العدد 109 -

السنة العاشرة – صفر 1417هـ – حزيران 1996م

في رحاب الوحي في ظلال القران

في رحاب الوحي

في ظلال القران

بقلم الأستاذ . سيد قطب

قال الله تعالى ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولنصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز،الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور ) الحج 39-40

إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون ، واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين :

{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور } . .

فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه ، ظاهر حتماً على عدوه . . ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والتضحية والآلام . . والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال؟

والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة . . والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من « التنابلة » الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!

نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .

لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر؛ وهي تدفع وتدافع ، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة . . عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه ، وتبذل آخر ما تنطوي عليه؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال .

والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفز كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .

والنصر السريع الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .

وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولاً لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانياً لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه .

وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق . ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . . ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور في جميع الحالات . . وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة عليها وعلى الناس .

من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله . . جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .

والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . فيكون هذا الإبطال لحكمة يريدها الله .

قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!

وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله .

وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .

وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سنداً إلا الله ، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .

وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه .

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله . فقال : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » .

قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً ، ويذهب وحده هالكاً ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!

وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!

وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستقبائه!

من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .

وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه :

{ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر؛ ولله عاقبة الأمور } . .

فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره . . فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله ، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء :

{ الذين إن مكناهم في الأرض } . . فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر . . { أقاموا الصلاة } . . فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . . { وآتوا الزكاة } . . فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » . { وأمروا بالمعروف } . . فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس . . { ونهوا عن المنكر } . . فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه . هؤلاء هم الذين ينصرون الله إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة معتزين بالله وحده، دون سواه. وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق اليقين. فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته المشروط بتكاليفه وأعبائه، والأمر بعد ذلك لله، يصرفه كيف يشاء فيبدل الهزيمة نصرا، والنصر هزيمة عندما تختل القوائم أو تهمل التكاليف ( ولله عاقبة الأمور) إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة من انتصار الحق والعدل والحرية ، المتجهة إلى الخير والصلاح المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات والمطامع والشهوات وهو نصر له سببه وله ثمنه وله تكاليفه وله شروطه فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه.

 

————————-

عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فغنه من يطلبه من ذمته بشيء، يدركه ، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم ” رواه مسلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *