العدد 111 -

السنة العاشرة – ربيع الآخر 1417هـ – أيلول 1996م

بريد الوعي رسالة إلى علماء الإسلام

بريد الوعي

رسالة إلى علماء الإسلام

بقلم: رائد عبد الله

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

لا يستطيع أحد منكم إنكار سوء الواقع الذّي تمرّ به أمّة الإسلام وبلاد المسلمين، فلقد سمع القاصي والدّاني بذبح المسلمين في بقاع شتّى وباغتصاب أراضي المسلمين في أنحاء مختلفة وبخيانات عظمى يرتكبها الزّعماء هنا وهناك، وبمؤامرات هائلة يقصد الكفّار منها تدمير الإسلام وإبادة أهله.

هذه الهجمة الشيطانيّة الشرسة التّي لا تزيدها الأيّام سوى شدّة وتعاظم وخبث، يجب أن تضعكم وجها لوجه أمام مسؤوليّاتكم الجسيمة التّي ألقاها الله عزّ وجلّ على عاتقكم، ولن ينفعكم التهرّب من أداء الواجب في الدنيا والآخرة.

تقتضي الأمانة القول بأنّه قد وجد علماء سوء أيّام الخلافة الأمويّة وكذلك الخلافة العبّاسية، لكن السلطان الذّي كانوا يلتفّون حوله كان سلطانا إسلاميّا على كلّ حال ولو أنّه قد أساء تطبيق بعض جزئيّات الإسلام. في الوقت ذاته، كانت هناك نماذج مشرقة من علماء أفذاذ كانوا لا يخشون في الله لومة لائم حين يصدعون بالحقّ وكانوا يحاسبون الحكّام بمنتهى الجرأة، لا يغريهم متاع ولا يخيفهم تهديد. كانوا يريدون من الخليفة أن يكون في القمّة، ولذلك كانوا يوجّهون له النقد اللاّذع على أقلّ خطأ.

في أيّام هارون الرّشيد، كانت الدّولة خلافة إسلامية تطبّق الشرع وأمان هذه الدّولة بأمان المسلمين. كان الخليفة هارون الرّشيد شديد البكاء عند الموعظة سريع التّراجع عن الخطأ، وكان يغزو عاما ويحجّ عام طوال خلافته (التّي وصفت بأنّها أيّام عرس دائمة) ومات مرابطا. ومع ذلك لم يطق العلماء الصبر على هفوة أو هفوتين منه وناله منهم التوبيخ الثقيل.

لا يوجد في حكّام اليوم أيّ حاكم يمكن أن يصل إلى مستوى هارون الرّشيد ويتقازمون جميعا أمام ما يمثّله هذا الخليفة. حكّام المسلمين اليوم مجرّد أدوات رخيصة في أيدي الدول الكبرى ولا يملكون من أمرهم شيئا في حقيقة الأمر. فرضهم الكافر فرضا على رقاب المسلمين وعهد إليهم بثلاث مهمّات:

  1. تطبيق أحكام الكفر على المسلمين ومنع الأحزاب الإسلاميّة المخلصة من العمل.

  2. الإبقاء على تجزئة البلدان الإسلاميّة والحيلولة بينها وبين الوحدة.

  3. حماية مصالح الكفّار في بلدان المسلمين وضرب كلّ محاولات امتلاك الإرادة التّي قد تهدّد دوام

السيطرة الاستعمارية لهؤلاء الكفّار.

حيث أن واقع الحكام الحاليين هو هكذا، فإنّكم موضوعون في اختبار صعب فيه يتحوّل الخطأ إلى خطيئة والزلّة إلى زلزال. يريد منكم هؤلاء الحكّام – المفتقدون للشرعيّة – قلب الحقائق وتزوير المفاهيم وتضليل النّاس، فإن أطعتموهم أسخطتم ربّكم واستحققتم خزي الدّنيا وعذاب جهنّم لأنّكم ساعدتم الكفّار على باطلهم مساعدة كبيرة وعملتم ضدّ أمّتكم عملا من شأنه إطالة عمر شقائها تحت أنظمة الطاغوت. لطالما بحث عملاء الكفّار عن علماء تتلاعب بهم الأهواء ويحرصون على حطام هذه الدّنيا الفانية ويسيل لعابهم لدى وجود إغراء  بمال أو بمنصب أو بشهرة. مثل هؤلاء العلماء الكذبة هم بغية الكافر ومنتهى رجائه لأنّهم سيضفون نوعا من الشرعيّة على نواطيرهم باستعدادهم لتفصيل الفتوى على المقاس الذّي يخدم أهداف سياستهم، وبالتّالي سينالون حظوة الحكّام وتسلّط عليهم الأضواء المبهرجة.

عندما يكون العالم قابلا للرشوة، يرى النّاس منه العجب العجاب في تزيين صورة الحكّام، فإن صلّى الزّعيم تظاهرا (وربّما بدون طهارة) وصفه العالم بالمؤمن، وإن شنّ الطاغية حربا قذرة على الحركات العاملة للإسلام فسيبرّر العالم ذلك بقوله: “إنّ هذه الحركات متطرّفة تشوّه صورة الإسلام السمحة وقد يخرجها من الملّة إن كانت تلك رغبة الحاكم دافع الأجرة.

سيقول العالم المرتشي للنّاس إنّ حاكمكم يطبّق الإسلام على اعتبار أنّ دستوره ينصّ على أنّ دين الدّولة هو الإسلام. وسيشهد شهادة زور على أنّ الحاكم يلتزم بالعبادات وأخلاقيات الشريعة ويبني بيوت الله ولكنّه يأخذ بروح النّصوص الفقهيّة ولا يتشدّد بإتباع حرفيّة النّصوص لأنّ الزّمان قد تغيّر والحاكم ذو فطنة قادر على استيعاب المستجدّات.

يعرف علماء السلاطين في قرارة أنفسهم أنّهم يساندون زعماء وصلوا إلى السلطة بدعم الدّول الكبرى الكافرة وأنّ قوانين الزّعماء تبيح المنكرات وتشجّعها وأنّ ثروات المسلمين منهوبة للدّول الاستعماريّة بفضل عملائهم الذّين ينالهم فتات ينفقونه على الشهوات الدنيئة.

ماذا يقول علماء السّلاطين لأنفسهم حين يكونون في خلوة؟ أيقولون لها إنّهم يضحكون على الحكّام وهم الأهزوءة لهم؟ أم يقولون لها إنّ قربهم من السّلطان سيقود إلى تغييره وهو العصىّ على الإصلاح؟ أم يقولون لها إنّ سيرهم مع الجلاّد قسريّ سببه الخوف من بطشه وجبروته وفي هذا نوع  من العذر لهم؟

القول الأخير عذر أقبح من ذنب، فالعالم يجب أن يمتلك عقيدة راسخة تجعله يؤمن باللّه إيمانا حقيقيّا فيستشعر عظمة الخالق إلى درجة تجعل المرء لا يهاب سواه. لقد كان السّحرة مؤمنين جددا حين خاطبوا فرعون (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذّي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنّما تقضي هذه الحياة الدّنيا).كانت هممهم عالية تتحمّل تبعات الإيمان فالأجدر منهم بذلك أولئك الذّين قال الله سبحانه عنهم (.. إنّما يخشى الله من عباده العلماء إنّ الله عزيز غفور).

قد يقول أحد العلماء مبرّرا: “خيّرتني السّلطة بين فتح المجال للوعظ والإرشاد مع قليل من المديح والمراعاة أو الطمس والتهميش والاعتقال عند مهاجمة الحكّام، فبحسب قاعدة (أخفّ الضررين) قرّرت الأخذ بالخيار الأوّل سائلا الله المغفرة. لمثل هذا الشّخص يقال حديث رسول الله r (سيأتي على النّاس زمان يخيّر فيه الرّجل بين العجز والفجور فمن أردك ذلك الزّمان فليختر العجز على الفجور) رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وصحّحه السيّوطي.

يروى عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه قوله (قصم ظهري رجلان: جاهل متنسّك وعالم متهتّك) وذلك لأنّ عامّة النّاس ستنخدع من هذا العالم المجرم، وهذه الخديعة تجر كوارث وويلات.

قالوا رتبة العلم أعلى الرّتب فالعلماء ورثة الأنبياء، وحين يكون رجل على قمّة العلم الرّفيعة فإنّ عليه الصّمود في وجه أعتى الأعاصير. إذا ما سقط العالم من هبة نسيم فإنّه يهوي على سطح حادّ يهل الانزلاق متعسّر الصعود، لذلك لا ترى العالم المنهار إلاّ وهو يسير من انحدار إلى انحدار أعمق منه. قد تكون بداية النزول كلمة إطراء لحاكم، ثم منصبا قذرا، ثمّ منصبا أشدّ قذارة، ثمّ عمل استخبارات، ثمّ ماسونيّة وانحلالا تامّا. هذا النّوع من العلماء شبّههم الله عزّ وجل بالكلب حين ذكر عالما انسلخ من الولاء لله (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف 176].

هل تصدّقون أنّ عالم سوء قد سهل إزالة الخلافة العثمانيّة؟ لقد اشترى الكفّار شيخ الإسلام المعاصر للسلطان عبد الحميد فأصدر فتوى خلع السلطان التّي قرأها الوفد (الذّي كان يرأسه إمانوئيل قراصوه وسلمون إبران) على مسامع الخليفة. هذا دليل واضح على خطورة هذه النوعيّة من العلماء، ولذلك ينبغي أن يكون هنالك عمل دءوب في الأمّة من أجل جعلها تتّبع الأفكار لا الأشخاص. يجب حثّ الأمّة على السؤال عن الدليل الشرعي الأقوى في حكم المسألة المطروحة، ومن المهم تنمية ارتياب النّاس من رجال تمنحهم النّظم فرص الظهور على شاشات التلفاز ومن خلال احتكار أعمدة الصحف. علينا تذكير النّاس بقول أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه (من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت) فالمسلم لا يتعلّق بالأشخاص تعلّق عبادة لأنّه عبد الله وحده.

كان الإمام مالك يعطي دروسه بالقرب من ضريح المصطفى عليه الصّلاة والسّلام فقال لتلامذته يوما (كّل النّاس يؤخذ من قوله ويردّ عليه إلاّ صاحب هذا القبر) فالعصمة لا تكون إلاّ للنبي، أمّا بقيّة البشر فهم قابلون للخطأ وحتّى الانحراف بالكليّة. قال عزّ وجل (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) ) [القيامة]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *