العدد 100 -

السنة التاسعة – ربيع الأول 1416هـ – آب 1995م

الأيديولوجية المقبلة

بقلم: الأستاذ إبراهيم ياسين آل إبراهيم

لقد حقق الغرب نجاحا منقطع النظير في غرس مفاهيمه عن الحياة في عقول الشعوب والأمم، ولم يسبق لمبدأ مثله في التاريخ الحديث أن حقق ذلك، ولقد مكنته هذه السيطرة من أن يسود العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، والمدقق في واقع السيطرة يرى أنها تحمل في أفكارها وطريقتها وأساليبها خطرا عظيما على البشرية من جهة، ومن جهة أخرى بسهولة تحطمها وهشها إذا ما اصطدمت اصطداما فكريا حقيقيا بمبدأ تتوفر فيه مواصفات المبدأ الصحيح الموافق لفطرة بني الإنسان، وخطر المبدأ الغربي الرأسمالي يكمن كما أشرت في الفكرة والطريقة كما يكمن في الأساليب والوسائل التي يلجأ إليها هذا المبدأ لبث سمومه وأمراضه، فوجهة النظر المعتنقة أعطت للإنسان حرية بهيمية تخرجه عن سنن الكون وجعلت له الحق والقول المطلقين في تسيير أموره وأمور غيره من البشر حسب ترهات وخزعبلات ناتجة عن عقل محدود، فإبعاد الله عن الحياة بالرغم من وجود الاعتراف الضمني بوجوده لم يفرغ حياة الإنسان المادية من الناحية الروحية فحسب، بل جعل هذا المخلوق الضعيف يقرر ويشرع كيفية تسيير حياة الإنسان، وإذا حصل واعترف بوجود إله ، فإنه يريد أن يفرض على الله كيف يجب أن يسير الكون والإنسان فإعطاء الحرية المطلقة للحكم بحسن الشيء أو قبحه ، صلاحيته أو فساده عكر على البشر تلك الفطرة التي فطرهم الله عليها وجعلهم كرة تتقاذفها الأذواق والأهواء والشهوات (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه…) أما الوسائل والأساليب فخطرها آت من كونها تستخدم من قبل الذين يحملون وجهة النظر عن الحياة الآنفة الذكر بحيث لا يتورعون عن استخدام أية وسيلة أو أي أسلوب في بلوغ مآربهم، ويمكن لكل ذي بصيرة أن يلاحظ ويقف على ذلك في كل ما تستخدمه واستخدمته الدول الغربية المعتنقة لهذا المبدأ الذي من دعائمه قاعدة (الغاية تبرر الواسطة والوسيلة). وأما سهولة تحطم هذا المبدأ فتتمثل في كونه من وضع البشر، ويكفي هذا بالقطع بمحدوديته وعجزه بل وقر نهايته… فلا يحتاج الأمر سوى صدامات فكرية عديدة حتى يبدأ في الترنح والانهيار. وهذه الصدامات يجب أن تكون من المبدأ الصافي المنهل والمشرب. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ..).

والمبدأ الرأسمالي يقوم بالدرجة الأولى على النفعية والترقيعات غير المتجانسة وقلب الحقائق حتى أمام معتنقيه. لذلك تجدهم بالرغم مما حققه لهم هذا المبدأ من تقدم ورفاهية ماديين يعيشون حياة التعاسة في علاقتهم الفردية والعائلية والاجتماعية ولا يقيمون لأية قيمة وزنا وخدعوا أنفسهم بسراب أطلقوا عليه الديمقراطية والحريات والحقوق والمساواة.

لقد انهار المبدأ الشيوعي الذي كان الند الوحيد للرأسمالية فرفع أصحاب مبدأ السوق الحرة أصواتهم مادحين مبدأهم الذي انتصر، وجعلوا من هذا الانتصار دليلا على صحة هذا المبدأ، وخدعوا بذلك المضبوعين من أبناء الأمة الإسلامية الذين يروجون أكثر من أي وقت مضى للديمقراطية، والسوق الحرة، ويرون أن هذا النظام هو المخرج الوحيد من الأزمات في حين أظهروا ازدراء ومقتا لأمتهم وعقيدتها ووجهة نظرهم فعميت عليهم العمارات الشاهقة في باريس ولندن ونيويورك من أن ينظروا إلى ما تخفيه وراءها من شقاء وشرور وفي الوقت الذي تشرأب فيه أعناق هؤلاء المضبوعين إلى الحضارة الغربية، نجد الذعر قد دب في صفوف رجال فكر هذا المعسكر مما جعل العديد منهم يدقون نواقيس البين على مبدأهم ووجهة نظرهم، والمتتبع للساحة الفكرة الغربية يجد أن العقول أصابتها هواجس الخوف على المبدأ جعلتهم يشنون حربا كلامية على بعضهم البعض، ولقد ظهر ذلك جليا في النقاش الذي أعقب مقالة الأمريكي صامويل هانتكتون تحت عنوان “صراع الحضارات” – سبق للوعي وأن نشرت ترجمة هذه المقالة في عددين من أعدادها – وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن خراب آراء الرأسمالي في البداية وبالدرجة الأولى على أيدي معتنقيه – كما حل بالشيوعية وسيتبعه نسف ما تبقى فيه من قبل المسلمين (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).

ولقد حاولت اقتفاء آثار هذا الصراع الفكري الداخلي ومن بداية التسعينات فوقفت على كم هائل من الكتابات الفكرية الغربية سواء في أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا والتي شرعت بصفة مباشرة تارة وغير مباشرة تارة أخرى بوضع المبدأ الغربي فكرة وطريقة وأساليب في قفص الاتهام، وأنا لن أتعرض إلى تحليل مفصل لهذه الكتابات وإنما سأكتفي بخلاصة في البداية ثم انتقل إلى تقييم مقالة نشرتها مجلة السياسة الخارجية في عددها 89 ربيع سنة 95 وتحت عنوان “المبدأ القادم” أو “الأيديولوجية المقبلة” لكاتبها غراهام فولر الذي كان سبق وأن نشر كتابا سنة 1991 بعنوان “فخ الديمقراطية.. العالم ما بعد الحرب الباردة” والكاتب فولر سياسي مشهور يعمل في منظمة راند ونائب سابق لرئيس مجلس الاستخبارات بمركز المخابرات المركزية الأمريكية، وأما ما يتعلق بالمؤلفات في هذا العدد فتجدر الإشارة إلى كتاب قيم تحت عنوان “قيام وسقوط الدول الكبرى” للكاتب المشهور بول كيندي الذي يرى أن الهزال أصاب أمريكا كما أصاب الاتحاد السوفيتي قبلها. وهذا يعني أن مكانة الدول الكبرى تنتقل من دولة إلى أخرى ، وللكاتب كتاب آخر “التحضير للقرن الواحد والعشرين” الذي يحلل فيه الأوضاع الحالية والمشاكل التي تعترض طريق الدول الغربية على وجه الخصوص وهي تستقبل القرن المقبل.

أما كتاب “نهاية التاريخ” لفوكوياما بأنه يمجد الليبرالية الغربية ويراها قمة ما وصل إليه الفكر البشري، فهو لا يتصور أن تحل أيديولوجية أخرى محلها لذلك يجعل من بلوغ الفكر البشري هذه الدرجة أساسا للقول أن التاريخ انتهى. وهو إن كان يرى إيجابيات عقيدته ومبدئه إلا أنه يعترف ضمنيا بضعف هذا المبدأ بل ووجود أخطار على المبدأ من أفكار مثل الإسلام الأصولي الذي يجعله محدودا لدى شعوب العالم الثالث ويستبعد أن يصبح في يوم من الأيام حجر الزاوية في صقل عقلية الشباب الأوروبي والياباني.. وهناك كتاب آخر بعنوان ” لقطاء فولتير – دكتاتورية العقل في الغرب “للكاتب جون سول الذي يرى أن المراحل التي مر بها العقل والتفكير في الغرب أوصلت العالم إلى ما هو عليه اليوم من مشاكل.

كما تجدر الإشارة إلى كتاب آخر صدر باللغة الألمانية في بداية سنة 95 تحت عنوان “الغرائز الشيطانية” للكاتب تيوآهمان أحد مؤسسي الحزب الحاكم في ألمانيا يتعرض فيه إلى أمراض المجتمع الغربي نتيجة العلمانية والرأسمالية ويرى هذا الكاتب وهو نصراني – أن الإسلام وحده القوة الكافية لتخليص العالم مما هو فيه من أزمات سياسية واجتماعية وأخلاقية. ولقد ركز الكاتب على جوانب المجتمعات الغربية من سياسة واقتصاد وإعلام وحياة اجتماعية ودينية الخ … وهاجمها جميعها. إضافة إلى ذلك هناك العشرات من المقالات التي نشرت في المجلات وجرائد غربية مثل مقالتي الديمقراطية وأمراضها وأزمة الليبرالية العالمية لسار لزماير ثم مقالة “أوهام الاستعمار” ومقالة ” مستقبل الديمقراطية” الخ الخ ….

ولقد وقع اختياري على المقالة التي أشرت إليها سابقا بعنوان “المبدأ القادم” لعدة أسباب أهمها:

  • عنوان المقالة يكفي دليلا على أن المفكرين في الغرب بل والسياسيين أيضا بات مقطوعا لديهم أن مبدأ جديدا سيظهر على الساحة عاجلا أم آجلا لمنافسة المبدأ الغربي الرأسمالي.

  • المقالة لا تحمل في طياتها دفاعا مستميتا عن الليبرالية الديمقراطية بل هي تبرز عيوبا،كثيرة فيها وما أدت إليه من أزمات في العالم.

  • لا تستبعد هذه المقالة إمكانية بروز المبدأ الجديد في البلاد الإسلامية.

طبيعة الصدام المبدئي القادم

يرى الكاتب أنه بالرغم من وجهة النظر الاقتصادية والسياسية الغربية أصبحت المهيمن الوحيد وبلا منازع على العالم، إلا أن سيطرة هذه المبادئ ومحاولة الولايات المتحدة القيام بفرض شامل لقيمها، جعلت العالم يسير في اتجاه المشاكل. ووجهة نظر الغرب – حسب قوله- تقوم على ثلاثة مبادئ أساسية:

  • الرأسمالية والسوق الحرة.

  • حقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية العلمانية.

  • علاقات دولية سائرة في إطار فكرة الوطن القومي.

وهذه المبادئ أثقلت كاهل جميع دول العالم الثالث ومجتمعاتها وزادت من مشاكلها، الشيء الذي يمهد لظهور الأيديولوجية القادمة، والتي ستكون في واقعها معارضة للتحديات الغربية.

وعن طبيعة هذا الصدام الأيديولوجي المقبل بعد الشيوعية، فيرى الكاتب أنه لا يوجد حتى الآن بديل ظاهر وواضح، غير أن المبدأ القادم الذي سيتحدى العالم الغربي سيكون مزيجا من رفض لقيم ومؤسسات الغرب أي ستكون رفضا لما يطلق عليه “التحديث الغربي” Western Modernisation، بالإضافة إلى كافة تدخلاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومع أن ظاهرة الرفض هذه كانت دائما موجودة في العالم الثالث إلا أنها بلغت في وقتنا الحالي ذروتها، وبات ذلك واضحا في المشاكل المتفاقمة والمطالب المتزايدة والفوضى التي تسود العالم.

لقد خلف سقوط الشيوعية فراغا كبيرا على الخارطة الأيديولوجية، وعلى ضوء ذلك بدأت أصوات أيديولوجية جديدة ترتفع هنا وهناك لتملأ هذا الفراغ. فوجود أفكار متحدية أمر بديهي حيث شاهد ذلك في مظاهر العرقية والدين، وربما الفاشية العنصرية التي صارت رمزا لليمينيين في العالم. فالتاريخ – في تصور فولر- لم ينته ( وهو هنا يرد على المفكر فوكوياما الذي يقول في كتابه ” نهاية التاريخ” إنه يعد سقوط الشيوعية لم يعد لليبرالية الغربية منافس لأنها قمة الفكر البشري، وتمثل نهاية تاريخ الفكر الإنساني)، وخلاصة الأمر أن طبيعة الأيديولوجية المقبلة وتحدياتها ستكون فكرية تخالف في تصورها للقيم جميع قيم الغرب وترفض مؤسساته العالمية.

هل القيم الغربية قيم عالمية؟

يرى فولر أن هذا السؤال هو لب الموضوع كله، والمناقشة كلها تدور حول ما إذا كان النموذج الغربي بقيمه ومؤسساته جبريا لا يمكن تفاديه، ففي رأي الكاتب أن على الغرب أن يمهد لهذه الدول بلوغ التحديث مع المرور بنفس التجربة والمشاكل. أما في حالة محاولة الغرب إرغام دول العالم الثالث بالمرور بنفس العملية التاريخية وقبول النماذج المؤلمة، فإن مكافحة الغرب ستنطلق من عدة جهات، وهذا الرفض في قبول التجربة الغربية سيعطي أرضية خصبة للديماغوجيين والحركات الأصولية وحتى الذين يميلون إلى النموذج الغربي سوف يوجهون أصابع الاتهام إلى الغرب لاستخدامه مؤسساته مثل صندوق النقد الدولي كأداة ضغط وكسب مباشر لما تعانيه دولهم من مشاكل.

ولا ينسى الكاتب أن يشير إلى ايجابيات القيم والمبادئ الغربية، بل وعالميتها أيضا حيث ذكر:

  • إن أغلب الشعوب والمجتمعات غير مستعدة للعيش تحت قوانين كاتمة وصعبة، وتريد أن يكون لها صوتها في صناعة القرار، وهذا لم يتحقق إلا في القيم الغربية.

  • لا يوجد أي مبدأ أظهر قدرته في إنتاج هذا العدد الضخم من البضائع لأعداد هائلة من الناس سوى مبدأ السوق الحرة الغربية بما فيه من مظاهر داروينية والتي تركز على مبدأ الربح والخسارة.

ج- فكرة الوطن القومي نجحت في الغرب لأنها مبنية على اعتقاد أن الشعوب تستمد قواها الاجتماعية والسياسية وقناعاتها من الثقافة المشتركة كعامل منظم. فهذه القيم الثلاثة في رأي الكاتب عالمية ، بالرغم من أنها وطدت أولا في الغرب، ومع عالميتها أصبحت كذلك مثيرة لكثير من التساؤلات لدى الغربيين أنفسهم، فالمجتمع الأمريكي الذي يتبجح مثلا بهذه المبادئ أصبح يطلق عليه “المجتمع المريض” من قبل الدول الغربية الأخرى بالرغم من مشاطرتها له المبادئ المذكورة، لذلك نجد الدول الأوروبية مثلا ترفض أن يكون المجتمع الأمريكي نموذجا لها.

ثم ينتقل فولر إلى الفشل العميق في المجتمعات الغربية على مختلف المستويات مما جعلها في حاجة إلى مراجعة دقيقة وتقييم موضوعي بدل أن تجعل من نفسها المجتمعات النموذجية. وإصلاح هذا الفشل يجب أن يشمل التفكير في جميع المسائل التقليدية المتعلقة بالموازنة بين مصالح الفرد والجماعة، والتفكك المتزايد في المجتمع بالإضافة إلى صلاحية المجتمع لإدماج واستيعاب الثقافات والأقليات والمسؤولية الاجتماعية في المجتمع الليبرالي والحقوق الاجتماعية مقابل الواجبات الاجتماعية والحدود اللازمة لتزايد الحاجات الاقتصادية في عالم صغير… الخ الخ. والحقيقة أن غياب الاتحاد السوفيتي – الذي كان محور الحديث يدور عن عيوبه – كمتبع فاشل، جعل عيوب النموذج الغربي – التي أخفتها عيوب الشيوعية – تظهر وتتكشف للعيان. والإشارة إلى سلبيات وعيوب المبدأ الغربي، والغرب لا يعني – كما يقول الكاتب – أن العالم الثالث قد قدم نظاما أفضل لحياة الإنسان الاقتصادية والسياسية. وسبب ذلك في نظره يرجع بالدرجة الأولى إلى أن العالم الغربي الذي أوجد مستوى حياة فريدة من نوعها كما حقق حيوية فكرية وتقدم في مجالات التكنولوجيا والعلوم والحرية السياسية، هذا العالم الغربي أوجد أيضا أنظمة دكتاتورية صارمة ووسائل إدارية استبدادية أدت إلى هلاك وقتل أعداد هائلة من البشر لم يحدث في أي حضارة أخرى، وهذه الأنظمة يسهل نقلها بين دول العالم الثالث بصفة أكثر من نشر ونقل الرخاء والعلم والحريات التي يفتخر بها الغربي.

ويواصل فولر نقده للحضارة الغربية وآثارها قائلا بأن دول العالم الثالث لم تتمكن من رفع صوتها – نسبيا – ضد الديمقراطية والسوق الحرة الرأسمالية ومبدأ الوطن القومي إلا في السنين الأخيرة نظرا لأن مفهوم “التحديث” فرض على هذه الدول بالقوة الاستعمارية. كذلك لم تحدث هذه الأفكار التي يروج لها الغرب أي أثر فعال في المجتمعات غير الغربية، وذلك بسبب عيشها تحت ظروف تاريخية مختلفة، لذلك نجد أن القيم الغربية اليوم هي وحدها المكشوفة والمتهمة في كل مكان بالرغم من أن دول العالم الثالث نفسها تحتوي على عداوات أيديولوجية وجغرافية وعرقية ودينية فيما بينها بالإضافة إلى تطلعاتها المختلفة بما فيها الإسلام والنصرانية والبوذية.

فالقيم الغربية في نظره وفي جوهرها عالمية، إلا أنها مرفوضة من قبل المجتمعات الأخرى لأسباب مختلفة منها التاريخية والدينية ولأيديولوجية.

بعد هذا السرد لطبيعة الصراع الأيديولوجي المقبل ورفض العالم الثالث لقيم الغرب ومبادئه الأساسية، إلى عرض الوجه السلبي للمبادئ الأساسية في المعتقد الغربي والمتمثلة في الديمقراطية والسوق الحرة وفكرة الوطن القومي وآثارها على العالم الثالث.

الوجه السلبي للرأسمالية والديمقراطية ولفكرة الوطن القومي

أما مبدأ السوق الحرة فإنه في رأي فولر أوجد المعاناة والأزمات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية لأن قوة الموتور الرأسمالي من البديهي أن توجد الأزمات في أغلب دول العالم الثالث الرهينة، الشيء الذي يؤدي إلى تمكين عدد قليل جدا من الاستمتاع بالثروات في الوقت الذي تتوجه الأكثرية إلى الخسارة وهذه التباينات التي أوجدها المبدأ الرأسمالي في هذه الدول فاقتها أزمة أخرى وهي أزمة الحكم التي تتمثل في حكومات تفتقر إلى الكفاءة والقدرة على الحكم ولا تستطيع الاستجابة للواجبات الاجتماعية مع الأخذ بعين الاعتبار أنها تفقد الشرعية الديمقراطية وأمام وطأة هذه المشاكل بالإضافة إلى التزايد الهائل لعدد سكان دول العالم الثالث فإن بعض الدول سوف تنهار لا محالة أمام ثورة الغضب الاجتماعي التي من بينها الطبقة المثقفة، وهذا الوضع يعطي فرصة سانحة لعناصر متطرفة مثل الأصولية الإسلامية والجماعات العرقية العنصرية إمكانية توسيع نطاق أعمالها السياسية.

وأما القيم الأخلاقية والتأثير السياسي للديمقراطية فيتطلب فتح مجالات لفوارق جهوية وعرقية، والتي ربما أدت – حسب اللعبة الديمقراطية – إلى سيطرة الأقلية على الأكثرية، وهذا – في رأي الكاتب – لا يناسب دول العالم الثالث لأن طبيعة المناطق التي تتسم بعوارض ثورية تجعل الطبقات المتوسطة تحذو حذو الأنظمة الديكتاتورية ولا تترك مجالا لتصويت شعبي عام.

وأما مبدأ الوطن القومي فيقول الكاتب إن تصديره يسيء، لأن الذي يشاهد اليوم هو انقسام و تفكك الأقليات العرقية بأعداد هائلة مما أدى إلى تفكك الدول، وهذه الأقليات أصبحت تبحث عن طريق تعبر فيها عن حقوقها العرقية، سياسيا وثقافيا.

من هنا يرى الكاتب أن الحل الوحيد للوقوف في وجه التفكك العرقي وانشطار الدول وانسلاخ الأقاليم عن الوطن القومي هو البحث عن أنجع الأساليب التي ترضي كل المطالب العرقية داخل هذه الدول، وذلك بإعطاء الأقليات حقوقا خاصة مثل الحكم الذاتي والفيدرالية والكونفدرالية، ثم يلتفت فولر إلى الضغوط التي تمارسها الدول الغربية على دول العالم الثالث فيما يتعلق بحقوق الإنسان ويقول  إنه تبين أن الديمقراطية من شأنها أن تعجل في تفكك وانهيار هذه الدول، مما سيؤجج المشاعر المعادية للغرب واتهامه بممارسة سياسة فرق تسد، ويرى الكاتب أيضا أن ما تقوم به وسائل الإعلام والمنظمات السياسية الحرة والسياسيون الليبراليون في الغرب من الخوض في هذه الأمور لا يزيد الطين إلا بلة ويساهم في زيادة الضغوط المدمرة. فالقلق المتزايد في الغرب فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحماية البيئة والديمقراطية وتدخلاتها في هذا الإطار يقص ويحدد سياسة الدول مما يدفع بها إلى التمرد. ويخلص الكاتب إلى القول إن فكرة التعامل حسب مبدأ الوطن القومي تضعف من سيادة الكثير من دول العالم الثالث. فالأساس العرقي للوطن القومي يحمل في طياته ما يؤدي إلى الانشقاق والتفكك، في الوقت الذي تزداد فيه المنظمات الدولية قوة مما يعطيها الصلاحية ويجد لها الأرضية القانونية والأخلاقية للقضاء على أي دولة تتصدى للنظام العالمي … ومن هنا يمكن القول أنه لا يوجد سوى خيارين أمام هذه الأنظمة المهددة في العالم الثالث: القيام بإدانة تدويل سيادة الشعوب والدول ورفض كافة القيم والمؤسسات العالمية التي تعتبر السبب المباشر والرئيسي في خلق المشاكل، أو أن تحاول السيطرة على برامج هذه المؤسسات، وذلك برفضها سلطة هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والعمل على إيجاد وبناء قوة تضم أكبر عدد من دول العالم الثالث داخل مجلس منظمة الأمم المتحدة .

الثقافة العالمية وقيم العالم الثالث

يسلط فولر في هذا الفصل الضوء على الثقافات المحلية في العالم الثالث، والتي يقول عنها أنها مهددة من قبل الثقافة العالمية (والتي هي ثقافة غربية بحتة). لأجل ذلك تشعر شعوب العالم الثالث بضغط ثقافي لم يسبق له مثيل، وذلك من خلال أنظمة التسويق العالمية ووسائل الاتصالات الحديثة التي أوجدت طرقا حرة لإدخال المواد والوسائل الثقافية الأجنبية إلى داخل هذه الدول مثل المأكولات والأدوية والألبسة والموسيقى والأفلام والبرامج التلفزيونية، وحتى القيم الغربية. وهذا التفوق الذي يسيطر على كثير من دول العالم الثالث ومجتمعاتها يعطي دفعة قوية للمنظمات السياسية المتطرفة التي تنادي بالنقاء الثقافي والحفاظ على القيم الدينية والعرقية، ورفض كل مظاهر الثقافة الأجنبية الغربية.

لذلك فإن الصدام الحضاري ليس بالدرجة الأولى حول المسيح عيسى وكونفوشيوس أو النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، كما هو حول التوزيع غير العادل للقوى والثروة والتأثير في الساحة الدولية بالإضافة إلى التحقير التاريخي للدول والشعوب الصغيرة من قبل الدول الكبرى.

فشعوب العالم الثالث تشعر بازدراء الغرب لها واحتقارها وعدم احترامها، ويكفي الغرب تهربا من هذه الحقائق الموجودة، فالفوضى والاضطرابات والحروب والحظر الاقتصادي والعقوبات بالإضافة إلى الأسلحة الفتاكة المنتشرة وظهور أيديولوجيات متطرفة ليست في حقيقتها سوى نتيجة لفشل النظام الدولي.

كيف سيواجه المبدأ القادم الغرب؟

يتساءل الكاتب عن الطريقة التي ستسلكها هذه المواجهة في البداية، هل ستكون مثل الثورات الصينية والروسية والإيرانية في بدايتها مشتملة على إعلان حرب أيديولوجية، أم أنها ستحاول توحيد قوى مختلفة لتقاوم الغرب حتى تحصل على السيطرة على المؤسسات الدولية؟

ويجيب على ذلك أن الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على نوع القيادة التي ستظهر لأخذ زمام الأمر في يدها، وإذا حصل وأن كانت هذه القيادة ذات طبيعة راديكالية فإنها ستجمع بين عناصر عديدة، من عمق حضاري تاريخي وضرب من التفوق الثقافي، بالإضافة إلى رؤية الأمر على أنه استمرار لدور فعال في التاريخ ومطالبة بدور قيادي جهوي، وربما بعض التجربة في تبنيها لأيديولوجية مضادة لتوازن القوى مع مزاج خاص من كره للغرب بسبب تعطيل هذا الأخير هذه القيادة – استعماريا – من أن تنهي مهمتها التاريخية والثقافية.

والمرشحون الرئيسيون حسب ما يراه الكاتب يمكن حصرهم في بعض الدول مثل الصين، الهند، إيران، مصر، روسيا، الجزائر، إندونيسيا، جنوب أفريقيا والبرازيل.

أما الصين والهند فحجمهما وعدد سكانهما بالإضافة إلى القوة العسكرية المتوفرة لدى كل منهما، مما يؤهلهما أن يتصدرا المكانة الدولية. وبالرغم من العداء التقليدي بينهما، إلا أنهما تجتمعان في رفض الغرب وقيمه، وتحاول الصين كما تحاول الهند بسط نفوذها على جنوبي شرق آسيا اقتصاديا، مع الأخذ بعين الاعتبار الجاليات الضخمة لهاتين الدولتين في مختلف بقاع العالم.

وأما مصر فإن لها تقاليد تاريخية ودور جهوي، كما تمتاز بكبرها الجغرافي والسكاني بالإضافة إلى تجربتها في القيادة، منذ أيام عبد الناصر، وهي بالرغم من كونها دولة معتدلة حاليا، إلا أنها مثل في الفشل التقليدي كدولة وتعاني أزمات اقتصادية واجتماعية كبيرة. لذلك – يقول فولر – فإن بروز نظام إسلامي في مصر خلال هذا العقد من الزمن أمر ممكن وربما أصبحت مصر هي المتقمصة لدور الدولة المضادة لتوازن القوى. واتخاذها الإسلام أيديولوجية رما حال دون فرض سيطرتها عالميا إلا أن قيادتها للعالم العربي وحده يكفي لإعطائها مكانتها. ونظرا لطبيعة العروبة والإسلام، فإن الدول الأخرى في العالم الإسلامي ستنضم إلى مصر لتقدم لها الإمكانيات المادية لتؤدي دورها ومهمتها، وستكون العربية السعودية أكبر شريك لها في ذلك، لغناها ولتواجد البقاع المقدسة داخل حدودها. وفي الماضي أعطت السعودية مثلا في مساندتها التقليدية لمنظمة العالم الإسلامي والمنظمات الإسلامية في أنحاء كثيرة من العالم. فمتى أظهرت السعودية استعدادا أكبر لوضع ثرواتها رهن إشارة الحركات الإسلامية الأكثر تطرفا، فإن ذلك من شأنه أن يؤوي مطالب إسلامية تتعدى حدود العالم الإسلامي، وعلى فرض أن نظاما بنكيا للعالم الثالث تمركز في السعودية، فإن دوره وحده يكفي كي يؤثر في النظام العالمي بل ويشجع بروز حركة قوية للعالم الثالث.

وما تمتاز به مصر من مقومات يمكن الوقوف عليه في الجزائر وإيران واندونيسيا. ويرى الكاتب أن روسيا ستحاول بعد هزيمتها الأيديولوجية العودة إلى دورها التقليدي بالإضافة إلى محاولة السيطرة على دول العالم الثالث، وجعل موسكو “روما الثالثة ” للأرثوذكس، غير أنه من المستبعد أن تقلق الغرب أو تسبب تهديدا مباشرا له.

وفي ختام مقالته يشير فولر إلى أن الغرض من كل ما كتبه ليس وضع قائمة سوداء لأعداء الغرب، وإنما يستعرض واقعا موجودا ومرحلة مقبلة كنتيجة لما هو عليه العالم الآن.

فالغرب في رأيه سيدخل مرحلة مراجعة شاقة لجميع وسائل وأساليب قيمه وفلسفته. والمبادئ الثلاثة الديمقراطية والسوق الحرة والوطن القومي يجب أن تمرر في عملية تطوير وتصحيح. فما دام الغرب في طليعة الدول التي اعتنقت هذه المبادئ والمفاهيم، فله وحده خاصة الولايات المتحدة تصدر طليعة من يقوم بتصحيح هذه القيم للمجتمع الغربي، من أجل ضمان استقرار الدول التي لم تلحق بالركب بعد، فالتصحيح والمراجعة وإلحاق العديد من دول العالم الثالث السائرة بخطى حثيثة في طريق الحداثة والتقدم، بالدول المتقدمة ومساعدة الدول الأخرى التي لم تفلح في الالتحاق حتى لا تقف في المعسكر المعادي. وهذا العمل هو الذي سيكفل للغرب مواجهة القوى التي ستسير الأيديولوجية القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *