العدد 106 - 107 -

السنة العاشرة – رمضان وشوال 1416هـ – شباط وأذار 1996م

من الفكر الإسلامي: القرآن والتغيير

من طبيعة المجتمعات البشرية أنها تسمو وتنحط، ترتقي وتتدنى، تسعد وتشقى، ومن طبيعتها أنها تهتدي أو تنحرف، تظهر فيها المشاكل فتعالجها أو تهملها فتزيدها انحرافاً، وبعبارة أخرى فهي إما أن تكون مجتمعات صالحة بعلاقات متميزة وأنظمة صحيحة ذات معالجات راقية وأفكار ومشاعر سامية، وإما أن تفسد بفساد ما تقوم عليه العلاقات الدائمة فيها، فالمجتمعات من هذا الباب مثلها مثل البشر الذين ينـزعون للكفر أو للإيمان وقد يتزينون بلباس التقوى أو يخلعونه عنهم فيكثر فيهم الفساد والفسق والظلم، وقد يرتقون في سلوكهم فيفضلون الملائكة وقد ينحطون فتصير بهائم الأنعام أرقى منهم.

من هذا الباب كان التوق للتغيير ضرورياً للحياة وموافقاً لطبيعة الأشياء التي تتطلبه، إذ قد يكون واقعها فاسداً فيستدعي التغيير كأن يعالج المرء سلوكه المنحط ويحاول أن يرتقي به، وكأن تعالج المجتمعات التي ظهر فيها الانحراف والفساد من أجل النهوض والارتقاء بها، وكأن يقع النظر في الظروف والأحوال التي تكتنف حياة البشر أو العلاقات في المجتمع فتؤثر فيها وتجعلها تنحط مثل الاستعمار وأشكاله المتنوعة في التبعية وتأثير الغزو الفكري والإعلامي في الناس، ولذلك اهتم المفكرون والعلماء والمشرعون وقادة الأحزاب والحركات بالتغيير، وحاولوا تقديم المعالجات لمشاكل الفرد والمجتمع والأمة، وتاريخ البشر كلهم كان تاريخ تغيير للأفكار وللأنظمة وللمشاعر، وكان تاريخ ثورات وحروب وانقلابات وصراعات، وبهذا اختلفت العادات والتقاليد واختلفت الثقافات واختلفت الأنظمة عبر عصور التاريخ البشري.

بين التغيير والترقيع

الجميع أجمع على التغيير إلا أن الخلاف انحصر في مادته وطريقته وفيما يطرح للمعالجة، مما حدا بالناس إلى الانقسام إلى فئات وتيارات منها من تطرح التغيير ومنها من تحافظ على الأوضاع القائمة، ومنها من تحافظ على الأوضاع القائمة، ومنها من يطرح التغيير ولكنها تستهدف شكلاً من أشكاله، كأن تنـزع مثلاً إلى الإصلاح أو التغيير الجذري أو الترقيع، ومنها من يطرح تغيير الأفراد ولا يهتم بأحوال المجتمع، ومنها من يطرح تغييراً فوقياً يستهدف السلطة ويتغاضى عن المجتمع وعن أفراد الناس، ومنها من يحاول تغيير شكل الأشياء ويتعامى عن جوهرها، ومنها من اهتم بالظروف والأحوال التي تكشف الأشياء والحوادث والإنسان ولم يعتن بماهيتها ولا بماهية الإنسان، كأن الظروف والأحوال هي التي تكيف الأشياء وتصيغها تصيغ لها ماهيتها، ونتيجة لهذا تعدد خيارات التغيير واختلفت، وباختلافها اختلفت علاقاتها مع بعضها ومع الواقع بشكل أدى إلى نشوء تيارات محافظة مناهضة لأشكال معينة من التغيير، فالاصلاحيون يتصدون للتغيير الجذري الانقلابي ويقدمون الإصلاح على أنه التغيير المطلوب واللازم، والواقعيون الذين ينطلقون من الواقع ويتخذونه مصدراً للتفكير يناوئون أصحاب المبدأ ويعيبنون عليهم عملية إسقاط ما يتبنونه على الواقع ويصمونهم بأصحاب القوالب الجاهزة، في حين أنهم يريدون معالجة الواقع معالجات واقعية من جنسه، ودعاة الجلباب والعمامة يكتفون بهما ولا يهتمون لا بأفكار الناس ولا بأوضاعهم ولا بالأحوال العامة في مجتمعهم ولا بواقع العلاقات الدائمة فيه، وأصحاب التغيير الفوقي يستهدفون السلطة فيصدون للحكام ولا يتصدون للأنظمة القائمة لا لما تقوم عليه العلاقات داخل مجتمعهم.

أي شكل من أشكال التغيير يطرحه القرآن؟

هل يطرح القرآن الكريم تغيير الأفراد؟ أم تغيير المجتمعات؟ أم تغيير السلطة؟ وهل يطرح التغيير الفوقي أو القاعدة أو هما معاً؟ هل هو مع التغيير الجذري الانقلابي أم مع الترقيع والإصلاح؟ هل يغير الأحوال العامة والأوضاع أم يعالج ماهية الأشياء؟ هل يحافظ على الواقع، أي واقع؟ أم يخالفه ويدعو لتغييره؟ هل يقر الأعراف والعادات والتقاليد كيفما كانت أم يناقضها ويدعو لتغييرها؟

للإجابة على كل ذلك لا بد من استقراء القرآن الكريم، ومن استقرائه واستقراء طريقة القرآن في الدعوة ونوعية خطابه للمكلفين، ومن تنوع المعالجات التي يقدمها نستطيع أن نستشف طريقة القرآن في التغيير ونوعيته، إلا أننا نجد أنفسنا ندور في محورين:

الأول: أن تتواجد الدعوة في المجتمع يناقضها فكرياً ومشاعرياً وعلى مستوى الأنظمة أي في ظل انعدام الكيان التنفيذي (الدولة).

والثاني: بوجود الكيان التنفيذي لكن مع حصول الحالات التي تستدعي التغيير.

المحور الأول

بالنسبة للمحور الأول ومن استقراء نهج القرآن الكريم في الدعوة نستخلص أن التغيير المطلوب هو تغيير الدار وهو التغيير الذي يغير نوعياً الناس والمجتمع، وقد استخلصنا هذا من كون القرآن ناهض العقائد الباطلة ونقض ما تقوم عليه من الأسس والقواعد، وبين فساد الأفكار والمشاعر التي تكتنف حياة الناس ونقض أفكار الأنظمة التي تسير المجتمع، من هذا يظهر أن القرآن استهدف العلاقات الدائمة في المجتمع وتفصيل ما تقوم عليه من أنظمة وأفكار ومشاعر، ومن تتبعنا لمراحل الدعوة نجد من خلال مواكبة الوحي لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أن عملية التثقيف مرت بمراحل:

في أولها كان القرآن الكريم يزود الرسول وصحابته بمفاهيم العقيدة وبالأفكار الصحيحة، يبني عقلياتهم ويصيغ نفسياتهم على أساس العقيدة، ولذلك كان الهدف تغيير أشخاص وتكوينهم ليكونوا طليعة وقادة لمجتمعهم.

وفي الثانية زود القرآن الكتلة بمفاهيم الصراع الفكري حتى تخوض صراعاً فكرياً ضد العقائد الباطلة والأنظمة الفاسدة. كل ذلك من أجل تغيير الأعراف العامة والأجواء الفكرية والسياسية في المجتمع.

وحين ينجح التفاعل الفكري مع المجتمع يصبح الأمر يستدعي كفاحاً سياسياً ضد قادة المجتمع الذين يريدون المحافظة على الواقع وعلى مواقعهم ويقفون بالمرصاد ضد الدعوة وضد التغيير. وهكذا ويقفون بالمرصاد ضد الدعوة وضد التغيير. وهكذا نلخص ما يطلبه القرآن في هذه الحالة: تغيير أفراد ليكونوا صالحين للكتلة من أجل تغيير الدار، فتغيير عقليات ونفسيات الأفراد أهلهم للتفاعل مع المجتمع وتغيير الأفكار والمشاعر التي تسوده، وهذا من شأنه أن يوجد رأياً عاماً مبيناً على وعي عام، ومن شأنه أن يغير الدار من الداخل ويبقي مشكلة السلطة التي يجب أن تستجيب للتحول الذي طرأ على المجتمع أو أن تغير. وللملاحظة فإن هذا الشكل من التغيير استهدف أفراد من الناس والمجتمع والدولة إلا أن تغيير شخصيات أفراد الكتلة لم يراد لذاته بل من أجل تغيير المجتمع والدولة ويقتصر فيه فقط على من يكونوا صالحين لهذا العمل الجبار وعلى ما تحتاجه الدعوة من رجال. والتفاعل مع المجتمع ليس المراد منه نغيير أفراد الناس كلهم بل العرف العلام، ويكفي أن تسود أفكار الدعوة ويوجد لها رأياً عاماً ليعمل على تغيير الدولة.

أما التغيير الذي يحدثه القرآن فهو تغيير نوعي: غير تغييراً جذرياً شخصيات الصحابة، وأراد أن يغير جذرياً المجتمع بتغيير الأفكار والمشاعر التي تكتنفه والأنظمة التي تسيره، وغير جذرياً الأسس والقواعد والأركان التي تقوم عليها الدولة، إذا التغيير الذي يطرحه القرآن هو تغيير جذري يجعل العقيدة أساساً لكل شيء وقاعدة فكرية، ويجعل الأفكار التي تتعلق بالإنسان أو بالمجتمع أو بالدولة تنبثق عنها أو تنبني عليها حتى يكون البناء على أسس صحيحة وقواعد صلبة، وحتى يكون بالتالي منسجماً مع الأسس والقواعد والجدران.

ومن هذا نفهم أن التغيير هذا ليس سطحياً ولا شكلياً وليس فوقياً أو قاعدياً فقط، بل يصيب الشكل والمضمون ويمس القمة والقاعدة، وهو كذلك ليس إصلاحاً ولا ترقيعاً، لأنه بتركيزه على أفكار العقيدة وعلى الأفكار الأخرى يعلمنا القرآن أن نهدم الأسس والقواعد الفاسدة ونقيم بدلاً منها الأسس والقواعد الصحيحة والسليمة ويعلمنا أن البناء لا بد أن يكون منسجماً مع بعضه.

ولهذا لا يقبل أن يكون حملة الدعوة مثلاً يدينون بالإسلام ويعيشون بالأنظمة الغربية، أو أن تكون أفكارهم خليطاً من أفكار إسلامية في العبادات ورأسمالية في العلاقات، أو أن تكون نفسياتهم ليست تلك التي تغضب لما يغضب وتسر لما يسره، بل تفرح للمنفعة وتغضب للمضرة كما تصور ذلك حضارة الغرب، ولن يقبل أن تكون مجتمعات المسلمين تساس بالأنظمة الغربية وتحصر الشريعة في علاقة الإنسان بربه فقط، ولن يقبل أن يكون أهل الدار مسلمين والعبودية في مجتمعهم لغير الله بل لحكام طواغيت. ولسائل أن يسأل بعد كل هذا أن ما وقع طرحه خلال هذا المحور الأول يتعلق حقيقة بالمجتمع وليس بالأفراد ولا بالدولة، أي أن الأفراد لم يغيروا إلا ليكونوا صالحين لتغيير المجتمع، وهذا التغيير فيما يقوم عليه المجتمع من أسس وقواعد، وهو الذي يؤدي إلى بناء الدولة أي يجعل الكيان التنفيذي يسايره ما حصل من تغيير في مفاهيم الناس ومقاييسهم وقناعاتهم، فيكيف نستنتج هذا من القرآن الكريم؟

من خلال استقراء القصص القرآني وسور وآيات القرآن المكية نجد تركيزاً مقصوداً على المجتمعات بشكل يجعلنا نقرر أن القرآن الكريم اعتبر أن الفساد الذي يحاربه هو فساد المجتمعات، وأن الإنسان غالباً ما يكون من جنس المجتمع الذي يعيش فيه وأن فساده يحصل حتماً بفساد المجتمع الذي يعيش فيه وأول ما يؤكده القرآن أن فساد المجتمعات وشقاءها آت من جهة بعدها عن الشرائع السماوية. (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، ويزيد القرآن موضحاً أن الإيمان والتقوى يكثر الخير وتنـزل البركات (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). وبما أن القرآن استهدف في صراعه الناس وما يقوم بينهم من علاقات فإنه في الحقيقة استهدف المجتمع، وبالتفصيل فإنه لما خاض القرآن صراعاً فكرياً ضد الأنظمة والمشاعر التي تكتنف حياة الناس في المجتمع وركز بدرجة كبيرة على الأنظمة الفاسدة إذ أخذها بالنقض وببيان الفساد في الأسس والقواعد والفروع، فإنه ركز في الحقيقة على ما من شأنه إذا فسد أدى إلى فساد المجتمع برمته وكل ما يدخل في مقوماته ومنه الإنسان، هذا التقرير يستنتج من استقراء القصص القرآني وآياته المكية والمدنية يقول عز وجل: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)، (تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). ومن القصص القرآني (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ)، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)، (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا)، (وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ)، (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ)، (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ)، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ)، (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)، (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)، (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، وقد دأب القرآن على مخاطبة الناس وما بينهم من علاقات دائمة حتى في آياته المدنية (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).

الموقف من التغيير

هذا التركيز من القرآن على الأنظمة التي يساس بها الناس سوف يجعل القائمين عليها وأعوانهم من الفئات المحافظة ينزعون إلى مقاومة التغيير والتصدي له بكل الأشكال (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)، (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)، (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)، (لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، (قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ)، (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ).

فماذا يطرح القرآن: الإصرار على التغيير حتى النهاية أم مجاراة التيارات المحافظة ومصانعتها؟ لقد عين القرآن المقياس الصحيح للأمور إذ أن هناك فئات متنازعة وهي على طرفي نقيض، البعض منها يحكم بفساد المجتمع وبوجوب تغييره والباقي يزعم أن الواقع صحيح ولا يحتاج إلى تغيير… إن الأمر يحتاج إلى تصحيح مفاهيم (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)، (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ).

والظالمون من حكام وأتباعهم والذين يطيعونهم من الناس يقول فيهم القرآن (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا)، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).

وبناء على هذا نجده يقرر (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ)، وذلك لأن الناس فسقوا عند طاعتهم هؤلاء الظالمين (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ). إذا في المجاراة وإطاعة المفسدين وعدم التصدي للتغيير الجذري ظلم وفسق وحشر في جهنم.

فماذا اختار لنا القرآن؟

لقد الزمنا القرآن بالتغيير وبمناصرة قوى التغيير الحقيقية ووعدنا بالنصر إن قمنا حقيقة بنصرة هذا الدين (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) مؤكداً على حقيقة لا بد من استحضارها دوماً في أذهاننا (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، وفعلاً فإن الله تولى نصر رسله على أقوامهم وكنت العاقبة دائماً للمتقين، وتولى نصر الفئات المؤمنة عبر التاريخ البشري رغم ضعفها وقلتها ورغم كيد الظالمين والفاسقين مع كثرتهم وشدة كيدهم والله يريد أن يمن علينا بالتمكين في الأرض (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ)، وهكذا يكون مضمون الدعوة تغيير الدار مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، أي أن هذه الدعوة هي لعبادة الله وحده باتباع أوامره ونواهيه واجتناب الطاغوت، وهو كل ما يخالف شرع الله من قوانين وضعية ومن أشخاص حكام جعلوا لأنفسهم قداسة، وتغيير الدار كما أشرنا لا يستدعي تغيير مظهرها الخارجي ولا يتطلب أمرها إصلاحاً أو ترقيعاً لأنها كبناء بني على أسس وقواعد فاسدة، وما بني على أسس وقواعد فاسدة يكون كله مبني على فساد ويتطلب بالتالي هدماً وإعادة بناء على أسس وقواعد صحيحة، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم (بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)، وفي هذا الإطار عَمِد القرآن إلى هدم العقائد الباطلة وبين فساد أفكارهم السخيفة (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا)، (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ)، (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، (يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)، (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)، (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)، (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ).

وهكذا تتوضح طريقة القرآن في تغيير الدار: نقض ما تقوم عليه من عقائد باطلة وأفكار فاسدة وأنظمة عفنة وإقامة العقيدة الصحيحة والأفكار الراقية والأنظمة الصالحة.

أما الإصلاح والترقيع اللذان لن ينالا إلا الجدران ولا يتعرضان للأسس والقواعد، وكذلك التغيير الفوقي بالخروج على السلطة بالقوة أم بالدخول فيها من أجل تغييرها من الداخل، فإنها لن تؤدي إلى تغيير ما بالدار، لأن الأسس والقواعد التي أقيم عليها البناء وهي أصل المنكر وأصل الفساد ومنبع كل فسق ورذيلة لا زالت قائمة ومبنية عليها الأشياء، والعبرة ليست في التصدي للأعراض دون الداء، لأن معالجة الأعراض والداء كامن موجود لن يقضي على الأمراض، لأنه تصد للنتائج مع إهمال للأسباب، وهذا ما حصل مع المجتمعات الرأسمالية فإنها من كثرة الترقيعات مسخت لأن عمليات التجميل هذه تحاول إخفاء عفن وفساد مبدئهم ولكنها لن تنفع، لأن الفساد نخر كل مجتمعاتهم بمختلف فئاته وأوساطه ولم يعد يجدي نفعاً إخفاؤها، فكانت تلك الصورة الجملية تخفي تحتها جيفة نتنة وظلماً بشعاً وفساداً منظماً.

وعلى هذا يقرر القرآن أن المجتمعات إذا فسدت بفساد ما يطبق فيها من أنظمة وما يسودها من مشاعر وأفكار فإن إصلاحها يحتاج إلى تغيير جذري، يغير الأسس والقواعد والفروع، ويظهر من هذا أنه يريد القضاء على الأسباب الحقيقية لفساد المجتمعات، وفيعلمنا أنه بهذا فقط تظهر المجتمعات وتسمو. خاصة وأننا نعيش واقعاً أليماً منذ عقود من الزمن، والأمة تنحدر وتنحط وتفقد كل يوم من مقومات شخصيتها ومن كرامتها ومن دينها ما يجعلها ممسوخة ضائعة في عالم مادي، ورغم حركات الإصلاح وتيارات الترقيع فإن ذلك لم يمنع الأمة من الانحدار والسقوط، بل إن انحطاطها وانحدارها سار بخطوات متسارعة.

المحور الثاني

ومن خلال المحور الثاني من الموضوع والمتعلق بوجود الكيان التنفيذي في حياة الأمة فإن التغيير المارد لا يتعلق بتغيير الدار لأن الدار بنيت على أسس وقواعد صحيحة وصلبة، ولكن الخلل قد يطرأ ويتطرق إلى ناحية من نواحي البناء فيتطلب الأمر فقط معالجة تلك الناحية لا البناء كله. ولكن من استقراء الآيات المدنية نجد تركيزاً على ما ينبغي أن يربط الناس من علاقات، بشكل يريد القرآن من خلاله أن يمرر للأمة رسالة ويحملها مسؤولية وهي العمل على منع الأسباب الحقيقية لفساد المجتمعات وشقائها ولذلك جاء مثلاً في الآية الخطاب عاماً يشمل الرعية والرعاة، الناس والمجتمعات (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، ولذلك كانت الدولة، وهي الكيان التنفيذي، تعمل على تنفيذ الأحكام الشرعية في حياة الناس وإلزام الناس بالتقيد بالشرع، وتطبيق الحدود والتعازير، والإحسان في رعاية شؤون الناس والعدل في الرعية وعدم حرمانها من أموال الملكية العامة، وتطبيق أحكام الشرع على الجميع دون تمييز، أي بتطبيقها لأحكام النظام الاقتصادي وباتباعها لسياسية اقتصادية تعالج المشكلة الاقتصادية وبتنفيذها لأحكام النظام الاجتماعي ونظام الحكم ونظام العقوبات، تكون الدولة قد منعت الأسباب الحقيقية في فساد المجتمعات، وبما أن الدول ولو كانت إسلامية هي في الحقيقة دولاً بشرية وأفرادها قد تجافيهم التقوى ويضعفون، فإن الأحزاب والجماعات وكل القوى الحية في المجتمع كان لها أن تقف بالمرصاد للحكام حتى لا ينحرفوا ويكونوا بسيرتهم الفاسدة وبانحرافهم عن تطبيق الشرع الحقيقي وراء الفساد كما يحدث مثلاً مع البغاة، ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان تغيير المنكر هو الطريقة التي تعتمد في التغيير من أجل أن يبقى المجتمع نظيفاً سامياً ذا علاقات متميزة، وفي هذا الإطار فإن من تحدثه نفسه بالفسق أو بالفساد والكفر، فإنه يجد دائماً من يقف له بالمرصاد، والإصلاح عادة ما يغير الأشياء الفاسدة ولكن إذا حصل أمر يهدد بالقضاء على الدار من أسسها وقواعدها فإن الأمر يتطلب ثورة عارمة تقضي على الذين أرادوا تغيير الدار وتغيير قواعد وأسس البناء.

من خلال الاستقراء لنهج القرآن في التغيير تتوضح لنا طريقته فيه، والتي يمكن أن تعبر عنه هذه الآيات (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، وبذلك تختلف طريقة القرآن في التغيير عن أية طريقة أخرى.

والمفهوم من هاتين الآيتين أن أحوال الناس وظروف حياتهم وعلاقاتهم وطرق عيشهم وأوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة لا يمكن أن تتغير إذا لم تتغير مفاهيم الناس وقناعاتهم ومقاييسهم، فالكفر لا يقضى عليه إذا كان الناس راضين به، والفساد لن يندثر إذا قنن ونظم وساد كل العلاقات، والظلم إذا شرع وتعامل الناس به لن يقاوم لأنه أصل التعامل، فإذا لم يبلغ العرف العام في المجتمع من الوعي والنضج ما يكفي للتمييز الفكري بين الأشياء وأضدادها (الكفر والإيمان، التقوى والفسق، العلم والجهل، الشرع والطاغوت، الحلال والحرام) فإنه يستحيل تغيير الأوضاع الفاسدة ويستحيل أن تتغير المجتمعات، ولهذا ليس عجباً أن نرى القرآن يركز على مفاهيم العقيدة الراقية، كل ذلك من أجل تغيير ما بأذهان الناس والأجواء والفكرية العامة والأعراف في المجتمع، لتوجد دواعي التغيير وتصبح مطلباً للرأي العام فيباشر حينئذ فيه، فمن أجل النهضة نحتاج إلى فكر، ومن أجل الارتقاء الدائم والمستمر نحتاج كذلك إلى فكر، ولمقاومة الاستعمار وأشكال التبعية نحتاج كذلك إلى فكر، وفي تبليغ الدعوة إلى الدول والأمم الكافرة نحتاج إلى فكر، نحتاج إلى فكر في التغيير ونحتاج إليه في البناء، نحتاج إلى المفاهيم الصحيحة والصادقة في كل حين وكل موقف وفي كل عمل، وذلك هو مضمون قوله تعالى: (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، هذا ونسأل الله تبارك وتعالى أن يشرح صدورنا للحق ويرزقنا التوفيق والسداد للعمل به وله، إنه على ما يشاء قدير.

(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *