العدد 103 -

السنة التاسعة – جمادى الآخرة 1416هـ – تشرين الثاني 1995م

القدس والبشارة

في الوقت الذي يحكم اليهود سيطرتهم على فلسطين بمساعدة عرفات وسائر حكام المسلمين فإنهم جميعاً يعلمون على إيجاد قناعة لدى المسلمين بشرعية إسرائيل وضرورة التسليم بوجودها وإلى قيام تعاون معها حتى تصبح دولة مثل سائر دول المنطقة بدل التفكير بإزالتها والعمل على قلعها والقضاء عليها.

في هذه الظروف العصيبة، ووسط عملية التضليل هذه، فإن النظر في القرآن الكريم يرينا الأمل مشرقاً،للإسلام ودعوته، وإن الغد القريب سيكون نصراً للمسلمين على اليهود ودولتهم.

إن الآيات الأولى من سورة الإسراء، فيها البشارة لنا بدخول المسجد الأقصى، والنصر على اليهود وإزالة فسادهم وتدمير علوهم.

تبدأ السور بالحديث عن إسرائه صلى الله عليه وسلم  من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، وهذه أول إشارة في الربط بين البيت الحرام بمكة – وماله من اختصاص بالمسلمين دون غيرهم – وبين المسجد الأقصى، ليصير مضافاً إلى المسلمين في التقديس والمكانة، مما يشعر بتوحيد المكانين في الحجاز وبيت المقدس، ليصيراً ميداناً واحداً للأحداث التي ستحدثنا عنها الآيات التالية، وهذا يفسر الانتقال السريع في الآية الثانية عندما تحدثنا عن موسى عليه السلام وعن بين إسرائيل (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ). هذه النقلة في السياق القرآني لا بد لها من دلالة في الربط بين المسلمين واليهود، تماماً كما ظهر الربط بين مكة وبيت المقدس في الآية الأولى.

تقرر الآيات حقيقة أمر فساد اليهود وماذا سيكون من شأنهم، بأنه ستكون لهم جولتان من الفساد والعلو في الأرض (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا)، وهكذا كان فقد أفسد اليهود وعلوا في الأرض مرتين، مرة في بداية الدعوة إلى الإسلام عندما كان لهم سلطان في المدينة المنورة وما جاورها. ثم ها هي المرة الثانية في بيت المقدس في هذه الأيام. (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا) عندما كذبوا رسول الله، وكادوا له ولدعوته، بل نقضوا عهودهم معه وظاهروا عدوه من المشركين وحاربوه، عندها (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا) سلط الله عليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم  وجنده من المؤمنين (فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ) فافتتحوا الحصون وقتلوهم وشردوهم حتى ذهب جمعهم وزال فسادهم وتحطم علوهم. في هذه الآية إشارة إلى الديار وهي ديار قبائل اليهود التي كانت بالمدينة وخارجها، بينما الإشارة في (الآخرة) إلى المسجد بدل ذكر الديار.

(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) إن الإشارة في النص تظهر إن اليهود سترد لهم الكرة على أولئك الذين بعثهم الله عليهم في الأولى، وهم المسلمون، فها هي قد ارتدت الكرة لليهود على المسلمين، يذبحون ويهجرون (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) وما تشهده إسرائيل من إمداد العالم لها بالمهاجرين وبالمال ظاهر وواضح، وجيشها دائماً في حالة حرب للمسلمين، بينما جيوش المسلمين لا تحارب إسرائيل بل تحرسها وتسهر على بقائها.

ثم يذكر المولى سبحانه، موعظة لليهود يذكرهم بطشه وعذابه (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا). وخطابه لليهود ووعظهم يشعر بأنه يتعلق بأمر سيكون لا أمراً مضى وكان.

(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ) فإذا جاءت المرة الثانية من إفساد اليهود وعلوهم في الأرض بعد أن قامت إسرائيل على ذبح المسلمين وتشريدهم وتحريض العالم وحكام المسلمين على حملة الدعوة الإسلامية، تماماً كما فعل اليهود في المدينة من تحريضهم مشركي العرب على الرسول صلى الله عليه وسلم  ودعوته، فإذا فعلتم ذلك فإن من ارتدت لكم الكرة عليهم، وهم أنفسهم من بعثهم الله عليكم في المرة الأولى (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) ويفتحوا المسجد الأقصى (كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، والإشارة في الآية القرآنية إلى أن دخول هؤلاء القوم للمسجد عند إفساد اليهود الثاني سيكون كدخولهم له أول مرة، إشارة إلى أنهم سبق لهم أن دخلوه. والمسلمون وحدهم هم الذين سبق لهم ذلك، فقد دخلوه أول مرة مع عمر بن الخطاب، ودخلوه ثاني مرة مع صلاح الدين، ولم يكن ذلك لأحد قبلهم، وهذه قرينة واضحة على أن ما هو آت (وَعْدُ الآخِرَةِ)، لذلك فإن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى وبيت المقدس كما دخله عمر بن الخطاب وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم  دخولاً عزيزاً.

لقد تمت الإشارة في الآيات إلى المسجد في المرة الثانية من إفساد اليهود، وهو المسجد الأقصى بخلاف الإشارة إلى الديار في المرة الأولى من إفسادهم، وهذا كله يشعر بأن موقع الأحداث مختلف في المرتين، حيث كانت الأولى في المدينة في الحجاز، بينما الثانية في بيت المقدس بالشام.

هكذا يبشرنا القرآن الكريم، لتكون آياته نواراً يبدد ظلمات الضلالة والخيانة، ويرسم للأمة فجرها المشرق بنور الإسلام وعزة المؤمنين. هذا هو وعد الله، الوعد الحق، وعد الآخرة، فهنيئاً لمن عمل لتحقيق وعد الله وتعساً لمن يتشبث بوعد بلفور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *