التاريخ من وحي الهجرة
2016/10/30م
المقالات
1,835 زيارة
التاريخ
من وحي الهجرة
عبدالرحمن مطر
كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بداية لدور هام من أدوار الدعوة الإسلامية، وهو الدول العملي ، دور تطبيق الإسلام، في كيان سياسي واحد، وحمل الدعوة الإسلامية بطريق الجهاد في سبيل الله إلى العالم بدءا بالجزيرة العربية.
لذلك كان لا بد من العناية الفائقة بتفهم أدوار الدعوة لمن يعمل لإنهاض المسلمين على أساس من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لأن ما عمله النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لم يكن مجرد حوادث مضت وانتهت وأصبحت تاريخا نقرؤه لاجترار الأمجاد بل ان أفعال الرسول وأقواله وتقريراته كما يقول الفقهاء هي السنة التي ينبغي على المسلمين أن يتقيدوا بها في أعمالهم بحسب دلالة أدلتها التفصيلية من حيث كونها فرضا أو مندوبا أو مباحا.
لدى تتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذ تكليفه بتبليغ دعوة الإسلام إلى الناس، بدءا بعشيرته الأقربين يلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستهدف بناء قاعدة حزبية لدعوته، بالإضافة إلى إشعار الناس كافة بأن هناك دعوة إسلامية، فكان الدور الأول من أدوار هذه الدعوة هو دور التكتل السري، وظل هذا الدور لبضع سنين حتى نزل قول الله تبارك وتعالى ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين).
عند ذلك خرج الرسول في أصحابه صفين اثنين كان على رأس أحدهما حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعلى رأس الصف الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذهب بهم إلى الكعبة في نظام دقيق لم تعهده العرب من قبل فطاف بهم حول الكعبة المشرفة، وبدأ بعد ذلك الاحتكاك الفعلي بين أفكار الإسلام الصحيحة وبين أفكار الكفر الفاسدة، وبدأت المرحلة الثانية ( الدور الثاني) من أدوار الدعوة الإسلامية ، وهو دور أثار حفيظة عبدة الأوثان دور المقاومة المادية من قبل أعداء الإسلام حيث استحرت الحرب الدعائية ضد أفكار الإسلام، داخليا وخارجيا، وبدأ التعذيب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أن الرسول لم يسلم هو الآخر من هذا التعذيب، أضيف إلى ذلك المقاطعة التامة للمسلمين فلا يباع ولا يشترى منهم، واستمر هذا الحال ثلاثة أعوام عجاف ، أكل المسلمون فيها أوراق الشجر، ولم يقابل الرسول ولا أصحابه الأذى بمثله، بل لم يقوموا بأي عمل مادي خلال هذه الفترة.
وإذا كان القصد من الدور الأول ، هو إعداد الكتلة الحزبية التي سوف تحمل عبء الدعوة الإسلامية فكرا، ثم تطبيقا وحملا للعالمين من بعد ذلك ، فإن القصد من الدور الثاني أيضا كان لا بد منه، ألا وهو صهر المجتمع في بوتقة الإسلام، وبعبارة أخرى لكي يتبنى هذا المجتمع جعل العلاقات بين الناس بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الدول والأمم والشعوب الأخرى على أساس هذا الدين، لأن أي مبدأ من المباديء يراد تطبيقه على الناس يقتضي قطعا أن يتم إعداد الناس فكريا ونفسيا به لكي يؤمنوا به إيمانا راسخا، ويدركوا كونه يعالج المشاكل معالجة صحيحة ، ويرعى شؤونهم رعاية تامة يتحقق من خلالها أمنهم وسعادتهم واطمئنانهم، وبغير ذلك لا يمكن أن يقوم أي نظام أو أي مبدأ قياما صحيحا أو يكتب له البقاء أمدا طويلا، فكانت هذه الفترة، أو ( دور التفاعل) وكان هذا الصراع الفكري محتما، ولازما ولا مفر منه، من أجل صنع الشخصيات الإسلامية أولا، ثم لصهر المجتمع كله في بوتقة الإسلام ثانيا، وصولا إلى إيجاد القاعدة الشعبية التي تتبنى المبدأ وتقيم السلطة التنفيذية، لأن السلطة التنفيذية هي ثمرة ونتيجة لتغلغل أفكار المبدأ وسيطرتها، وصيرورتها الأفكار المسيرة للمجتمع كله لذلك كانت هذه الفترة ، أو هذا الدور ، من أخطر المراحل ، وأدق الأدوار، وكان النجاح في هذا الدور أساسا وقاعدة للنجاح في الدور الثالث، وهو ( دور الارتكاز) أو دور تنفيذ المبدأ كاملا غير منقوص.
لذلك كان حرص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شديدا على هذا الدور، وعلى نجاحه، ولما لم يجد رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه بغيته في مجتمع مكة، على الرغم من الجهود الجبارة والمضنية التي بذلها هو وصحابته الكرام فيها، طفق يبحث عن مجتمع آخر تكون فيه قابلية الانصهار في بوتقة الإسلام، فكان يغشى القبائل في مضاربها ويتعرض للحجيج في مواسم الحج، وكانت رحلته إلى الطائف ، وعودته منها باكيا، ودخوله إلى مكة بحماية المطعم ابن عدي،وكانت سنة الحزن إذ توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ثم توفي عمه أبو طالب، ففقد المعين والنصير، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تلن له قناة ،وظل مثابرا على خط سيره الذي رسمه له ربه جل وعلا، حتى جاءه الفرج من قبل يثرب، في موسم حج ذلك العام الذي شاء الله عز وجل فيه أن يفتح لرسوله أبواب النصر والتأييد، إذ تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لنفر من المدينة جاءوا للحج فأسلموا وجاءت السنة الثانية فكانت بيعة العقبة الأولى، وإرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه يحمل دعوة الإسلام إلى المدينة، وكانت أرضا خصبة، ما لبث الإسلام فيها إلا قليلا حتى أصبح رأيا عاما في المدينة كلها، وكان في هذا دلالة على أنها نقطة ارتكاز دولة الإسلام، وهكذا كان بالفعل.
جاء الدور الثالث إذن في وقته ، وبعد أن تهيأ المجتمع في المدينة المنورة، على اختلاف توجهات أهل المدينة وبالرغم من وجود ثلاث قبائل من اليهود وهم بنو قينقاع ، وبنو النضير، وبنو قريظة، في المدينة وفيما حولها ولا أدل على قوة الرأي العام لذلك كان المقياس في النجاح – نجاح الدعوة الإسلامية في مرحلتها الثالثة- هووجود الرأي العام على الإسلام وليس هو صيرورة جميع الأفراد مسلمين ، لأن هذا ربما درب من الخيال والوهم، سيما وقد مر في السيرة العطرة أن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه حرص على إسلام عمه، الذي يعرف صدق ابن أخيه لكن عمه لم يستجب لدعوة الحق، كما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يطلب النصرة من القبائل ، كان يعرض عليها ويطلب من أهلها النصرة مرة واحدة، ولم يكرر طلبه لأية قبيلة من القبائل. ومن هنا كانت الهجرة الشريفة إعلانا لقيام الدولة الإسلامية الأولى ، وبدء العد التصاعدي لانتشار هذا الدين في ربوع الأرض، وقد أخذت آيات الأحكام المتعلقة بتنظيم المجتمع والدولة تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ معها إعداد المسلمين للجهاد في سبيل الله ، إذ بعد أن آخى الرسول الكريم بين الأنصار والمهاجرين ، ووضع المعاهدة التي اقتضتها الأحوال في الدولة الفتية، وقبل أن تبلغ سنة الهجرة نهايتها ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيش المسلمين غازيا في غزوة الأبواء ، أو ودان، ثم تتابع الغزو، وأرسلت السرايا تباعا، وجرت تصفية الجيوب التي عملت طيلة سبع سنوات على الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم، والوقيعة بالمسلمين، وفي غضون عشر سنين ، هي مدة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، استطاع الرسول أن يوحد شبه الجزيرة العربية في كيان سياسي واحد وفي دولة إسلامية واحدة، وقبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى كان قد أمر أسامة بن زيد على جيش من المسلمين ليتوجه إلى الشام مضيا في طريق الجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام في العالمين، وبعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، تولى أبو بكر رضي الله عنه ، وقاد هذه السفينة التي كادت أن تعصف بها الأنواء ، وقضى على المرتدين، ومكن لدولة الإسلام في الأرض، ثم جاء الفاروق رضي الله عنه من بعده، واستطاع بفضل الله وعونه ونصره أن يحطم أنف أكبر دولتين في ذلك الزمان، وقبل أن ينقضي القرن الأول من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، كانت جيوش الفاتحين تدق أسوار باريس مرورا بالأندلس .. واليوم وإذ نعود ، أو تعود بنا الذكرى، إلى تلك الهجرة العظيمة ، والتي اعتبرها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، البداية العملية لدور الإسلام في إنقاذ البشرية من هاوية الضلال، وإذ تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، يجدر بنا أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أمرنا ربنا عز وجل في محكم كتابه إذ يقول ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا).
فنعمل معا لإقامة الخلافة الإسلامية التي ستستأنف نشر الهدى في الأرض وذلك بأن ينصب الجهد على تأصيل الفهم للإسلام، خاليا مما علق به على مر القرون من غشاوات، وغرس القناعات بأفكاره،وفهم جميع معالجاته، وأحكامه ، توطئة لإعداد الأمة إعدادا ممتازا، بهذا الفهم الصحيح لدينها وبالوعي الصحيح على واقعها بناء على فهمها الصحيح لماضيها، لكي تدرك أنه لا خلاص لها من الإثم والذل والقهر الذي حاق بها ولا فكاك من هذه الأوضاع التي فرضها الصليبيون عليها، ولا انعتاق من انظمة الكفر التي فرضت عليها، ولا سبيل لها من هؤلاء ” النواطير” الذين أقامهم الصليبيون من أجل منع وحدة المسلمين في دولة واجدة، ومن أجل إبقاء أفكار الكفر مهيمنة على بلاد المسلمين ، ولإبقاء ثروة المسلمين منهوبة وإرادتهم مسلوبة، وكرامتهم مهدورة،وعزتهم مفقودة، وحرماتهم منتهكة، إلا بإقامة الخلافة الإسلامية….
إن هذه الأمة ، ومهما طال نومها ، ومهما عظمت كبوتها، فإنها لا بد من أن تعود إلى أصالتها ، ولا بد من أن تنهض من كبوتها، وتفيق من رقدتها، ولن تخلو من المخلصين الذين يجهدون لإعزاز هذا الدين، وإعادته إلى الحكم والسلطان بإذن رب العالمين.
إن لنا في الله سبحانه وتعالى لكبير أمل أن يصلح قلوبنا، وأن يجمع على هديه أفئدتنا، وأن ينزع الغل والحقد من صدورنا، وأن يوفقنا للعمل بكتابه وسنة رسوله وأن يرينا بالكفار يوما، وأن يرينا لهذه الأمة الماجدة أيام نصر وعزة ومجد وفخار ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2016-10-30