العدد 130 -

السنة الثانية عشرة – ذو القعدة 1418هـ – آذار 1998م

الجماعة والتفرق والاختلاف

الجماعة والتفرق والاختلاف

بقلم: عبد الرحمن العقبي

فرض الله سبحانه الجماعة وحرّم التفرّق، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا)، قال في القاموس والجميعُ ضد المتفرّق، وقال ابن جِنّي في الخصائص قال القطامي:

وفيما قد مضى كانَ اعتبارُ

 

فـيا قـومٌ هَلُــمَّ إليّ جميع

ونغدو عن مدائنهم فطاروا

 

ألم يُخْزِ التفرقُ جُنْدَ كِسرى

وقال ابن كثير في تفسيره “ولا تفرّقوا” أمرهم بالجماعة نهاهم عن التفرقة. وقال عليه وآله الصلاة والسلام من حديث آبي هريرة الذي أخرجه مسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تُناصِحوا من ولاّه اللهُ أمْرَكم…» وأخرج أحمد في مسنده من حديث النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «… والجماعة رحمة والفرقة عذاب»، وعن عبد الله بن عمر عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنة فليزم الجماعة».

والجماعة لا تكون إلا رجل هو الخليفة أو الإمام. هذا ما دلت عليه الأحاديث وما فهمه الصحابة والعلماء من بعدهم، أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية»، فعدم الصبر على الأمير وخلع طاعته مفارقة للجماعة، لأن الصبر المأمور به هو الصبر على الطاعة. وأخرج مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية». فالخروج من الطاعة مفارقة للجماعة، وأخرج أحمد في مسنده عن فضالة بن عبيد الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً…» فمعصية الإمام مفارقة للجماعة، وجاء في حديث حذيفة بن اليمان الذي كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر… قلت: «فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام» فقرن الجماعة بالإمام، وفي حديث عرفجة الذي أخرجه الطبراني في الكبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرّق جماعتكم فاقتلوه». ومن أفهام الصحابة رضوان الله عليهم أن الجماعة لا تكون إلا بالخليفة ما أخرجه الدارمي في سننه عن تميم الداري قال: (تطاول الناس في البناء في زمن عمر فقال عمر: يا معشر العريب الأرضَ الأرضَ، إنه لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوّده قومُه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوّده قومُه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم). ومنها ما أخرجه الطبري في تاريخه (أن عمرو بن حريث سأل سعيد بن زيد: أَشَهِدْتَ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة). فعمر حصر وجود الجماعة بالإمارة، وسعيد اعتبر أن الجماعة قائمة ببيعة أبي بكر. ومن الفقهاء الذين فهموا هذا الفهم الماوردي في الحاوي الكبير قال: “… فتمت بيعة أبي بكر قبل جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أُخذ بعدها في جهازه لئلا يكونوا فوضى على غير جماعة لتنطفئ بها فتنة الاختلاف…” ومنهم عبد الله بن المبارك فقد أورد ابن مفلح في الآداب الشرعية على لسان ابن المبارك الأبيات التالية:

منه بِعُرْوَتِهِ الوُثْقى لِمَـنْ دانا

 

إنّ الجماعةَ حبلُ اللهِ فاعتصموا

في ديننـا، رحمةً منه، ودُنيانا

 

كمْ يدفعُ اللهُ بالسلطانِ مُعْضِلَة

وكـان أضعفُنا نَهْباً لأقْوانا

 

لـولا الخلافةُ لم تأمنْ لنا سُبُلٌ

فالجماعة التي فرضها الله علينا ليست مطلق جماعة أو حزب أو تكتل، بل هي الجماعة على الخليفة، على أمير المؤمنين، على الإمام، وهناك تلازم بين الخليفة والجماعة، وجوداً وعدماً، فتوجد بوجوده وتنعدم بغيابه، وحكمها كإقامة الخليفة تماماً إذ هي فرض كفاية توجد ببيعة الانعقاد، وفرض عين تتم ببيعة الطاعة، أي يتم الانتماء للجماعة ببيعة الطاعة، وبيعة الطاعة هذه فرض عين لقوله صلى الله عليه وسلم: «… ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، وتكون بالبيعة فعلاً أو بإضمار البيعة والطاعة، وهذا ما يجعل البيعة في عنق المسلم. وإطلاق لفظ (جماعة) دون (أل) العهد على تكتل أو حزب سائغ في اللغة لأن (جماعة) و(حزب) كليهما وضعٌ تكتلي وجمعٌ لمتفرق، إلا أن لفظ (الجماعة) المحلي بأل العهد يقصد منه فقط الجماعة على الخليفة. وإيجاد كل من الكيانين فرض على المسلمين لكن بأدلة مختلفة، فأدلة الجماعة لا تصلح للاستدلال على وجوب إيجاد الحزب، وكذلك فإن الجماعة لا يجوز أن تتعدد لأنه لا يجوز أن يكون للمسلمين أكثر من خليفة في وقت واحد، بينما يجوز أن تتعدد الأحزاب ويكون لكل حزب أمير. ثم إن صلاحيات أمير الجماعة الذي هو الخليفة تختلف عن صلاحيات أمير الحزب، وعقد كل منهما لازم في حق المأمورين، بخلاف أمير السفر لأن المسافرين وإن كانوا مجتمعين فإن وضعهم ليس كياناً تكتلياً كالجماعة والحزب، فكيان الجماعة وكيان الحزب واجب الإيجاد، أما جماعة المسافرين فليست كياناً يجب إيجاده، بل حين يحصل السفر تلقائياً يجب التأمير المؤقت لكل سفرة، وأيضاً فإن الجماعة ليست هي الأمة، فالجماعة تكون على الخليفة والأمة تكون على فكرة هي العقيدة، فالمسلمون اليوم أمة ولكنهم ليسوا جماعة لأنهم لا إمام لهم. وحتى في ظل الخلافة فإن السامع المطيع يكون من الأمة ومن الجماعة، أما غير المطيع فإنه يكون من الأمة لكنه لا يكون من الجماعة، ولذلك فإن علياً رضي الله عنه أرسل إلى معاوية في صفين مَنْ يدعوه إلى الطاعة والجماعة، مع إقراره هو وأصحابه أن أهل الشام من الأمة، إذ أَذِنَ لهم في الصلاة على عمار مع أهل العراق، واعتبر بعض من قُتِلَ في وقعة الجمل إخواناً على سرر متقابلين، وقال في الخوارج إخواننا بغوْا علينا.

وعَكْسُ (الجميع) الواردة في الآية و(الجماعة) الواردة في الأحاديث هو (التفرّق) الوارد في الآية والأحاديث، وهو حرام، إذ اعتبره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (عذاباً) في حديث النعمان، و(مع الشيطان) في حديث عمر، و(ميتة جاهلية) في حديث ابن عباس وأبي هريرة، و(مدعاة لعدم السؤال عنه) في حديث فضالة، و(أمر بقتله) في حديث عرفجة. والتفرّق هو الخروج على الإمام الواجب الطاعة. وهو غير الاختلاف، فقد يكون المسلم مخالفاً مفارقاً كأصحاب النهروان، وقد يكون مخالفاً طائعاً كالمعتزلة، فالاختلاف إن بقي نظرياً ولم يؤثر على الطاعة بقي صاحبة من الجماعة، وإن أوصل صاحبَه إلى النِّكْثِ والخلع أخرجه من الجماعة. وهذا النوع من الاختلاف هو الذي اعتبره الغزالي منهياً عنه، في كتابه المستصفى وهو الاختلاف على الولاة والأئمة كما قال. والغزالي عنى بالاختلاف على الأئمة الخروج عن طاعتهم لا مجرد الاختلاف في الرأي، إذ الاختلاف معهم في الرأي سائغ، ومخالفة أمرهم حرام، بل إن أمر الإمام يرفع الخلاف بمعنى أنه نافذ. ألا ترى أنه قال: الاختلاف على الأئمة ولم يقل الاختلاف مع الأئمة، فأمر الإمام واجب التنفيذ ما لم يكن معصية، أما رأيه الذي لم يأمر به فإنه غير واجب التنفيذ، ويجوز الاختلاف فيه ومخالفته، والدليل على ذلك إجماع الصحابة الذي حكاه غير واحد منهم الغزالي والآمدي المنقول بالتواتر، وهذا النوع من الاختلاف الذي سوغوه هو الاختلاف في الاجتهادات دون غيرها من المعلوم من الدين بالضرورة، والذي سماه الله في كتابه: العلم والبيّنة.

وهنا قد ترد بعض الشبهات لتحريم الاختلاف كقوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) وقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأََمْرِ) وقوله: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم» وقوله: «المراء في القرآن كفر» والشبهة آتية من إعطاء الاختلاف حكم التنازع واللدد في الخصومة والمراء في القرآن، وهذا خطأ إذ التنازع من أحكام اللقاء لا من أحكام الاختلاف الفقهي، واللدد في الخصومة هو الخصومة بالباطل ولا تكون إلا مذمومة، والمراء في القرآن هو الشك في كونه من عند الله أو دفع آية منه، أما المراء الجدال فجائز بالحق دون الباطل، قال تعالى: (فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *