العدد 100 -

السنة التاسعة – ربيع الأول 1416هـ – آب 1995م

حوار مفتوح حول دستور دولة الخلافة (6)

من منطلق ثقتنا الراسخة بالله عز وجل، وبنصره الذي لا ريب فيه والذي سيتمثل في عودة السيادة على الأرض لدين الإسلام متجسداً في دولة خلافة راشدة على منهاج النبوة، تعرض مجلة الوعي دستوراً للدولة الإسلامية التي يعمل المسلمون لإيجادها بعون الله، وهي إذ تقوم بهذا العرض للدستور تدعو المسلمين عامة والمفكرين والعلماء وأصحاب الرأي وقيادات العمل الإسلام الاتصال المباشر بمراسليها ونأمل في أن تصلها النصائح سواء كانت في صورة نقد لفكر أو حكم أو كانت في صورة اقتراح بالإضافة والتوسع، ومع علمنا بالجهد المبذول في البحث والدراسة والتفكير في هذا العمل إلا أننا نقرر الحقيقة الثابتة وهي “رأينا صواب يحتمل الخطأ”. ولذا نكرر القول بأننا نرحب من أعماق قلوبنا بأي تصحيح لحكم قد يكون استنبط على غير وجه صحيح أو تصويب لواقع لم يدرك بشكل كامل وما إلى ذلك.

المادة 13- الأصل براءة الذمة، ولا يعاقَب أحد إلاّ بحكم محكمة، ولا يجوز تعذيب أحد مطلقاً، وكل من يفعل ذلك يعاقَب.

شرح المادة:

تتضمن هذه المادة ثلاثة أمور، أحدها قاعدة الأصل براءة الذمة، والثاني عدم إيقاع العقوبة إلاّ بحكم قاض، والثالث عدم جواز التعذيب.

أمّا الأمر الأول فدليله ما رُوي عن وائل بن حجر قال: (جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي. قال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بيّنة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلّفته عليه وليس يتورع من شيء. قال: ليس لك منه إلاّ ذلك)، وقال عليه السلام: (البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر). ففي الحديث الأول كلف الرسول المدعي بالبينة، وهذا يعني أن المدعى عليه بريء حتى تثبت إدانته، وفي الحديث الثاني بيّن رسول الله أن الأصل في وجوب البينة إنّما هو على المدعي، وهو دليل على أن المدعى عليه بريء حتى تثبت إدانته. وأمّا الأمر الثاني فإن دليله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن جلدتُ ظهراً فهذا ظهري فليقتص منه)، وقد قال ذلك وهو حاكم وهو يعني مَن عاقبته دون حق فليقتص مني، وهو دليل على تحريم أن يعاقِب الحاكم أحداً من الرعية من غير أن يثبت عليه ارتكاب ذنب يستحق عليه هذه العقوبة. وأيضاً ففي قصة الملاعنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها)، وهذا يعني أنه لم يرجمها لعدم وجود بينة مع وجود شبهة فيها. بدليل ما ورد من حديث ابن عباس عن الذين لاعن الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما حيث جاء ما نصه: (فقال رجل لابن عباس في المجلس: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو رجمتُ أحداً بغير بينة رجمتُ هذه؟ فقال

ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تُظهر في الإسلام السوء)، أي كانت تعلن بالفاحشة ولكنه لم يثبت ذلك عليها ببينة ولا اعتراف. وهذا يعني أن شبهة الزنا كانت موجودة عليها ومع ذلك لم يرجمها الرسول لأنه لم يثبت عليها فقال: (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها)، و”لو” حرف امتناع لامتناع فامتنع الرجم لامتناع البينة، وهذا دليل على أن الحاكم لا يجوز له أن يوقِع عقوبة على أحد من الرعية إلاّ بعد أن يرتكب ذنباً نصّ الشرع على أنه مذنب، وبعد أن يثبت ارتكابه هذا الذنب أمام قاضٍ له صلاحية القضاء في مجلس قضاء، لأن البينة لا تعتبر بينة إلاّ إذا كانت أمام قاض له صلاحية القضاء وفي مجلس القضاء. إلاّ أن للحاكم أن يحبس المتهم بذنب قبل ثبوت التهمة ريثما يقدم للمحاكمة للبت في أمر التهمة، غير أن هذا الحبس لا بد أن يكون مدة محددة ولا يصح أن يحبسه من غير تحديد مدة، وأن تكون هذه المدة قصيرة، والدليل على جواز حبس المتهم ما روي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه) وفي حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوماً وليلة)، والدليل على أنه لا بد من تحديد المدة في هذا الحبس أن الرسول حبسه ثم خلى عنه، وأنه حبسه يوماً وليلة، ثم إن هذا الحبس ليس عقوبة وإنما هو حبس استظهار لينكشف به بعض ما وراءه.

وأمّا الأمر الثالث فهو يشمل عدم إيقاع العقوبة على المتهم قبل أن يثبت عليه الذنب، ويشمل عدم جواز إيقاع العقوبة بما جعله الله عذاباً في الآخرة وهو النار أي عدم جواز العقوبة بالحرق بالنار. أمّا عدم إيقاع العقوبة قبل أن يثبت الذنب فإن الدليل عليه حديث الرسول (لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها)، مع أنها كانت امرأة معروفة بالزنا كما يُفهم من كلام ابن عباس. فلو كان إيقاع العقوبة بالمتهم ليعترف لعوقبت هذه لتعترف مع أنها كانت تعلن بالفاحشة. فلا يحل عقاب المتهم مطلقاً، ولهذا يحرم ضرب المتهم قبل ثبوت التهمة ويحرم شتمه أو إيقاع أية عقوبة عليه ما دام لم يثبت عليه ارتكاب ذنب. ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس قال: شرب رجل فسكر، فلُقِيَ يميل في الفج، فانطُلِق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: أفَعَلها؟ ولم يأمر فيه بشيء)، فالرسول لم يُقِم على ذلك الرجل الحد لكونه لم يُقِر لديه ولا قامت عليه بذلك الشهادة عنده. وهذا يعني أنه متهم بالسُكر ولم يثبت عليه فلم يعاقَب حتى يعترف ولم توقع عليه أية عقوبة لمجرد التهمة. ولهذا لا يصح أن توقع أية عقوبة على المتهم قبل ثبوت التهمة عليه أمام قاض له صلاحية القضاء في مجلس قضاء. وأمّا ما روي في حديث الإفك أن علياً رضي الله عنه ضرب الجارية أمام الرسول، فإن الجارية لم تكن متهمة فلا يصلح دليلاً على جواز ضرب المتهم، على أن حديث ضرب علي لبريرة جارية الرسول قد رواه البخاري أن علياً قال للرسول اسأل الجارية، والرسول هو الذي سألها لم يُذكر فيه أن علياً ضرب الجارية، فقد جاء فيه (وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيِّق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وقال: أي بريرة) الحديث. وفي رواية أخرى

للبخاري (ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عن خادمتي فقالت: لا والله ما علمت عيباً إلاّ أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها، وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به) ولم يذكر البخاري أن علياً ضرب الجارية. غير أنه في روايات أخرى ذُكر أن علياً ضرب الجارية، فقد ذكر ابن هشام أنه ضربها، فقد جاء في سيرة ابن هشام وأمّا عليّ فإنه قال: يا رسول الله إن النساء كثير، وإنك لقادر على أن تستخلِف، وَسَلِ الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضرباً شديداً ويقول: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فتقول: والله ما أعلم إلاّ خيراً)، وهذه الرواية على فرض صحتها فإنها لا تدل على جواز ضرب المتهم لأن الجارية بريرة لم تكن متهمة في هذه القضية، ولا يقال إنها شاهدة فإنها لم تضرب باعتبارها شاهدة بدليل أن الرسول سأل غيرها ولم يضربه، فقد سأل زينب بنت جحش ولم يضربها مع أن أختها حمنة بنت جحش كان تُشيع عن عائشة إذ يقول البخاري في حديث الإفك: (قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك)، فكانت زينب محل مظنة المعرفة وسئلت ولم تُضرب. ولهذا لا يقال إن بريرة ضُربت باعتبارها شاهدة فإنها إنّما ضُربت باعتبارها خادمة الرسول، وللرسول أن يضرب خادمته وأن يأذن بضربها. فسأل الرسول خادمته وسأل غيرها وسكت عن ضرب عليّ لخادمته وعن انتهار الصحابة لها ولم يضرب غيرها ولم يسكت عن ضرب غيرها مما يدل على أنه إنّما جاز ضربها لأنها خادمته. وللمرء أن يضرب خادمه تأديباً أو تحقيقاً عن أمر. فهذا الحديث لا يصلح دليلاً على جواز ضرب المتهم ولا على جواز ضرب الشاهد، بل هو دليل على جواز ضرب الرجل خادمه تأديباً أو تحقيقاً عن أمر. وبهذا يسقط الاستدلال بهذا الحديث على جواز ضرب المتهم، ويبقى الدليل على

عدم جواز ضربه قائماً وهو قول الرسول: (لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها)، فلا يحل ضرب المتهم ولا شتمه ولا انتهاره ولا تعذيبه مطلقاً، وإنما يصح حبسه لورود الدليل على ذلك.

هذا بالنسبة لعدم جواز إيقاع العقوبة على المتهم قبل أن يثبت الذنب عليه. أمّا بالنسبة لعدم جواز إيقاع العقوبة بما جعله الله عذاباً في الآخرة، فإن الدليل عليه ما رُوي عن عكرمة قال: (أُتي أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله)، وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وان النار لا يعذب بها إلاّ الله)، وأخرج أبو داود من حديث ابن مسعود في قصة بلفظ (وأنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاّ رب النار). وعلى هذا فإنه إذا ثبت على المتهم أمام قاض له صلاحية القضاء وفي مجلس قضاء أنه ارتكب الجريمة المتهم بها فإنه لا يجوز أن يعاقَب بالنار ولا بما هو مثلها مثل الكهرباء ولا بشيء يعذب به الله. وكذلك لا يجوز أن يوقَع عليه إلاّ العقوبات التي نص الشارع عليها. فالشارع قد حدد العقوبات التي يعاقَب بها المذنبون، وهي: القتل، والجلد، والرجم، والنفي، والقطع، والحبس، وإتلاف المال، والتغريم، والتشهير، والكي بالنار لأي جزء من أجزاء الجسم، وما عداها لا يحل أن يعاقَب به أحد، فلا يعاقَب أحد بالحرق بالنار، ولكن يجوز أن يُحرق ماله، ولا يعاقَب أحد بقلع الأظافر أو رموش العين ولا بتسليط الكهرباء عليه أو بإغراقه بالماء أو بصب الماء البارد عليه أو بتجويعه أو بإبقائه دون حاجات تحمي من البرد أو غير ذلك، بل يُقتصر في معاقبته على ما ورد الشرع به من عقوبات، وما عدا ذلك يحرم على الحاكم أن يجعله عقاباً للمذنب. ولهذا لا يجوز تعذيب أحد مطلقاً، ومن فعل ذلك خالف الشرع. وإذا ثبت أن أحداً قد عذّب غيره فإنه يعاقَب على ذلك وهذه هي أدلة المادة.

المادة 14- الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، فلا يقام بفعل إلا بعد معرفة حكمه، والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرِد دليل التحريم.

شرح المادة.

إن المسلم مأمور بتسيير أعماله حسب أحكام الشرع، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم)، وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). فالأصل في المسلم أن يتقيد بأحكام الشرع. وفوق ذلك فإن القاعدة الشرعية هي “أنه لا شرع قبل ورود الشرع” أي لا حكم لأي مسألة قبل ورود حكم الله فيها. فقبل أن يرِد حكم الله فيها لا تعطى أي حكم، أي لا تعطى حكم الإباحة. والإباحة حكم شرعي لا بد أن يثبت بخطاب الشارع، وإلاّ لا تكون حكماً شرعياً، لأن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فكل ما لم يرد فيه خطاب من الشارع لا يكون حكماً شرعياً. ومن هنا ليست الإباحة هي عدم ورود شيء يحرم، بل الإباحة هي ورود دليل شرعي على المباح، أي ورود التخيير بالفعل وعدمه من الشارع، ولهذا يكون الأصل هو التقيد بخطاب الشارع، وليس الأصل هو الإباحة لأن الإباحة نفسها يحتاج إثبات حكمها إلى خطاب الشارع. وهذا عام يشمل الأفعال والأشياء. فالمسلم إذا أراد أن يقوم بفعل، أيّ فعلٍ كان، وجب عليه أن يتقيد بحكم الله في ذلك الفعل، فوجب أن يبحث عنه حتى يعرفه ويتقيد به. وكذلك إذا أراد المسلم أخذ شيء أو إعطاء شيء، أيّ شيءٍ كان، وجب عليه أن يتقيد بحكم الله في ذلك الشيء، فوجب أن يبحث عنه حتى يعرفه ويتقيد به. هذا هو ما دلت عليه الآيات والأحاديث في منطوقها ومفهومها. فلا يحل لمسلم أن يقوم بأي فعل أو يتصرف تجاه أي شيء على غير الحكم الشرعي، بل يجب أن يتقيد بالحكم الشرعي في أي فعل وفي أي شيء. وبعد أن قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وقال: (وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، لم يبق فعل ولا شيء

إلاّ بين الله دليل حكمه ولا يحل لأحد بعد التفقه في هاتين الآيتين أن يذهب إلى أن يكون بعض الأفعال أو بعض الأشياء أو الوقائع خالياً من الحكم الشرعي على معنى أن الشريعة أهملته إهمالاً مطلقاً بحيث لم تنصب دليلاً أو تضع إمارة تنبه بها المكلف عليه؛ أي علة تدل المكلف على حكمه هل هو الإيجاب أو الحظر أو الندب أو الكراهة أو الإباحة. فإن هذا القول ومثله طعنٌ في الشريعة الإسلامية. وعليه لا يحل لأحد أن يقول إن هذا الفعل مباح لأنه لم يرد دليل شرعي يتعلق به فالأصل الإباحة إذا لم يرِد دليل شرعي، كما لا يحل لأحد أن يقول إن هذا الشيء مباح لأنه لم يرِد دليل شرعي يتعلق به فالأصل الإباحة إذا لم يرِد دليل شرعي، لأنه لا يوجد فعل أو شيء إلاّ وفي الشرع دليل عليه فيجب البحث عن حكم الله في الفعل أو الشيء وأخذه لا جعله مباحاً لأنه لا دليل عليه.

إلاّ أنه لمّا كان الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد فإنه يكون قد جاء الخطاب لمعالجة فعل العبد وليس للشيء، وجاء للشيء باعتباره متعلقاً بفعل العبد، فيكون الأصل في الخطاب هو فعل العبد، والشيء جاء تابعاً لفعل العبد سواء أجاء الخطاب للفعل ولم يذكر الشيء مطلقاً مثل (كلوا واشربوا) أو جاء الخطاب للشيء ولم يذكر الفعل مطلقاً مثل (حُرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)، فإن حكم التحريم في هذه الأشياء الثلاثة إنّما هو بالنسبة لتعلقها بفعل العبد المتعلق بها من أكل وبيع وشراء وإجارة وغير ذلك. ومن هنا كان الحكم الشرعي لفعل العبد سواء أكان حكماً للفعل أو حكماً للشيء، ومن هنا جاء أن الأصل في الأفعال التقيد، لأن الخطاب إنّما هو متعلق بفعل العبد.

غير أنه تبين باستقراء الأدلة التفصيلية للأحكام الشرعية أن النصوص التي جاءت أدلة على الأحكام يختلف فيها وضع النص الذي هو دليل الحكم عن وضع النص الذي هو دليل الشيء من حيث توجيه الخطاب. فالنص المتعلق بالفعل موجه فيه الخطاب إلى الفعل وحده سواء ذُكر معه الشيء أم لم يُذكر، فمثلاً قوله تعالى: (وأَحَلّ الله البيع وحَرّم الربا) (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (لينفق ذو سعة من سَعَته) (فليؤدِّ الذي اؤتمن أمانته) (كلوا واشربوا) وقول الرسول: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا) (أعطوا الأجير أجره) (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً)، كلها قد وُجه فيها الخطاب للفعل ولم يُذكر فيها الشيء. ومثلاً قوله تعالى: (ومِن كلٍّ تأكلون لحماً طرياً) (لتأكلوا منه لحماً طرياً) (وأخرجنا منه حباً فمنه يأكلون) (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) (ليأكلوا من ثمره) كلها قد وُجّه فيها الخطاب للفعل وإن كان قد ذُكر فيه الشيء. ومثل هذا الخطاب متعلق بفعل العبد مباشرة. وهذا الوضع يختلف عن النص المتعلق بالشيء فإن الخطاب فيه موجه إلى الشيء وحده سواء ذُكر معه الفعل أم لم يُذكر. فمثلاً قوله تعالى: (حُرِّمت عليكم الميتة) (إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) (وأنزلنا من السماء ماء) (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، وقوله صلى الله عليه وسلم في ماء البحر: (هو الطهور ماءه الحِلّ ميتته)، كلها قد وُجّه الخطاب فيها إلى الشيء ولم يُذكر معه الفعل. ومثلاً قوله تعالى: (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (أفرأيتم الماء الذي تشربون) (أفرأيتم النار التي تُورون) (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكَراً) (نُسقيكم مما في بطونه من بين فَرَثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين)، كلها قد وُجّه فيها الخطاب للشيء وإن كان قد ذُكر في الفعل. ومثل هذا الخطاب متعلق بالشيء فهو بيان لحكم الشيء، ولكن تعلقه بالشيء إنّما هو من حيث بيان حكمه بالنسبة لفعل العبد لا بالنسبة للشيء منفصلاً عن فعل العبد، إذ لا يتأتى أن يكون له حكم إلاّ بالنسبة للعبد. وبهذا كله يظهر الاختلاف في وضع النص من حيث توجيه الخطاب. وهذا الاختلاف يدل على أنه وإن كان الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد ولكنه جاءت أحكام خاصة بالأشياء مبينة لحكمها مطلقاً وإن كان حكمها بالنسبة للعبد لا بالنسبة لها منفصلة عن العبد، وهذه الدلالة تبين لنا بالاستقراء أن أحكام الأشياء جاءت بالدليل العام الذي جاء مبيناً حكم الأفعال وأن ما جاء خاصاً بالاشياء إنّما هو بمثابة استثناء من الحكم العام الذي جاء لها بدليل الأفعال، لأن الاستقراء قد تبين منه أن النص الشرعي الموجه فيه الخطاب إلى الفعل مباشرة قد جاء عاماً، فتكون جميع الأشياء المتعلقة به مباحة لأن طلب الفعل أو التخيير كان عاماً يشمل كل شيء فيكون كل شيء مباحاً بالنسبة إلى هذا الطلب، وتحريم شيء من الأشياء يحتاج إلى نص، فمثلاً يقول الله تعالى: (خَلَق لكم ما في السموات وما في الأرض) وهذا يعني أن الأشياء التي في السموات والتي في الأرض خلقها لنا، فهي مباحة، ويقول: (أحل الله البيع) وهذا يعني أن جميع الأشياء قد أحل الله بيعها وأحل شراءها، فلا يحتاج حِل بيع شيء منها إلى دليل، لأن الدليل العام يشمل كل شيء، فتحريم بيع شيء منها كالخمر مثلاُ يحتاج إلى دليل. وقال تعالى: (كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) وهذا يعني أن أكل كل شيء حلال، فلا يحتاج أكل شيء من الأشياء إلى دليل يجعله مباحاً، لأن الدليل العام أباحه، وإنما تحريم أكل شيء كالميتة مثلاً يحتاج إلى دليل. وقال تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) وهذا يعني أن شرب كل شيء مباح، فلا يحتاج شرب شيء من الأشياء إلى دليل يجعله مباحاً، لأن الدليل العام أباحه، وإنما تحريم شرب شيء كالمسكِر مثلاً يحتاج إلى دليل، وهكذا التكلم والمشي واللعب والشم والاستنشاق والنظر وغير ذلك من أفعال الإنسان قد ورد الدليل العام مبيحاً كل شيء تتعلق به هذه الأفعال، فإباحة أي شيء لا يحتاج إلى دليل، وإنما تحريم أي شيء يتعلق بها هو الذي يحتاج إلى دليل يحرمه. فتكون الأدلة التي جاءت النصوص فيها موجَّهة إلى الفعل قد بينت حكم الأشياء بياناً عاماً ومطلقاً فلا تحتاج إلى نصوص تبين أحكامها، فمجيء نصوص خاصة بالأشياء بعد بيان حكمها العام دليل على أن هذه الأحكام الخاصة بها جاءت تستثني حكمها من ذلك الحكم العام. وبهذا تكون نصوص الشرع جاءت مبينة الحكم الشرعي في الأشياء بأنها مباحة، فهي مباحة، إلاّ أنه جاءت نصوص تستثني منها بعض الأحكام فتكون الأشياء مباحة إلاّ إذا جاء نص يحرمها، ومن هنا كانت القاعدة الشرعية “الأصل في الأشياء الإباحة” وهذه هي أدلة هذه المادة.

المادة 15- الوسيلة إلى الحرام محرمة إذا غلب على الظن أنها توصل إلى الحرام، فإن كان يُخشى أن توصل فلا تكون حراماً.

شرح المادة: ودليلها قوله تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدْعون من دون الله فيسبّوا الله)، فمسبة الكفار من المباحات وقد سبهم الله في القرآن، إلاّ أن هذه المسبة إذا أوصلت حتماً إلى أن يسبوا الله كانت حراماً، لأن سبّ الله لا يجوز، ومن هنا استُنبطت القاعدة الشرعية “الوسيلة إلى الحرام حرام”. إلاّ أن هذه الوسيلة لا بد أن تكون موصلة إلى الحرام، أي أن مثلها يوصل إلى الحرام حتماً، وأن يكون هذا الحرام قد ورد الشرع بتحريمه، فإذا كانت لا توصل إلى الحرام كأن كان يُخشى منها أن توصل إلى الحرام كخروج المرأة من غير حجاب يُخشى منه أن يوصل إلى الفتنة، فإن الوسيلة في مثل هذه الحال لا تكون حراماً، لأن الخشية من التوصيل لا تكفي للتحريم، فوق أن الفتنة من حيث هي ليست حراماً على المرأة نفسها. وهذا هو دليل هذه المادة.

ومثل هذه القاعدة قاعدة “الشيء المباح إذا أوصل فرد من أفراده إلى ضرر حرم ذلك الفرد وحده وبقي الشيء مباحاً”، وذلك لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين مر بالحِجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا من مائها شيئاً ولا تتوضئوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يَخرجنّ أحد منكم الليلة إلاّ ومعه صاحب له)، فشُرب الماء مباح، ولكن ذلك الفرد من أفراد الماء وهو بئر ثمود قد حرمه الرسول لأنه يوصل إلى أذى، ولكن ظل الماء مباحاً. وخروج الرجل في الليل دون أن يكون معه صاحب مباح، ولكن خروج أحد من ذلك الجيش في تلك الليلة في ذلك المكان قد حرمه الرسول لأنه يوصل إلى أذى. وما عدا ذلك ظل خروج الشخص ليلاً بدون صاحب مباح. وهذا دليل على أن الفرد الواحد من المباح إذا أوصل إلى أذى صار ذلك الفرد وحده حراماً وظل الشيء نفسه مباحاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *