العدد 72 -

العدد 72- السنة السادسة، شوال 1413هـ، الموافق نيسان 1993م

الدعوة إلى الإسلام (16)

التدرّج

الفكرة التي نريد التطرق إليها ومعالجتها وتبيان فسادها هي فكرة التدرّج في أخذ الإسلام وما تولد عنها من فكرة جواز مشاركة المسلمين في الأنظمة الحالية. والقول بأن الديمقراطية من الإسلام من باب تقريب الإسلام إلى العقول نظراً لعلاقة الأفكار الوثيقة بعمل الجماعة في التغيير.

فما هو التدرج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟ وما مسوغاته؟ وما هو الحكم الشرعي فيه؟…

لما وصل المسلمون إلى الحضيض في الهبوط الروحي، والتخلّف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي، صارت أفكارهم من جنس واقعهم السيئ. ونشأت عند المتمسكين بإسلام أفكار لا تعبر عن حقيقة الإسلام ونظرته للحياة، بل تعبر عن سوء فهم وعدم إدراك لحقائق الإسلام وتوجهاته في الحياة. واستطاع الكافر المستعمر الذي أصبحت أمور المسلمين في يديه، يقلّبها كيف يشاء أن يغرس مفاهيمه ومقاييسه بين المسلمين. وأن يزرع أفكاره التي أنبتت زرعاً مختلفاً أكله يطيب في فم أعدائه، ويحلوا في لسانهم. وكانت الجولة لمصلحته. والسبب لم يكن في الإسلام بل في أهله الذين فقدوا التقيد الواضح، وضاع منهم الفهم الصحيح. ولئن حاولوا المقاومة بفهم متأثر بالواقع وخاضع للمصلحة، ولكنها كانت محاولات عوجاء وخطوات عرجاء انتهت بهم إلى الفشل الذريع والاستسلام المريع. وبقي الكفر يرتع في بلادنا ولا من مانع يمنعه أو زاجر يردعه. فكيف هاجم الكافر المستعمر الإسلام؟ وكيف كان رد المسلمين؟

هاجمه بأن اتهمه بأنه لا يستطيع مجاراة العصر، ولا يستطيع إيجاد الحلول للمشاكل المستجدة. وكان الرد من المسلمين بمحاولة إيجاد حلول في الإسلام بما يقول به النظام الرأسمالي. وبما أن الأساس الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي يتناقض كلياً مع الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عمدوا إلى التوفيق بين النقيضين فعمدوا إلى التأويل المغلوط والذي أوجد مفاهيم ومقاييس مغلوطة نُسِبت إلى الشرع زوراً وبهتاناً. وكانت الغاية من ذلك إيجاد الانسجام بينهما وإعطاء الصورة التي تظهر أن الإسلام قادر على مسايرة التطور. وكان جرّاء ذلك أن أخذ بها على أساس أنها أفكار وقواعد ومقاييس إسلامية ومن خلالها يفهم الإسلام مع أن الأخذ بها يعني ترك الإسلام واتباع النظام الرأسمالي. وكل دعوة للتوفيق أو متأثرة بهذا التوفيق هي دعوة لأخذ الكفر وترك الإسلام. ويعني كذلك حمل أفكار الكفر للمسلمين ودعوتهم لأخذها وترك الدعوة الإسلامية الحقّة.

لذلك، لما حاول المسلمون، إبان عصور الانحطاط النهوض بالأمة بمثل هذه الأفكار، كان عملهم هذا ضِغثاً على إبّالة ولم يستطيعوا انتشال الأمة من الحضيض لأنهم هم نزلوا إليه.

من هنا بدأنا نسمع الألسن تتطاول على الشريعة الإسلامية، بقصد أو بغير قصد، فتدعي أنه لا يعقل ونحن على بعد أربعة عشر قرناً من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن نظل نحتكم لنفس العقلية السابقة. فلا بد  في نظرها من التجديد، تجديداً يواكب الظروف ويجعل الإسلام في المقدمة من جديد ولا بد من إلباسه لباس الحداثة، وتطعيمه بالأفكار العصرية حتى يؤلف القلوب عليه من جديد، وحتى يخرج من انغلاقه، واتهام الآخرين له. فلباسه القديم لم يعد مألوفاً.

ومن هذا المنطلق خرج بعد المسلمين بعدد من الأفكار التي تشكل قواعد فكريه لهم، وتحدد مسار القائلين بها، وتعيّن توجههم الجديد في الحياة. وهي ما اتفق على تسميتها بأفكار عصر الانحطاط، التي ظهرت إبان ظهور النهضة الغربية الفاسدة في بلادنا حيث ظن هؤلاء المسلمون أن مسايرة الزمان والاستفادة من الفكر الغربي الناهض أمر مطلوب إسلامياً ليبقى الإسلام على مستوى العصر.

فظهر كثير من الأفكار المتأثرة التي تخدم هذا الاتجاه من مثل: (إن الدين مرن ومتطور)، (خذ وطالب)، (القبول بما يوافق الشرع أو بما لا يخالف الشرع)، (ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرّين)، (ما لا يؤخذ كله لا يترك جله)، (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها)، (التدرج في أخذ الإسلام)، (الديمقراطية من الإسلام)، (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان)، (حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله). وصارت هذه الأفكار وما شاكلها هي المنطلق الفكري أو القواعد الفكرية لما سموه بـ (النهضة الإسلامية الحديثة والتي كان أهم روادها الماسوني جمال الدين الأفغاني وتلميذه الماسوني محمد عبده الذي كان يسمّى بشيخ الإسلام).

إن مثل هذا الكلام قاله أناس عن سوء طوية وخبث نيّة لكي يفصلوا المسلمين عن أسباب قوتهم، ويورثوهم ضعفاً يقعد بهم عن إقامة أمر الله مرة ثانية.

وقال أناس عن حسن نية وسلامة قصد ظناً منهم أن في ذلك البلسمَ الشافي لكل ما يعاني منه المسلمون اليوم من تدهور وانحطاط.

وهذا الكلام، سواء أصدر عن سوء نية أو عن حسنها فإن أثره في الواقع واحد. ونحن على كل حال نحذر المسلمين من كيد الكفار لهذا الدين وننصحهم بالإقلاع عن مثل هذه الأفكار التي أثبتت عقمها في أرض الواقع فلم تنبت خيراً ولم تبعد شراً. وأن الله سبحانه وتعالى جعلنا أغنى الناس، ففي الإسلام من الكفاية ما يغني عن الأخذ من غيره. وأن طبيعة الإسلام تفرض طريقة أخذه. فالدين الإسلامي منزّل من عند الله ليعالج شؤون الحياة. وما على المسلم إلا أن يجتهد في النصوص الشرعية المنزّلة وليس خارجها ليعرف حكم الله تعالى. وأن القواعد الفكرية التي تلزمه في حياته يجب أن تكون منضبطة بأدلتها الشرعية. فهي أحكام شريعة ولها أدلتها التفصيلية. وطريقة الاجتهاد هذه ثابتة وواحدة ولا يجوز تبديلها بحال من الأحوال. ومن هنا ينطلق أساس نهضتنا تماماً كما انطلقت من قبل.

ولا بأس من التذكير ببعض هذه القواعد والأفكار الشرعية المنضبطة التي يجب أن تسيطر على أذهان المسلمين لتضبط توجههم وتعين اتجاههم وليندفعوا للعمل بحسبها. وهي من مثل (حيثما يكون الشرع تكون المصلحة وليس العكس)، (الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي)، (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم)، (الحَسَن ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع)، الخير هو ما أرضى الله والشر هو ما أسخطه)، (لا حكم قبل ورود الشرع)، (من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً)، (أن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة من دون الناس)، (أن الإسلام لا يقرّ الوطنية ولا القومية ولا الاشتراكية ولا الديمقراطية)، (أن الإسلام طراز معيّن في العيش يختلف عن غيره كل الاختلاف)..

وإن الوقوف أمام بعض النصوص الشرعية يدل دلالة واضحة على أهمية التقيّد بما كان عليه السلف الصالح وعدم الخروج عنه إلى الابتداع. لأن كل ابتداع مذموم.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنّتى» وكلمة «بعدي أبداً» تشملنا.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «… وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار ما عدا واحدة. قالوا ومن هي يا رسول الله الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي اليوم».

ويقول صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على المحجّة البيضاء لا يزيغ عنها إلا كل ضال».

ويقول: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم…».

ويقول: «… إن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار.. عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ».

ويقول: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد».

ففي هذه الأحاديث دعوة إلى الاتباع الحسن والتحذير من الابتداع. وترتيب الخيرية يدلنا على أن الالتزام يضعف كلما ابتعد الزمان عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مما يحمل الدلالة على أنه كلما ابتعد الزمن كلما اقتضى منا ذلك تمسكاً أقوى، والتزاماً أشد، وتحرياً للصواب أكثر، وتوخياً للإخلاص أكبر. وإذا كان المطلوب منها أن نَعضَ على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. وأن نكون على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. فعلينا أن لا نبتدع في الدين وأن لا نخرج إلى حدث فإن ذلك مردود على فاعله. فكيف السبيل إلى ذلك في أيامنا هذه؟

– إنه يكون بأن نحافظ على العقيدة الإسلامية نقية صافية في نفوسنا، لم يطرأ عليها أي عامل من عوامل التغشية.

– وأن نعب من مصادر الإسلام النقية الصافية.

– وأن نحافظ على طريقة الاستدلال المنضبطة التي تمنع الهوى والرأي من أن يتسرب إلى الحكم الشرعي.

– وأن نجعل الإسلام أهم شيء في حياتنا: أهم من أنفسنا وأولادنا وأهلينا، ومصالحنا وأهوائنا بحيث تكون كلمة الله هي العليا في نفوسنا وبحيث لا نقدِّم بين يدي الله ورسوله وبحيث نكون كما كان الحال زمن السلف الصالح.

– وأن نخلع أفكار الكفر وأدرانه من نفوسنا وعقولنا ونبعد عنها بهرجه وبريقه، كما كان يخلع الصحابة رضوان الله عليهم أدران الجاهلية أمام عتبة الإسلام ويدخلون فيه أنقياء وأتقياء.

وهذا كله يقتضي منا عَوْد على بدء، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فهذه لازمة لا يستغني عنها المسلمون في كل مرحلة من مراحل حياتهم. وبحسب قربهم منها أو بعدهم عنها يكون حالهم قوة أو ضعفاً.

وبعد هذا التمهيد نسأل: ما هو التدرّج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟ وما مبرراته؟ وما موقف الشرع منه؟

إن التدرج يعني الوصول إلى الحكم الشرعي المطلوب على مراحل وليس دفعة واحدة. وهو ما يعبر عنه عند أصحابه بالمرحلية. فيطبق المسلم أولاً أو يدعو إلى حكم غير شرعي ولكنه أقرب من سابقة إلى الحكم الشرعي بنظر القائل به، ثم يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي إلى حكم غير آخر أقرب حتى يصل حسب رأيه إلى الحكم الشرعي.

ويعني كذلك أيضاً تطبيق أحكام شرعية والسكوت عن أحكام غير شرعية أخرى ريثما يصل مع الوقت إلى التطبيق الكامل للشرع.

وهذا التدرج غير مقيد بعدد ثابت من المراحل. وليس خاضعاً لقواعد منضبطة عند القائلين به. فقد يأخذ الحكم الواحدة مرحلة أو مرحلتين أو ثلاثاً أو أكثر. وهذا التدرج غير منضبطة كل مرحلة فيه بوقت معين بل يبقى للظروف والأوضاع تأثيرها الواضح في تحديد عدد المراحل فقد تقل وقد تكثر، ووقت كل مرحلة قد يطول وقد يقصر.

وإن إطلاق فكرة التدرج قد يشمل أفكاراً متعلقة بالعقيدة كقبول القول (إن الاشتراكية من الإسلام) سابقاً أو (إن الديمقراطية من الإسلام) حالياً. بعد فشل الاشتراكية. وقد تشمل أحكاماً شرعية (كأن تلبس المرأة المسلمة حجاباً يصل ثوبها فيه إلى ما تحت ركبتها بقليل ريثما يطبق في مرحلة لاحقة الحكم الشرعي المطلوب. وقد يتعلق بالنظام كالمطالبة بالمشاركة في الحم مع أنه حرام شرعاً وبحسب اعتراف القائلين به. لكنها عندهم مطالبة ليست مقصودة لذاتها بل للوصول إلى الحكم بالإسلام الذي هو الأصل والواجب في مرحلة لاحقة. أو قد يكون بالعمل على إيجاد بعض الأحكام الإسلامية والسكوت عن الأخرى على أمل أن تكثر حتى تطغى ثم تسود وهكذا… وقد تتعلق بالدعوة حين يدعى إلى كل هذا. فيلتزم المقتنع بالتدرج بهذا الأسلوب ويحاول أن يدعو الآخرين بحسبه. وقد يكون صاحب هذا الطرح من التقوى بحيث أنه من حيث الالتزام لا يقبل على نفسه أي تفريط ولكنه يقبل لغيره من باب حرصه على الآخرين وحتى لا يرفضوا الدعوة إلى أحكام الإسلام، فإن يكونوا على شيء افضل من أن لا يكونوا على شيء.

– مبررات القائلين بالتدرج أو المرحلية وردها:

لقد اعتمد أصحاب هذا الطرح على ما قالوا إنها مبررات تؤيد فهمهم هذا التفكير وفي الدعوة الإسلامية. وكانوا بهذا المنحى الذي انتحوه قد ساقوا مبرراتهم سوق الشهود على ما يريدون. ولم يكونوا خاضعين للنص ودلالاته بل أخضعوا النص لما يريدونه كما سنرى. ومن هذه المبررات:

1- قولهم إن الله لم يحرم الربا دفعة واحدة. بل نزل تحريمه على دفعات ومراحل.

قال تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ) الروم: 39.

وقال تعالى: (لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً…) آل عمران: 130.

وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا…) البقرة: 278.

وقال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) النساء: 161.

وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) البقرة 275.

ومن مجمل هذه الآيات فهم القائلون بالتدرج أن الربا كان مباحاً لدليل الآية الأولى. ومن ثَمّ نزل تحريم أكل الربا المضاعف دون القليل في الآية الثانية. ثم نُهي في الآية الثالثة عن القليل من الربا بدليل قوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا) ومن ثم قالوا إن تحريم الربا بدأ بالتلميح لا بالتصريح بدليل الآية الرابعة حكاية عن اليهود. وأخيراً حرم الله الربا بعد هذا التسلسل وبعد هذه المراحل التي مر بها بقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).

إن الناظر في فقه هذه الآيات نظراً تشريعياً صحيحاً يجد أن القول بالتدرج هو أبعد ما يكون عن الصواب.

– فالآية الأولى لا علاقة لها بالربا المحرم لا من قريب ولا من بعيد. وموضوعها هو الهبة والهدية. ومعناها أن من أعطى هبة أو هدية يريد ضعفها أو استردادها من الناس، فلا يربوا عند الله، أي لا ثواب عليها عند الله بينما «الصدقة تقع في يد الرحمن فتربو حتى تصير مثل الجبل» كما في الحديث. وكذلك قال ابن عباس: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا) يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه فذلك الذي لا يربوا عند الله. وفي هذا المعنى نزلت الآية (نقله القرطبي) وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في هذه الآية: إن من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند الله. بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمه ومحمد بن كعب، والشعبي. وهذا الصنيع مباح.

وقال ابن عباس: الربا رباءان (رِبَوان) فربا لا يصح يعني البيع. وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها.

– أما الآية الثانية: (لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فقد نزلت تنهى عن أكل الربا المضاعف وهو ما كانوا عليه في الجاهلية. ولا يوجد فيها ما يدل على تقييد تحريم الربا.

ولقد قال المفسرون أن سورة البقرة، وهي السورة التي نزل فيها تحريم الربا، هي أول سورة نزلت في المدينة. وسورة آل عمران، التي نزل فيها النهي عن الربا المضاعف، نزلت بعدها، وعليه ينتفي أن الله سبحانه قد أباح أكل الربا القليل. وعليه يكوم ما ذكر في آية آل عمران ليس من قبيل التدرج بل جيء بها باعتبار ما كانوا عليه في العادة التي يعتاد عليها الكفار في الربا. وعليه فإن حكم الراب نزل تحريمه في بادئ الأمر.

– أما الآية الثالثة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا) لا يعني أنه قد سمح للمسلمين بشيء قليل من الربا ثم نهوا عنه. بل إن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم. فكانوا قد قبضوا بعضه وبقي بعض. فعفا الله عزَّ  وجلَّ عما كانوا قبضوه وحرم عليهم ما بقي منه.

ويعضد ذلك قول الله تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله. وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب».

– أما الآية الرابعة: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) إن الربا المقصود في هذه الآية هو المال الحرام من الرشوة وغيرها الذي كان يأكله اليهود كما قال تعالى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وليس المقصود بها الربا الشرعي المحرم علينا. وإنه وإن فهم القائلون بالتدرج بتحريم الربا من هذه الآية ولكن بالتلميح وليس بالتصريح. فلا فرق بين التحريم بالتصريح أو التحريم بالتلميح. وعلماً أن هذه الآية في مطلق الأحوال تتعلق بشرع من قبلنا.

وعليه فإن الربا حرام من أول تشريعه. ولا يوجد ما يدل على أنه حرم على مراحل. وتعدد النصوص الواردة في الموضوع كان لوقائع معينة. ولا يوجد فيها ما يدل على التدرج.

2- قولهم إن الله عزَّ وجلَّ قد حرَّم الخمر على مراحل:

قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) البقرة: 219.

وقال: (لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) النساء: 43.

وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأََزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ).

ومن مجمل هذه الآيات فهم القائلون بالتدرج أن الخمر كان مباحاً في بادئ الأمر بدليل الآية الأولى، ثم نزل تضييق الإباحة بقوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى..) ثم تُنهي عن الخمر بعد هذا التضييق.

والناظر في هذه الآيات نظرة تشريعية لا يجد أي تدرج في التحريم بل يوجد نسخ. وسيأتي بيان ذلك لاحقاً. فالخمر لم يكن فيها حكم قبل تحريمها. أي أنها كانت متروكة على الإباحة أي أن الشرع كان ساكتاً عنها مع فعلهم لها. حتى نزلت الآية الثالثة. ويؤيد ذلك ما حدث مع سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه). فقد قال (رضي الله عنه): «اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافياً. فإنها تذهب بالمال والعقل فنزلت (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ..) فدعي عمر ـ رضي الله عنه ـ فقرئت عليه، فقال اللهم بيِّن لها في الخمر بياناً شافياً. فنزلت (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى..) فدعي عمر فقرئت عليه. فقال اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأََنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) فدعي عمر فقرئت عليه. فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) قال عمر: انتهينا انتهينا.

لقد ظل سيدنا عمر يسأل الله تعالى أن ينزل بياناً شافياً في الخمر الذي كان متروكاً على الإباحة قبل نزول الآية الأولى المذكورة، وظل يسأله تعالى بالرغم من نزول الآيتين الأولى والثانية مما يدل على أنها ظلت على إباحتها حتى نزل التحريم في الآية الثالثة.

والنهي في الآية الثانية منصب على الصلاة وليس على الخمر. فهي آية متعلقة بالصلاة. والمدقق في فقه هذه الآية يرى أنها لم تنه المسلمين عن الشرب عند الصلاة بل نهت عن السكر حال الصلاة حتى يعلم المسلمون ما يقولون. ولو كان المسلم بعد نزول هذه الآية تفوح منه رائحة الخمر وهو يصلي أو يحمل معه قربة من خمر أو قد شري من الخمر بالمقدار الذي لا يضيع معه عقله فلا شيء عليه.

ومع أن الله سبحانه وتعالى ذم الخمرة في الآية الأولى باعتبارها تطلب مضرة. ونهى عن السكر في حال الصلاة في الآية الثانية وحرمها في الآية الثالثة. فهذا لا يقال عنه تدرج بل تدل هذه الآيات على وجود ناسخ ومنسوخ. وبه قال مجاهد وقتادة وابن عباس. ومعنى أنه نسخ تدرجاً إن الذي حصل هن نسخ لحكم سابق بحكم لاحق. وهذا هو معنى النسخ ولم يكن تدرجاً. أي لم يحصل أن أحداً شرب الخمرة بعد تحريمها أي بعد نزول آية المائدة. لا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين وتابعيهم ولم تلحظ كتب الفقه لكبار علماء ومجتهدي الأمة بحث التدرج في الخمرة. ولقد كانت الفتوحات الإسلامية قائمة على قدم وساق، وكانت تفتح البلدان، وكان يدخل الناس في دين الله أفواجاً. ولم يراع المسلمون الفاتحون حداثة إسلام إخوانهم الذين دخلوا في الدين من جديد ولم يسكتوا عن شرب الخمر ريثما يمروا في المراحل التي مر بها تحريم الخمر. مع أنهم كانوا بحاجة لو أن هذا الأمر يؤخذ بعين الاعتبار. وهذا هو الفرق بين النسخ والتدرج. على أن بحث التدرج هذا لم يعهده علماؤنا الأوائل الأفاضل بل هو بحث مستجد أملته شدة الواقع وقساوة الظروف على قول بعض من تسموا بالعلماء وأرادوا أن يجعلوه منهجاً في التفكير لا يطال بعض الأحكام بل الدين كله. وصح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، ولك بدعة في النار».

والسؤال الذي يطرح نفسه كمخرج لدعاة التدرج: هل يجوز لنا أن نأخذ فيها بالحكم السابق بحجة التدرج بالأحكام.

والجواب القطعي: لا. لأن الحكم قد نسخ وعطل من قبل حكم آخر لاحق. فلا يجوز شرعاً الرجوع إلى الحكم المنسوخ والمعطل. لأننا نكون قد فعلنا ما لم يأمر به الله سبحانه ـ وهذا الذي عليه السلف والخلف بعدم جواز الأخذ بالحكم المنسوخ. فللخمرة اليوم حكم واحد، لا يتغير بحال من الأحوال، ولا يسقط الإثم عن شاربها.

3- قولهم بأن الشرع قد عالج أحكام الرق بطريقة التدرج. فهذا باطل لأن الله عزَّ وجلَّ لم يحرم وجود الرقيق بل أوجد منافذ له. وإذا عاد وجودهم فستعود أحكامه وسيعود وجود الرقيق ثانية.

4- قولهم بأن القرآن نزل مفرقاً ومنجماً. ولم ينزل دفعة واحدة مما يدل على التدرج. والجواب على ذلك أن الله عزَّ وجلَّ كان ينزّل الأحكام بحسب الوقائع والأحداث لتثبيت القلوب عليها. فنزل أول ما نزل الإيمان وذكر الجنة والنار ثم الحلال والحرام. وليس في هذا أخذ لجزء من الإسلام وترك لجزء آخر. فقد كان المسلمون مسؤولين في حدود ما نزل. ولم تتعد مسؤوليتهم أكثر من ذلك. فعندما نزل الإيمان ولم تنزل الأحكام كان المسلمون مسؤولين عن الإيمان فقط ولم يكونوا مسؤولين عن الأحكام. أما اليوم فقد كمل الدين وتمت النعمة وصار المسلمون مسؤولين عن الإسلام كله. ولكن على تفصيل وضحته النصوص الشرعية. فالأحكام الشرعية الفردية مسؤول عنها المسلمون على أي حال سواء بوجود الدولة الإسلامية أم لا. أما الأحكام الشرعية المنوطة بالدولة الإسلامية فقد تعلقت بالدولة. وهذا هو التفصيل الملزم للمسلمين وليس غيره. ولا عودة إلى الوراء.

5- قولهم أن الديانات أتت على فترات متقطعة متدرجة إلى أن وصل القرآن إلينا. والجواب على ذلك أن الله عزَّ وجلَّ أنزل الديانات على فترات. وكان لكل الديانات عقيدة واحدة، ولكن كان لكل ديانة أحكام وشرائع مختلفة لقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وهيمنة القرآن على الكتب السالفة هي نسخ لها. فالقرآن إما مصدق لها أو ناسخ لها. وليس غير.

6- احتجاجهم بقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) هو احتاج في غير محله. لأن معنى الآية أن الله سبحانه كلف عباده. ولم يأتِ تكليفه لهم إلا ضمن الوسع. وما علينا إلا أن نتقيد بالمطلوب شرعاً.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *