العدد 99 -

السنة التاسعة – صفر 1416هـ – تموز 1995م

هيئة الأمم المتحدة 50 عاماً من الظلم والإرهاب الدولي

بقلم: الأستاذ/ فتحي عبدالله

ما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945 بانهزام دول المحور وانتصار ما يسمى بدول الحلفاء حتى تسنمت الولايات المتحدة الأميركية مركز الدولة الأولى في الموقف الدولي، وراحت تفكر في السيطرة على العالم وتسلك مع حلفائها من الدول الغربية مسلك قائد المعسكر بعد أن اعتراها الغرور أنها الدولة ذات الإمكانيات التي لا تنضب لا سيما والعالم كله وبالذات المعسكر الغربي ومعه الاتحاد السوفياتي أيضاً كان يتلقى العون منها أثناء الحرب وتمده بالمال والسلاح والمعدات.

وبعد أن تذوب أصحاب رؤوس الأموال الأميركان طعم الربح حين راحوا يشاركون بريطانيا في اقتسام النفط في الشرق الأوسط فخرجت هذه المرة من عزلتها وراء المحيطين مصممة أن لا ترجع إلى تلك العزلة التي كانت قد اختطتها لنفسها بموجب مبدأ مونروا وكي يتم لها ما تريد من ا لسيطرة على العالم وجعله مزرعة لها بطرد الدول الاستعمارية القديمة من مناطق نفوذها في آسيا وأفريقيا، ولتنفيذ خطتها التي رسمتها لمحو الدولة الشيوعية من خريطة الدنيا لجأت إلى أسلوب خبيث هو تشكيل هيئة للأمم تحل محل عصبة الأمم التي عصفت بها ألمانيا النازية بخروجها منها مما أدى إلى حدوث خلل في التوازن الدولي ووقوع الحرب العالمية الثانية بتسلم ألمانيا مركز الدولة الأولى في الموقف الدولي في أخريات الثلاثينات من هذا القرن، فدعت الولايات المتحدة إلى مؤتمر عقدته مباشرة عقب انتهاء الحرب في سان فرانسيسكو عام 1945م واستمر شهرين من نيسان/ أبريل حتى حزيران/ يونيو من تلك السنة حيث وضع ما يسمى بميثاق الأمم المتحدة لحفظ السلام والأمن العالميين من أجل تطوير علاقات الصداقة بين الأمم والقائمة على احترام حقوق الشعوب وتقرير المصير وحل المشاكل الدولية واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية له.

وبلغ عدد الدول المؤسسة والتي انضمت للمؤتمر في حينه اثنتين وخمسين دولة على رأسها الولايات المتحدة والدول المنتصرة في الحرب.

بهذا الأسلوب الخبيث أرادت الولايات المتحدة تنفيذ خطتها الرهيبة للسيطرة على العالم فأخرجت هذه الهيئة العالمية إلى حيز الوجود من مؤتمر سان فرانسسكو وألبستها ثوب العدالة لتبرير ظلم الشعوب والأمم، والهيمنة على الكرة الأرضية واللعب بمقدرات الأمم ومصائرها باسم القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وما يسمى حقوق الإنسان، وراحت الدول في هذا العالم تنتمي إلى هذه الهيئة العالمية كلما نشأت دولة جديدة ودخلت الأمم المتحدة لعنت أختها، إذ لم يعد هناك أي مجال لدولة تنشأ حديثاً أن تظل هكذا وحدها خارج هذه الهيئة العالمية، وراح رؤساء الدول يتفاخرون بأن دولهم أصبحت عضواً في الأمم المتحدة.

وتفرع عن هذه الهيئة العالمية مجلس أطلقوا عليه مجلس الأمن الدولي يضم خمساً من الدول الدائمة العضوية هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي والصين.

والناظر في تاريخ هيئة الأمم المتحدة وحاضرها تتحدد لديه القناعة بأنها هيئة عالمية تسخرها الولايات المتحدة لخدمة مصالحها من أجل السيطرة على العالم وكي تضمن واشنطن بقاء الجو السياسي العالمي حول رأيها وعدم بعثرته فيما لو وقعت أزمة دولية وانهارت الأمم المتحدة كما حدث مع عصبة الأمم، عمدت إلى إيجاد قوى بديلة تحل محلها إذا جد الجد وعصف بهيئة الأمم، فقالت بتشكيل الأحلاف العسكرية لضرب طوق من الحلقات الدفاعية خارج الولايات المتحدة للدفاع عنها ولتطويق الاتحاد السوفيتي وضربه فقام حلف الأطلسي وتسلمت أميركا قيادته، وحين أرادت تشكيل حلف للدفاع عن الشرق الأوسط وأرادت تسلم قيادته وقع الخلاف بينها وبين بريطانيا على قيادته في الخمسينات الماضية فافترقت السياستان الأميركية والبريطانية عن بعضهما في الشرق الأوسط واحتدم الصراع فيها فيما عرف بالصراع الأنجلوأميركي الذي ما زال قائماً حتى اليوم. ولكن امتلاك الصواريخ حاملة الرؤوس النووية والصواريخ العابرة للقارات هو الذي حال دون نشوب حرب عالمية ثالثة، إذ باتت أسلحة الدمار الشامل تشكل ما يسمى بالرادع النووي، كما أن الخلاف على المصالح والتفاصيل المتعلقة بالموقف الدولي داخل دول ا لمعسكر الغربي نفسه حال أيضاً دون وقوع الحرب.

وكانت القضايا العالمية محصورة في بحثها بين الدول الأربع الكبرى حتى مطلع الستينات الماضية حين التقى الرئيس الأميركي كندي والرئيس السوفيتي خروشوف في فيينا وقررا إنهاء الحرب الباردة واقتسام مناطق النفوذ في العالم وإنزال بريطانيا وفرنسا عن مكانتهما الدولية، وعرف ذلك فيما سمى بسياسة الوفاق بين العملاقين، بحيث يساعد كل منهما الآخر في منطقة نفوذه في الوقت الذي اتفقا فيه على تصفية النفوذ الاستعماري البريطاني والفرنسي من مناطق النفوذ في آسيا وأفريقيا.

وبدا أن سياسة الوفاق هذه قد جمدت الدول الذي كانت الولايات المتحدة قد وضعت لهيئة الأمم المتحدة إن لم تكن قد عطلته بعد ذلك النشاط الحثيث الذي قامت به منذ نشوئها حتى أواسط الستينات، فباسم الأمم المتحدة قسمت فلسطين وشرد أهلها عام 1947 ونشأ ما يسمى بدولة إسرائيل في قبل بلاد الإسلام والمسلمين، وباسم الأمم المتحد قاتلت الولايات المتحدة الصين في كوريا بحجة حماية كوريا الجنوبية، وباسم الأمم المتحدة جاءت القوات الدولية تعسكر في سيناء لفصل مصر عن إسرائيل بعد الغزو الثلاثي عام 1956م، وباسم هيئة الأمم سلخت كشمير عن باكستان وكذلك الحال في أفريقيا حين راحت الولايات المتحدة تلاحق النفوذ الاستعمار الأوروبي القديم فيها لتصفية ولا سيما البريطاني والفرنسي في الكونجو ونيجيريا وجنوب أفريقيا ورودسيا والتشاد والحبشة والصومال وشمال أفريقيا فجاءت قوات الأمم المتحدة إلى الكونجو ونيجيريا وإلى الصومال والحبشة، ناهيك عن أنجولا وموزمبيق وكينيا وتنزانيا والنيجر والكاميرون وساحل العاج وغانا.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد دول الكتلة الشرقية ووأد النظام الاشتراكي بناء على ما خططته الولايات المتحدة لسنين طويلة وتبعاً لما رسمته من أساليب وأهمها سباق التسلح وعسكرة الفضاء، وبعد انكشاف الوجه الاستعماري الكريه للولايات المتحدة عندما راحت تصارع الدول الاستعمارية القديمة وحين أخذت تفكر في فرض سلطانها وهيمنتها على العالم بفرض نفسها شرطياً عليه باسم النظام العالمي الجديد رأت واشنطن أنه لا بد من إخفاء هذا الوجه الذي باتت الشعوب تكرهه ولا تحب النظر إليه، بإعادة إحياء الدول الذي رسمته في الأصل لهيئة الأمم المتحدة لتختفي هي وراء هذه الهيئة العالمية التي هي من صوغها وتخطيطها لتبرير القيام بأعمالها الإجرامية لفرض سيطرتها، فقامت في السنوات الخمس الأخيرة بما قامت به من أعمال عسكرية عدوانية على الشعوب ولا سيما في ما سمي بحرب الخليج الثانية التي أرادت بها طرد النفوذ البريطاني من الخليج والسيطرة على منابع النفط لجعل أوروبا واليابان تحت رحمتها، فضربت العراق بحجة تحرير ما يسمى بدولة الكويت وفرضت عليه المقاطعة الاقتصادية التي أجاعت المسلمين في العراق وهم يملكون أغنى بلاد الدنيا وقتلت أطفالهم بحرمانهم من الأدوية والغذاء، كما أرسلت قوات الأمم المتحدة إلى البلقان بعد انهيار يوغوسلافيا، وكذلك إلى الصومال… كل هذا باسم الأمم المتحدة، وهي تختبئ ورائها لإخفاء وجهها الكريه.

لكن هذه الأمم المتحدة قد انكشف أمرها في البوسنة والهرسك، حين اتخذت الأمم المتحدة أداة لتصفية المسلمين في البوسنة والهرسك حيث استصدرت قراراً بمنع المسلمين من التسلح، وقامت قواتها بالتجسس على المسلمين ومد الصرب بالمعلومات، بل والسلاح والمؤن، وعلى مدى ثلاث سنوات تتلاعب بالمسلمين، وحتى الأماكن التي أعلنتها الأمم المتحدة تحت حمايتها استولت عليها القوات ا لصربية، بل وراح الصرب يهزأون بها ويستهينون بقواتها بأخذهم أسرى وهي لم تحرك ساكناً ولم بد حراكاً.

إن ما يسمى بالأسرة الدولية أو هيئة الأمم قامت على أساس باطل، فقد قامت هذه الأسرة بادئ الأمر على أساس أسرة الدول النصرانية الأوروبية للوقوف في وجه الدولة الإسلامية منذ القرن السادس عشر حين صارت الدولة الإسلامية قوة تكتسح أوروبا حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين وصل ضعف دولة الخلافة حداً سميت عنده الرجل المريض وصار يجري التآمر للقضاء عليها واقتسام أملاكها، وأعطي هذا التجمع النصراني الصفة الدولية وعمل على تخليده بالصفة الدولية، فالشؤون الدولية إذن هي ما يعني كتلة الدول النصرانية الأوروبية فقط، ولتنظيم ذلك وضعت فيه قواعد تقليدية سميت فيما بعد بالقانون الدولي، ومن ثم بميثاق الأمم المتحدة إذ جعلت الدول الأوروبية الاتفاقيات الدولية المعقودة بينها الأعراف التي كانت سائدة بين المجموعات النصرانية وكونت منها قواعد جعلتها قواعد دولية أو ما يسمى بالقانون الدولي مما يعتبر زوراً وبهتاناً وتزويراً وتضليلاً للشعوب والأمم، فالعالم ليس هو الأسرة النصرانية وحدها، وإطلاق اسم القانون الدولي على أعراف هذه الدول واتفاقياتها وتقاليدها كذب وتزوير لأن الأفكار التي تصلح أن تكون قانوناً دولياً ليست معاهدات الدول ولا أعرافها وتقاليدها، بل إن الذي يصلح لذلك هو مجموعة الأعراف الموجودة بين مجموعات البشر في العالم كله.

لذلك كان مفهوم الأمم المتحدة أو الأسرة الدولية خطئاً في تأسيسه وكذلك ما يسمى بالقانون الدولي، فهذه الدول الأوروبية لم تسمح مطلقاً بغير قواعدها وأعرافها أن يكون له أي وجود في العلاقات الدولية وظللت هذه الدول الغربية متمسكة بالأساس الذي وجدت عليه الأسرة الدولية ووجدت عليه القواعد الدولية فاتفقت بعد الحرب العالمية الأولى على إنشاء منظمة دولية وكانوا يريدون أن تقتصر العضوية في هيئة الأمم على الدول التي دخلت الحرب ضد ألمانيا أي الدول النصرانية والدول التابعة لها، ولكن أميركا من أجل بسط نفوذها على العالم وإدخال دول العالم في حيز نفوذها وسعت عضوية الأمم المتحدة وسمحت لدول العالم بدخولها إلا أنها لم تسمح بأي قواعد من شأ،ها أن تتسرب إلى القانون الدولي ولا إلى نظام هيئة الأمم هذه فظلت قواعد الدول النصرانية هي الأساس في القانون الدولي وهي القانون الدولي نفسه وهي نظام الأمم المتحدة وميثاقها، حتى أن المعسكر الشرقي بزعامة روسيا لم يستطع أن يغير شيئاً من أساس النظام الدولي رغم تناقض الشيوعية التي تقوم عليها مع النظام الرأسمالي ومع القواعد التي يقوم عليها القانون الدولي، فظلت هذه القواعد هي التي تتحكم في المجموعات البشرية في العالم كله. لذلك كله لا بد من إعادة النظر في مفهوم الأسرة الدولية وفي معنى القانون الدولي.

والأنكى من ذلك كله أن الدول الرأسمالية لم تترك أمر تنفيذ القواعد التقليدية التي صارت قانوناً دولياً فيما بعد إلى العامل المعنوي كما هو الحال في الأعراف الدولية، ولم تتركها تنفذ على من التزم بها فحسب بل جعلتها تنفذ بقوة السلاح على جميع دول العالم سواء من التزم بهذه القواعد أم من لم يلتزم بها، فقامت أميركا تجعل من فنسها الحامية للأمن والنظام في الجماعة الدولية وتدخلت في شؤون غيرها من الدول كلما لاح أن هناك تهديدً لما يسمى بالنظام  العالمي الجديد، وما تدخلات أميركا وبريطانيا وفرنسا في كثير من دول العالم خلال العقود الأربعة الماضية إلا مثالاً من أمثلة جعل هذه الدول الرأسمالية من نفسها شرطياً دولياً لتنفيذ ما يسمى بالقانون الدولية، فكان هذا من أفظع الأعمال وسبباً من أسباب شقاء العالم بما يسمى بالقانون الدولي، فلا بد من علاج هذه المسألة ولا بد من تخليص العالم وإنقاذه من هذا الشقاء.

ونحن نرى أن علاج هذه المسألة قائم أولاً على وجوب عدم قياس المجتمع الدولي على المجتمع العادي، فالمجتمع العادي لا بد له من دولة ولا بد له من قانون ولا بد من تنفيذ على لرفع المظالم وإزالة التخاصم. أما المجتمع الدولي فهو عبارة عن مجموعات بشرية تنشأ بينها علاقات وليس أفراداً تنشأ بينهم علاقات، فكل مجموعة من هذه المجموعات البشرية لها حق السيادة وحق الإرادة بشكل مطلق، فأي إجبار خارجي لهذه المجموعة أو تلك لا يعني إلا سلب سيادتها وهذه هي العبودية وهي تتمثل في الاستعمار وفرض السيطرة والإجبار بالقوة، ولذلك لا يصح وجود عالمية تحكم عدة دول ولا يصح أن يسمح بوجود مثلها كما تريد الولايات المتحدة بقولها إنها تريد فرض نظام عالمي جديد على العالم، فإن ذلك ليس نظاماً عالمياً بل إرهاباً دولياً، بل يجب أن تظل المجموعات البشرية مجموعات لها كياناتها وسيادتها ولها إرادتها، وإذا كان لا بد من تكوين جماعة دولية من هذه المجوعات فيجب أن لا تكون دولة عالمية ويجب أن تنشأ هذه الجماعة الدولية ممن يريد مختاراً أن يكون فيها لا أن يقوم بإنشائها دول معينة لها مفاهيم معينة أو دول معنية تتمتع بقوة تفوق قوى غيرها، كما لا يصح أن تكون دولة عالمية، بل يقوم بتأسيس هذه الجماعة الدولية جميع الذين يرغبون مختارين بتأسيسها بغض النظر عن نوعية مفاهيمهم وبغض النظر عن قواعدهم ومدى نفوذهم، وتترك الحرية لكل دولة لم تشترك أن تشترك فيها في أي وقت تريد ويكون لها ما للمؤسسين من الحقوق وعليها ما عليهم من الواجبات، وأن يترك للجميع حرية ترك الجماعة الدولية في أي وقت يريدون وأن لا يفض على أحد تنفيذ المقررات بالقوة. بهذا تكون الجماعة الدولية جماعة دولية بحق لا عائلة دولية معينة يطلق عليها زوراً وبهتاناً اسم هيئة الأمم المتحدة.

وأما من حيث القانون الدولي فلا يجوز أن يكون للجماعة الدولية ولا لدول العالم قانون دولي، بل إن للجماعة الدولية قانوناً إجرائياً فقط ينظم شؤونها الإدارية ويبين كيفية إدارة أعمالها ويكون موضوعاً برأي الأكثرية ويجري تغييره أو تعديله وفق وقائع الحياة. فهذا القانون الدولي لا يصح أن يوجد ولا ينبغي وضعه لأن القانون هو أمر السلطان وليس هناك دولة عالمية لا سلطان عالمي بل لا يصح أن يوجد مثل هذه الدولة العالمية لتكون مسلطة على جميع الدول، فهذا أمر مستحيل الوجود، والزعم بوجوده لا يعني إلا الإرهاب ونشوب الحروب والنزاعات الدموية، وعليه لا يصح أن يوجد قانون دولي أو أن يوضع أي شيء مثله، فالقانون ينظم العلاقات، أما العلاقات الدولية فتنشأ بين المجموعات البشرية طوعاً واختياراً فتنظم كل دولتين أو أكثر العلاقات بينها وفق مصالحها وبرضاها وتكون غير العلاقات الأخرى الموجودة بين دولتين أخريين أو دول أخرى فيكون ما ينظم العلاقات اتفاقيات وليس قانوناً وعليه لا وجود لقانون دولي ينظم العلاقات بين جميع الدول.

ومهما يكن من أمر فإن الناس حتى في العالم الغربي أنكروا وجود قانون دولي عام، واستنكروا إلزام الدول بأي قانون دولي، فقد دب الخلاف بين فقهاء القانون الغربيين حول طبيعة قواعده، وحتى الذين يقولون منهم بوجود قاعدة القانون الدولي لا يقولون بوجودها كقانون واجب التنفيذ بل هي مجرد قاعدة أخلاقية لا يترتب على مخالفتها أي مسؤولية قانونية، فالموجود هو الأعراف الدولية وليس القانون الدولي، وهذه الأعراف الدولية موجودة منذ القدم حتى يومنا هذا، كعدم قتل الرسل مثلاً أو ما يسمى بالحصانة الدبلوماسية، ومنها ما هو عرف خاص بين مجموعات معينة كالذي كان معروفاً عند العرب من عدم منع أحد من زيارة البيت الحرام، فهذه أعراف موجودة وهي ليست قانوناً وإنما اصطلاحات يجري التعارف عليها بحكم تكرار حوادث معينة من الجميع أو من مجموعات خاصة من الناس.

وأما مسألة تنفيذ القانون الدولي على الناس بالقوة فإنها لا تجوز ولا بحال من الأحوال، فإن كان التنفيذ من سلطة عالمية أي من دولة عالمية فإنه يستحيل لأنه لا وجود لهذه الدولة العالمية، وإن كان من مجموعة من الدول الكبرى فإنه يعتبر عدواناً وليس تنفيذاً لقانون، لأنه لو خالفت دولة كبرى هذا القانون لا يملك أحد تنفيذه عليها لأن معنى ذلك الحرب، ولذلك يكون تنفيذ الدول الكبرى هذا القانون على الدول أو الضعيفة عدواناً صادقاً.

إننا نرى أن العلاج الوحيد لهذه المشكلة العالمية هو طرح الفكرة الكلية الصحيحة عن الوجود في ميدان النقاش العالمي، وإدخالها إلى ميثاق الجماعة الدولية القائمة على تنفيذ العرف الدولي بالرضا والاختيار، فنقاش هذه الفكرة الكلية الصحيحة عن الوجود هو الذي يغير المفاهيم ويزيل المفاهيم الخاطئة ويصحح العرف الدولي فلا يجر العالم كله إلى الحرب مثلاً ولا ينحصر تفكير الدول بمص دماء الشعوب كما هو الحال الآن بل يكون في هذا العالم ما هو في طبيعة البشر من الهدى والضلال والخير والشر والحسن والقبح، فيكون فيه من هذا وذاك، ولا يكون شراً كله كما هو الحال اليوم منذ أن وجدت فكرة الأسرة الدولية وفكرة القانون الدولي أو ميثاق الأمم المتحدة.

ولكن كيف يتأتى طرح هذه الفكرة الكلية الصحيحة عن الوجود وهي ما تزال يحملها أفراد أو أحزاب ولا تحملها دولة، وكيف يتأتى لهؤلاء الأفراد وهذه الأحزاب أن تؤثر في اتجاهات الدول، إن الجواب على ذلك كامن في أن الأفراد والأحزاب حين يتابعون الأعمال السياسية في العالم يتابعونها من أجل رعاية شؤون العالم، ومن أجل التفكير في الطريقة التي يمكن بها التأثير على العالم فهم يتتبعون السياسة العالمية ويتفهمون الموقف الدولي لأنهم سياسيون، أي أنهم يعملون لرعاية شؤون العالم. وهم يعملون بوصفهم جزءاً من أمة وبوصفهم يعملون في دولة، وهم وإن لم يكونوا من الذين يقررون سياسة هذه الدولة ولكنهم يطمحون إلى أن يكونوا من الذين يقررون سياستها أو ينفذونها، وبذلك يؤثرون دولياً حتى لو ظلوا أفراداً أو أحزاباً ليس لهم صلاحية القرار أو التنفيذ، ولهذا لا بد من وجود الأفراد والأحزاب الواعية سياسياً المدركين للأعمال السياسية التي تجري في العالم ولا سيما من الدول الكبرى، وإذا كانوا كذلك كانوا مؤثرين لأن الدولة التي هي في كيانها تؤثر في أمثالهم، أو يسعون هم وأمثالهم إلى جعلها تؤثر في السياسة الدولية وفي الموقف الدولي، وعند ئذ توجد الدولة التي تحمل هذه الفكرة الكلية الصحيحة عن الوجود وتطرحها للنقاش على المستوى العالمي وتعمل في الوقت نفسه على تنفير دول العالم مما يسمى بالأسرة الدولية وبميثاق الأمم المتحدة القائم على تقاليد الدول الرأسمالية وأعراف لإلزام العالم به ظلماً وعدواناً وزوراً وبهتاناً باسم الحفاظ على السلام والأمن العالميين وباسم تقرير المصير وحماية حقوق الإنسان والقيم الإنسانية.

فحقوق الإنسان معلوم بالضرورة أنها من وضع خالق الإنسان، والقيمة الإنسانية نسبية متفاوتة مختلفة عند الناس في كل زمان ومكان، ولهذا لا يجوز ترك وضع القيم لهذا الإنسان المتفاوت المتناقض المختلف المتأثر بالبيئة، فالقيم يجب أن تظل ثابتة غير متغيرة، ولا يتأتى ذلك إلا أن تكون من خالق الإنسان لأنه الخبير بما يسعده وبما يشقيه (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *