم الولايات المتحدة. وإنما كان وجوده يهيئ لها الظروف ويعطيها المبرر ويعطيها حجمها الدولي. ومن المتناقضات السياسية أن القضاء على الاتحاد السوفياتي كان الأولوية الأهم في السياسة الأميركية، وأن زواله كان العامل الأهم في انحدار مركزها الدولي. لذلك فإن إعلان الرئيس بوش عن النظام العالمي الجديد كان اغتناماً لظرف وليس توقيتاً للحدث، فالحدث قديم والإعلان عنه هو الجديد، والظرف الذي بشّر فيه الرئيس بوش بولادة النظام العالمي الجديد هو هزيمة الشيوعية وانتهاؤها كنظام، وتفكك الإمبراطورية السوفياتية، ونهاية الحرب الباردة وانتصار أميركا في حرب الخليج، أي باختصار قمة الانتصارات الأميركية. وكما يساهم هذا الظرف في تحديد محتوى هذا النظام العالمي، فإن يشكل رسالة للعالم فحواها تصميم أميركا على الحفاظ على مركزها العالمي وعلى تفردها فيه، ثم جاء تسريب الوثيقتين المذكورتين ليعزز هذه الرسالة.

وطريقة تنفيذ النظام هي بدرجة أهمية محتوى النظام نفسه. وهي جزء لا تجزأ من النظام يجري تحديدها كما يجري تحديد النظام. هذا هو حال عصبة الأمم والأمم المتحدة، بل هذا هو حال استراتيجية نيكسون. ولذلك فإن التساؤل عن كيفية النظام العالمي الجديد يفرض نفسه. لقد ذكرت الهيرالد تربيون في افتتاحيتها في 14 أيار سنة 1992 أن الرئيس بوش قال لطلاب جامعة ميتشغان: «لقد سار كل شيء، من بداية التسعينات، نحو الأفضل، ولمصلحة الأفضل في هذا العالم، لقد تبخّر الاتحاد السوفياتي، وغدت الولايات المتحدة الدولة العملاقة الوحيدة، وستبقى الوحيدة القادرة على تحديد النظام العالمي الجديد، وعلى تأكيد تشغيله». وكما لم يحدد الرئيس بوش ماهية النظام العالمي ومحتواه، فإنه لم يحدد طريقة تشغيله، وترك الذين رأوا الجدية في الإعلان في تيه. ولا يُخرج الاستئناس بالوثيقتين المذكورتين من هذا التيه، لأن أياً منهما لم تلق ضوءاً كافياً على طريقة تشغيل القطاع العالمي. لقد أبرزت الوثيقة الأولى سياسة أميركا التقليدية المتمثلة بالجزرة والعصا، فبينما تنص على أن يتم حفاظ أميركا على المركز المتفرّد بالسلوك المتمثل في أن يأخذ ساسة أميركا في الحساب مصالح الدول المتقدمة صناعياً لثنيها عن تحدّي مركز أميركا هذا، أو تعريض النظام الاقتصادي أو السياسي للخطر، فإنها تنصّ أيضاً على وجوب الحفاظ تفوق القوة العسكرية الأميركية لردع المنافسين المحتملين. أما الوثيقة الثانية فقد ذكرت سبعة سيناريوهات لحروب محتملة قد تضطر أميركا في بعضها لخوص الحرب على أكثر من جبهة، وخصّ اثنان منها بالذكر حرباً محتملة مع روسيا بسبب دول بحر البلطيق أو أوروبا الشرقية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *