العدد 109 -

السنة العاشرة – صفر 1417هـ – حزيران 1996م

الملف السياسي وجوب وضرورة العمل السياسي

الملف السياسي

وجوب وضرورة العمل السياسي

بقلم حامد عبد الكريم

السياسة هي رعاية شؤون الأمة بأحكام الإسلام، ومعالجاته داخليا وخارجيا، وتكون من قبل الدولة والأمة، فالدولة هي التي تباشر هذه الرعاية عمليا، والأمة هي التي تحاسب بها الدولة، وهذا التعريف للسياسة عام عند جميع الناس، إذ هو وصف لواقع السياسة من حيث هي ، فهو كتعريف العقل، وتعريف الصدق، وتعريف السلطان، وغير ذلك من المعاني التي هي واقع موجود عند جميع البشر، بمعنى واحد لا يختلفون فيه لأنه واقع مدرك وإنما يختلفون في أحكامه . وفوق ذلك معناها اللغوي في مادة : ساس يسوس سياسة بمعنى: رعى شؤونه، قال في القاموس المحيط : ” سست الرعية سياسة : أمرتها ونهيتها ” . وهذا هو رعاية شؤونها بالأوامر والنواهي، وأيضا فإن الأحاديث الواردة في عمل الحاكم والواردة في محاسبة الحاكم، والواردة في الاهتمام بمصالح المسلمين، يستنبط من مجموعها هذا التعريف.

فقوله صلى الله عليه وسلم : ” ما من عبد استرعاه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ” . وقوله صلى الله عليه وسلم : ” ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة” . وقوله صلى الله عليه وسلم : ” ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف فقد بريء ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال : لا ، ما صلوا ” وقوله عليه السلام : ” من أصبح وهمه غير الله ، فليس من الله ، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين ، فليس منهم ” وعن جرير بن عبدالله قال : ” بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم” . وعن جرير بن عبد الله قال: ” أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي: والنصح لكل مسلم” . فهذه الأحاديث كلها ، سواء ما يتعلق بالحاكم في توليته الحكم ، أو ما يتعلق بالأمة في محاسبة الحاكم ، أو ما يتعلق بالمسلمين في الاهتمام بمصالح بعضهم البعض ، والنصح لهم ، كلها يستنبط منها تعريف السياسة بأنها رعاية شؤون الأمة، فيكون تعريف السياسة تعريفًا شرعيًا مستنبطاً من الأدلة الشرعية.

وعلى ذلك ومن مجموع الأدلة الشرعية، فإن السياسة من صميم الإسلام، والاهتمام بها والاشتغال بها فرضٌ على المسلمين سواء المتعلق منها بالسياسة الدولية (الخارجية) أو السياسة المحلية (الداخلية). فالاشتغال بهما فرض كالجهاد، لأن رعاية شؤون الأمة الإسلامية يجب أن تكون بأحكام الإسلام ومعالجته من قبل الدولة، قال تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). وقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وغيرها من الآيات والأحاديث الكثيرة التي تدل على دلالة قاطعة على وجوب رعاية الدولة شؤون الأمة بالإسلام، وتنظيم علاقتها بناءً على ذلك.

وأما الأمة الإسلامية فهي تحاسب الدولة على رعايتها لشؤون الأمة، حسب أحكام الإسلام. فالمحاسبة السياسية للحاكم فرضٌ على المسلمين. وقد تضافرت النصوص الشرعية التي تبين ذلك، وسيأتي بيانها. ولقد كان اهتمام المسلمين بالسياسة والعمل بها من أول يوم بُعث فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث بدأ بإنشاء تكتل سياسي في مكّة ثم خرج بهذا التكتل ليواجه به نظامًا سياسيًا جاهليًا كأنظمة الحكم الحالية، ففضح زعماءه وكافحهم عليه السلام كفاحًا سياسيًا شديدًا، بالإضافة إلى الصراع الفكري لعقيدة الكفر في مكّة، وبينما كان المسلمون في مكّة يبذلون أقصى طاقاتهم لتغيير نظامها الفاسد، كانت الآيات تنزل في كل من الروم والفرس، ومن سيغلب الآخر، ومتى، وفي ذلك دلالة كبيرة على اهتمام الإسلام بالسياسة، ووجوب اهتمام المسلمين بالسياسة الدولية أيضًا والعلاقات بين الدول، فقد قال جل ذكره: (آلم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعدُ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: ” الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أُنزل على نبيكم، فكيف غلب المجوس الروم، وهم أهل كتاب فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فأنزل الله (آلم، غلبت الروم) وهذا يدل على أن المسلمين في مكة حتى قبل إقامة الدولة الإسلامية، كانوا يجادلون الكفار في أخبار الدول وأنباء العلاقات الدولية. ويروى أن أبا بكر رضي الله عنه راهن المشركين على أن الروم سيغلبون، وأخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فأقره الرسول على هذا، وطلب منه أن يمدد الأجل. وهو شريكه في الرهان. مما يدل على أن العلم بحال دول العصر، وما بينها من علاقات أمر قد فعله المسلمون وأقره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا أُضيف إلى ذلك أن الأمة التي تحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم لا يتيسّر لها حمل الدعوة إلى العالم إلاّ إذا كانت عارفة بسياسة العالم بشكل عام وسياسة كل دولة نريد حمل الدعوة إلى شعبها أو ردّ كيدها عنا، ولذا تكون تلك المعرفة فرض كفاية على المسلمين، لأن حمل الدعوة فرض ودفع كيد الأعداء عن الأمة فرض، وهذا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بمعرفة سياسة العالم، وسياسة الدول التي تعني بعلاقاتها لدعوة شعبها للإسلام أو لردّ كيدها، والقاعدة الشرعية ” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”. لذلك كان الاشتغال بالسياسة الدولية فرضا على المسلمين. يقول القاضي تقي الدين النبهاني: ” لمّا كانت الأمة الإسلامية مكلفة بحمل الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة، كان فرضا على المسلمين أن يتصلوا بالعالم اتصالاً واعياً مدركاً لمشاكله عالماً بدوافع دوله وشعوبه، متتبعاً الأعمال السياسية التي تجري في العالم، ملاحظاً الخطط السياسية للدول في أساليب تنفيذها وما يتعلق بها، لذلك كان لزامًا على المسلمين لزوم الهواء والماء، أن يدركوا حقيقة الموقف الدولي والموقف في العالم الإسلامي، ليتسنى لهم أن يتبينوا ما يتعلق بإقامة دولتهم وسط هذا الوضع الدولي الصاخب، وليتمكنوا من حمل دعوتهم إلى العالم بالجهاد، وما يتعلق به من الأعمال السياسية والحركا المقصودة قبل القتال، وهذا فرض كفاية على المسلمين وهو والجهاد سواء بسواء، فإذا خلا المسلمون ممن يشتغل بالسياسة الدولية والمحلية، وإقامة ذلك الفرض فقد أثموا جميعًا. هذا بالنسبة للسياسة الدولية.

وجوب الاهتمام بالسياسة الداخلية

أما بالنسبة للسياسة المحلية، فإن الاشتغال بأمور المسلمين العامة، والاهتمام بحال المسلمين من حيث إدارة الحكم والسلطان لهم أمر فرضه الله عليهم، وحرّم عليهم تركه. فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلغ من حثه الاهتمام بأمر المسلمين أن اعتبر من لم يقم به كأنه ليس من المسلمين، حيث قال: ” من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”. وقد بلغ من التحريض على مراقبة الحاكم في توليه شؤون المسلمين والاهتمام بأعماله التي يرعى بها شؤون الرعية، أن جعل كلمة الحق لدى الحاكم الجائر أفضل الجهاد، وكلمة الحق هذه تعني الاشتغال بأمور المسلمين العامة والاهتمام بشؤونهم، ولذلك جاء في الحديث الشريف: “من رأى سلطانًا جائرًا ناكثًا لعهد الله مستحلا لحرم الله عاملاً في عباد الله بالإثم والعدوان، ولم يُغيّر عليه بقول ولا فعل كان حقًا على الله أن يُدخله مُدخله”. والتغيير عليه بقول أو فعل هو الاشتغال بالسياسة المحلية. ومن ذلك يتبين أن السياسة فرض كفاية على المسلمين، فإن لم يرتدع الحاكم عن فسقه أو كفره أو ظلمه فإن محاسبته تبقى فرضًا عينيًا على المسلمين، يأثمون جميعًا بتركه، وكلما ابتعد المسلمون عن السياسة والعمل السياسي ضد زلل وانحراف الحكام كلما زاد تلاعب الحكام بهم كما يشاءون، وفي الوقت الذي يشاءون، ولقد وصلت الأمة من جرّاء خوفها من العمل السياسي ضد الحاكم وضعًا لا تُحسد عليه، ابتداءً بهدم دولتهم، دولة الخلافة الإسلامية، سنة 1924م، إلى تقسيمها إلى بضع وخمسين دويلة، إلى احتلا بلادهم وإلى تذبيح نفوسهم وإلى هتك أعراضهم وإلى طعن قلب المسلمين ببناء قاعدة للكفر في بلاد الشام متمثلة بيهود أذلّ خلق الله، وانسياق نظام الكفر في الأردن وراء أوامر أسياده اليهود والغرب الكافر، كيف لا، فمنذ أن هدمت الخلافة وطُبقت أنظمة الكفر السياسية في البلاد الإسلامية، انتهى الإسلام من كونه سياسيًا، وحل محله الفكر السياسي الغربي المنبثق عن عقيدة المبدأ الرأسمالي، عقده فصل الدين عن الحياة، ومما يجب أن تُدركه الأمة الإسلامية أن رعاية شؤونها بالإسلام لا تكون إلاّ بدولة الخلافة، وأن فصل الإسلام عن الحياة وعن الدولة هو وأد الإسلام، وأنظمته وأحكامه، وسحق للأمة وقيمها وحضارتها ورسالتها.

والدول الرأسمالية تتبنى عقيدة فصل الدين عن الحياة، وعن السياسة، وتعمل على نشرها وتطبيقها على الأمة الإسلامية وتعمل على تضليل الأملة وتُصور لها بأن السياسة والدين لا يجتمعان وأن السياسة إنما تعني الواقعية والرضا بالأمر الواقع مع استحالة تغييره، حتى تبقى الأمة رازجة تحت نير الكفر ودول الظلم والطغيان، وحتى لا تترسم الأمة بحال سبيلا إلى النهضة بالإضافة إلى تنفير المسلمين من الحركات الإسلامية السياسية، ومن الاشتغال بالسياسة. ولذلك كان لا بد من أن تدرك الأمة التستر من وراء محاربة الدول الكافرة والحكام العملاء للحركات الإسلامية التي تعمل لإنهاض المسلمين بإقامة دولة الخلافة ، وتضرب أفكار الكفر وتعيد مجد الإسلام.

‘ن الأمة الإسلامية ، وهي تعتنق  العقيدة الإسلامية، فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، وعقيدة سياسية، وقاعدة فكرية، وقيادة فكرية،ووجهة نظر معينة في الحياة، يجب عليها وهي ترى العالم كله، وهي معه كذلك، يتخبط هذا التخبط، ويرزخ تحت نير الظلم السياسي والاقتصادي، ويخضع لعبودية قوة غاشمة، ويئن تحت كابوس الشقاء والاستعباد والإذلال، فإنه فرض عليها أن تأخذ على عاتقها مهمة إنقاذ العالم وإخراجه من ظلمات الضلال والتضليل إلى نور الهدى وسعادة الحياة.

ولا بد من ربط قضية وجوب اشتغال الأمة بالسياسة وبشؤونها كأمة إسلامية، لا بد من ربط ذلك كله بالقضية المصيرية للأمة الإسلامية ألا وهي استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الإسلامية الراشدة وإعادتها إلى الوجود ثانية ، لأن وجودها وجود للأمة، وعدمها عدم للأمة كذلك، فينبغي التذكرير، وحث المسلمين على جعل هذه القضية قضية مصيرية أي قضية حياة أو موت وأنه لا حل لهم إلا بعودة الإسلام إلى الوجود السياسي ثانية. وإن ترك السياسة، والبحث فيها والعمل من خلالها لما فيه نهضتهم وتحررهم من سيطرة الغرب وأذنابهم أو حصر ذلك بالحاكم كما يريد الطغاة، لهو انتحار وأي انتحار ، لذلك كان اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم العمل السياسي قضية مصيرية يتوقف على ثبات المسلمين عليها قيام شرع الله، وأن تقوم للمسلمين قائمة في هذا العالم، و لذلك كان رده حازما وجازما لكفار قريش حيث قال : فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة”.

وإن ترك الحكام وعدم محاسبتهم من قبل المسلمين هو الذي أدى إلى تمادي الحكام ومن ورائهم دول الكفر إلى الاستهتار بهم ونهب خيراتهم وظلمهم وتمزيقهم دويلات شتى وهدم دولتهم الإسلامية التي كانت ترعى شؤون المسلمين بأحكام الإسلام حق الرعاية، وهو الذي أدى إلى تنفيذ الكافر مؤامراته على بلاد المسلمين عبر عملاته بلا محاسبة سياسية من قبل الأمة، والتي لو كانت تدرك أ، حياته وبقاءها كأمة إنما يكون بتطبيق مبدئها والمحاسبة على تطبيقه، لما كان الحال هكذا من الذل والهوان وارتماء الحكام في أحضان الغرب واليهود . ولا حول ولا قوة إلا بالله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *