العدد 109 -

السنة العاشرة – صفر 1417هـ – حزيران 1996م

الحملة الأميركية للقضاء على الإسلام (1)

الحملة الأميركية للقضاء على الإسلام (1)

لم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات من هذا القرن تفكك دولة بقدر ما كان سقوط مبدأ ونهايته دوليا وعالميا. ذلك أن الصراع الذي نشب بعد الحرب العالمية الثانية بين المعسكر الغربي بزعامة أميركا، وبين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وهو الصراع الذي أطلق عليه وصف “الحرب الباردة”، لم يكن صراعًا دوليا بين معسكرين وحسب، وإنما كان أيضا صراعًا عقيديًا بين مبدأين: الرأسمالية والاشتراكية.

ولم تقتصر ساحة هذا الصراع على أوروبا وحدها، وإنما تجاوزتها إلى العالم بأسره. وقد انتهى هذا الصراع بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى دول، وبسقول المبدأ الاشتراكي الماركسي كنظام وطريقة في العيش بالنسبة لهذه الدول وشعوبها، وانتهاء الاشتراكية الماركسية من الناحيتين الدولية والعالمية. وكان طبيعيا أن تعتبر أميركا والمعسكر الغربي بوجه عام هذا الانهيار وهذا السقوط انتصارا للمبدأ الرأسمالي كنظام وكطريقة للعيش، وأن يبالغ معتنقو الرأسمالية في وصف هذا الانتصار، لدرجة أن الفيلسوف الياباني فوكوياما اعتبره نهاية التاريخ. والمبادئ لا تنتهي بسقوط الدول التي تعتنقها حتى لو أدى هذا السقوط إلى تفككها وتشرذمها، ولكنها تنتهي حين تتخلى الأمم والشعوب التي تعتنقها عنها، وتعتنق مبادئ أخرى، وتبدأ بصياغة حياتها على أساسها. وهذا ما حصل مع الاشتراكية الماركسية، فإن جميع الأمم والشعبو التي كان يتألف منها المعسكر الشرقي تخلت عنها، وتحولت إلى الرأسمالية، وشرعت في بناء حياتها على أساسها. وبالمقارنة، فإن مبدأ الإسلام ظل موجودا عالميّا بعد هدم دولته، دولة الخلافة العثمانية عام 1924م، لأن الأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها ظلت تعتنق هذا المبدأ، رغم إبعاده عن حياتها عمليا، ورغم أنه لم يعد له وجود دولي.

فالمبدأ يبقى موجودا عالميًّا ما دامت هناك أمة تعتنقه، حتى وإن لم تطبق هذه الأمة أنظمته لسبب خارج عن إرادتها. ولكنه لا يعود موجودًا دوليا إذا لم تعد هناك دولة تحمله وتُسيّر سياسياتها الدولة على أساسه. وعلى هذا الأساس، فإن مبدأ الإسلام ظل موجودًا عالميا منذ أن تكونت على أساسه الأمة الإسلامية في المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها وبناء الدولة الإسلامية الأولى. وظل موجودًا دوليًّا منذ ذلك التاريخ حتى سقوط الخلافة العثمانية في الربع الأول من هذا القرن.

أما الاشتراكية، فإنها وجدت عالميًّا منذ أواخر القرن التاسع عشر، حين أصبح لها رأي عام بين شعوب أوروبا. ووجدت دوليا عام 1917 حين قامت على أساسها دولة في روسيا وما جاورها، عرفت فيما بعد باسم الإتحاد السوفيتي. وظلت موجودة دوليًّا حتى عام 1991 حين انهار الاتحاد السوفيتي، وتخلت شعوبه عن الاشتراكية. وبذلك انتهت الاشتراكية الماركسية دوليًّا وعالميًّا.

“النظام الدولي الجديد”

وبسقوط الاشتراكية انفردت الرأسمالية بالمجال الدولي، لأنه لم تعد هناك دولة في العالم تحمل مبدأ آخر، وتبني على أساسه سياساتها الدولية.

أما على الصعيد العالمي، فقد ظل هناك مبدآن: الإسلام والرأسمالية. وبتفرد الرأسمالية دوليًّا، ولد نظام دولي جديد. وحين يقال ” النظام الدولي الجديد” فإن ذلك صحيح من هذه الزاوية.

ولذلك، كان طبيعيا أن يعلن رئيس أمريكي (جورج بوش) ميلاد النظام الدولي الجديد، لأن أمريكا هي الدولة الأولى في العالم، وهي زعيمة الدول الرأسمالية، وحاملة لواء نشر المبدأ الرأسمالي.

وقد بدأت أمريكا العمل لنشر الرأسمالية، منذ أن خرجت للعالم كدولة مستعمرة، حيث الاستعمار بصوره القديمة والجديدة هو طريقة نشر هذا المبدأ.

ولكن الذي جد بعد تفرّد مبدئها دوليًّا هو أنها صارت تعمل لتفرده عالميا. فكما نجحت بمساعدة الدول الرأسمالية الأخرى في جعل الرأسمالية أساس العلاقات والأعراف الدولية، فإنها تريد الآن جعلها دين أمم وشعوب الأرض كلها، بحيث يعتنق الناس عقيدتها، ويجعلون أفكارها مفاهيم ومقاييس وقناعات لهم في سائر نواحي الحياة، ولا يكتفون بتطبيقها كأنظمة وقوانين.

وإذا كانت أميركا قد سعت لجعل المبدأ الرأسمالي أساس العلاقات والأعراف والقوانين الدولية منذ إنشاء الأمم المتحدة، حين جعلت الأعراف الرأسمالية الأساس الرئيس لميثاق هذه المنظمة الدولية، إلا أنها لم تنجح عمليًا في تحقيق هذا الهدف، حين كان الاتحاد السوفيتي يقود المعسكر الشرقي على أساس الاشتراكية، وتمكن من فرض وجود مبدئه دوليّا وعالميًّا.

فقد تمكنت موسكو من الحيلولة دون انفراد الرأسمالية دوليا، مستغلة ما كانت تعانيه الأمم والشعوب المستعمرة من شقاء وعبودية نتيجة لطغيان الدول الغربية المستعمر وظلمها وجشعها. إذ شنت حملة ضاربة على امتداد العالم كله، صورت فيه الاستعمار بوجهه الحقيقي البشع، رابطة بين الاستعمار وبين  الرأسمالية، مبينة أن السبيل للتخلص من الاستعمار هو من خلال الثورة الاشتراكية.

ونجحت هذه الحملة أيما نجاح، بحيث صارت الشعوب تطمح للاشتراكية ، وصارت الدول التي تستقل ، وتتخلص من الاستعمار بوجهه القديم، ترفع شعار الاشتراكية.

غير أن أميركا أدركت خطر الاستعمار بوجهه القديم على الغرب كقوى دولية على الرأسمالة كمبدأ. ولذلك عملت بدهاء على احتواء توجه الأمم و الشعوب نحو الاشتراكية، وصارت هي نفسها تساعد هذه الأمم والشعوب في التخلص من الاستعمار الأوروبي دي الوجه السافر، وتفيد الدول المتخلصة منه بنوع جديد خبيث من الاستعمار ، يقوم على الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية غير المباشرة، التي تجسدت في معاهدات وأحلاف عسكرية، واتفاقات أمن متبادل، ومعونات اقتصادية ومالية، واتفاقات ثقافية. وبذلك حل الاستعمار الجديد محل الاستعمار القديم، وتحت أعلام الاستقلال والتحرر.

على أية حال، فإنه بسقوط الاتحاد السوفيتي ومعه الاشتراكية، خلا المجال الدولي للرأسمالية، ولم تعد هناك أية مقاومة لتفرد الرأسمالية دوليا.

ولهذا فإن الأمم المتحدة التي ظلت منذ الأربعينات مجرد منبر للخطابة، وليس لها أية فاعلية حقيقية بفضل ( الفيتو السوفيتي) ، تحولت الآن إلى جهاز دولي هائل له سلطانه الدولي، وأصبحت أداة مهمة في تعزيز هيمنة أميركا من جهة، وفي ترسيخ الأعراف الرأسمالية كقوانين دولية ملزمة من جهة أخرى. ولهذا فإن الأمم المتحدة التي ظلت منذ الأربعينات مجرد منبر للخطابة، وليس لها أية فاعلية حقيقية بفضل (الفيتو السوفيتي)، تحولت الآن إلى جهاز دولي هائل له سلطانه الدولي، وأصبحت أداة مهمة في تعزيز هيمنة أميركا من جهة، وفي ترسيخ الأعراف الرأسمالية كقوانين دولية ملزمة من جهة أخرى.

الأمة الإسلامية هي العقبة الوحيدة أمام الحملة الأمريكية لعولمة الرأسمالية

أما الحملة الأمريكية العالمية لجعل الرأسمالية مبدأ لكل أمم وشعوب الأرض، فإنها لا تواجه أية مقاومة إلا في العالم الإسلامي.

وذلك لأن باقي أمم وشعوب الأرض إما أنها تعتنق الرأسمالية أصلا، كما هو شأن أمريكا وأوروبا الغربية وفروعها في كندا وأستراليا ونيوزيلاندة، وإما أنها تخلت عن الاشتراكية وبدأت صياغة حياتها على أساس الرأسمالية، كما حال روسيا وباقي دول ما كان يعرف يعرف بالمعسكر الشرقي، وإما أنها لا تزال ترفع شعارالاشتراكية شكلا ولكنها لا تؤمن بها وتتحول تدريجيا ودون إعلان إلى الرأسمالية، مثلما هو حاصل في الصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا، أو أنها أمم وشعوب ليس لديها مبدأ أصلا ولا تجد في الرأسمالية خصما عقيديا ،كما هو الحال بالنسبة لأمم وشعوب أمريكا اللاتينية، ومعظم أممم وشعوب الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا وأفريقيا.

وحدها الأمة الإسلامية بين أمم العالم غير الرأسمالي التي لديها مبدأ تعتنقه، رغم أنها لا تعيش عليه ولا تحمله للعالم في الوقت الحاضر.

ولهذا ، فإن الحملة الأمريكية لعولمة الرأسمالية لا تواجه مقاومة حقيقية إلا في العالم الإسلامي. ومع أن الدول القائمة في العالم الإسلامي كلها لا تطبق الإسلام – وإن إدعى بعضها تطبيقه- وتطبق الرأسمالية بشكل ممسوخ، إلا أن الأمة الإسلامية، لاتي لم تنته بهدم دولة الخلافة، أخذت منذ بداية خمسينات هذا القرن تتحسس طريقها للنهوض على أساس الإسلام، وبدأت تتحرك لبناء حياتها على أساسه، متطلعة لإنقاذ العالم به، رغم ما هي فيه من تجزئة، أحدثها الكفار قبل هدم الخلافة وبعده، ورغم أن حكامها عملاء للكفار ، يحرصون على أوضاع الكفر التي أقامها الغرب في بلاد المسلمين، وسهرون على خدمة مصالح الغرب وتوطيد نفوذه ويسيرون في كل سياساتهم الداخلية والخارجية وفق توجيهاته وأوامره.

وبالرغم من أن نهضة الأمة لم تكتمل بعد، وتسير ببطء شديد نتيجة لما يلاقيه العاملون لها من بطش الحكام العملاء وتنكيلهم، ولما أشاعه هؤلاء الحكام من أجواء القمع والإرهاب ، وبسبب خطط الكفار التي ينفذها هؤلاء العملاء ضد شعوبهم لإبقائها ترزح تحت نير الكفر، إلا أن الغرب الكافر، وعلى رأسه أمريكا يخشى اكتمال نهضة الأمة، وعودة المسلمين أمة من دون الناس، تعيش ضمن كيان واحد هو دولة الخلافة، التي ستستأنف حمل رسالتها للعالم، لإنقاذه مما يتردى فيه من شقاء واضطراب وانحلال نتيجة لهيمنة الرأسمالية وقيمها المادية النفعية عليه، مما حوله إلى غابة لا أمان فيها ولا اطمئنان ، رغم كل المنجزات العلمية والمدنية التي وصلت إليها البشرية. فالغرب الكافر لا يزال يذكر كيف حول الإسلام العرب من قبائل متناحرة تعيش في هامش التاريخ إلى أمة متميزة ذات حضارة، أشرق العالم بنورها، وتمكنت خلال فترة زمنية قصيرة من أن تصبح سيدة العالم، وظلت كذلك حوالي عشرة قرون ، ونشرت خلالها العدل والأمن والقيم السامية والرخاء في كل مكان رفرفت فوقه رايات الخلافة. ولذلك فهو يخشى أن تعيد الأمة الإسلامية الكرة، وتقضي على نفوذه ومصالحه ليس فوق أرضها وحسب، بل وفي كل أرجاء المعمورة.

وفي ضوء إدراك أمريكا والغرب لهذه الحقيقة، فإن الحملة الأمريكية تستهدف الأمة الإسلامية بالدرجة الأولى ، رغم عالمية هذه الحملة. وأنه وإن كان لهذه الحملة دوافع أخرى من بينها الجشع الرأسمالي وطمع أمريكا والغرب في ثروات بلاد المسلمين، وما تتمتع به هذه البلاد من مزايا جغرافية استراتيجية، وكونها سوقا كيرة لمنتجات الغرب ومصدرا للمواد الخام الضرورية لصناعاته، إضافة إلى ما فيها من احتياطات نفطية هائلة حيوية لحياته، إلا أن الدافع الرئيس لهذه الحملة هو الخطر الكامن في الأمة الإسلامية على مصالح هذا الغرب ونفوذه الدولي ، بل وحتى وجوده ذاته، عندما تستيقظ الأمة الإسلامية وتنهض وتحمل رسالتها للعالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *