العدد 133 -

السنة الثانية عشرة – صفر 1418هـ – حزيران 1998م

الحياة الحزبية في المجتمع

الحياة الحزبية في المجتمع

بقلم: أحمد الخطيب-القدس

إن وجود الاختلاف في الأفكار والتباين في الأفهام أمر طبيعي الحدوث في أي مجتمع من المجتمعات، ومن النادر توحد الأفكار والأفهام توحداً مطلقاً، وحتى في زمن النبوة لم يوحِّد الوحيُ كلَّ أفراد المجتمع، ففي حين توحد المؤمنون وانصهروا في بوتقة الدعوة، تخلَّف الآخرون وانقسموا فكرياً وشعورياً، فشطروا المجتمع الواحد إلى مجتمعين بسبب هذا الاختلاف وذاك التباين. وفي أكثر المجتمعات استقراراً نجد التناقض في الأفكار والتعارض في الأفهام أمراً من الأمور البديهية ومسلَّمةً من المسلَّمات التي لا يُماري فيها عاقل.

وهذه المشكلة المزمنة والمعضلة المتواصلة في حياة المجتمعات تكمن في كيفية العيش المشترك لتكتلات من الناس مختلفة فكرياً واجتهادياً، والحل الدائم لهذه المشكلة المعضلة يتمثل في وجود شكل من أشكال التحزب والتكتل والتمحور، والتي تفضي بدورها إلى مظهر من مظاهر الصراع والكفاح والنضال بصوره الفكرية أو المادية، وبأساليبه المنتظمة أو العشوائية.

فجذور الحياة الحزبية وأصولها ضاربة في الحياة البشرية منذ سالف الأزمنة وغابر المجتمعات، ومن هنا كان من العسير بل من المستحيل إلغاء الحياة الحزبية وحمل الناس على التخلي عنها. والحزب لغة هو جند الرجل وصحبه، واصطلاحاً هو تكتل يقوم على فكرة آمن بها أفراده يراد إيجادها في المجتمع. والفكرة في أحسن صورها تكون مبدأً من عند الله -أي تكون إسلاماً- والله سبحانه وتعالى طلب من المسلمين أن يوجدوا أحزاباً تقوم على الفكرة الإسلامية، حيث قال سبحانه وتعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) والصحابة رضوان الله عليهم تكتلوا حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآمنوا بالإسلام وقاموا بالأعمال الحزبية خير قيام، ولكن بعد استقرار الدولة الإسلامية أهمل المسلمون -وللأسف- الحياةَ الحزبية، وإن لم يهملوا الأمور العظام كأعمال الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل ابتلاءهم بالفتن في وقت مبكر من قيام الدولة الإسلامية أصابهم بالدوار، وساهم في تقصـيرهم في الأعمال الحزبية، ومع ذلك فقد وجدت أحزاب سياسية تركز على الحكم والحكام فقط، كالخوارج والشيعة، ثم وجدت فيما بعد أحزاب فكرية منحرفة كإخوان الصفا، وأخرى جدلية عقيمة كالمعتزلة، ما أثّر في تشويه الحياة الحزبية وتلويث العمل الحزبي.

ولم تساعد الظروف التي مر بها المسلمون في استئناف القيام بالعمل لإيجاد أحزاب سياسية مبدئية كحزب صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك تقصيراً من المسلمين كبيراً إن أهملوا في هذا الشأن الخطير.

ومن أجل ترسيخ الحياة الحزبية في المجتمع وتقعيد قواعدها، ولكي يعود العمل الحزبي مؤثراً وفاعلاً وإيجابياً، لا بد من إلقاء الضوء على الحقائق الحزبية العشرة التالية:

وجوب ربط الفكرة المراد إيصالها للناس بالحزب ربطاً محكماً، وذلك بالإشارة إلى أن هذه الفكرة هي من نتاج ذلك الحزب، فلا يدعى للفكرة إلا وهي مقترنة بالدعوة للحزب.

دعوة الأمة بشكل صريح إلى العيش الطبيعي في الحياة الحزبية، وإشعارها بأن الحياة الحزبية والأعمال الحزبية هي أمور لازمة لها لزوم الماء والهواء، ودعوتها لتنفض عن ناظرها الغشاوات الكثيفة التي حجبت عنها الرؤية الصحيحة للعمل الحزبي.

مطالبة الأمة التي احتضنت فكرة الحزب أن تحتضن الحزب نفسه، وأن تساوي بين الحزب وبيـن الفكرة التي يطرحها، كما ويجب إشعارها أن الفكرة لا يمكن لها العيش بدون الحزب الذي يدعو لها.

التركيز على الثقافة الجماعية ومعرفة كون الحزب قَوّاماً على المجتمع، ليأخذ بيده إلى النهوض من كبوته، لذلك فعلى الحزب أن يباشر بتثقيف الملايين بل مئات الملايين بالثقافة الحزبية، ولا يقتصر على الأفراد في التثقيف المركّز، فالمهم هو الأمة بمجموعها وليس أفراداً مختارين منها.

ضرورة استخدام الأفكار الدينامية الحادة والمؤثرة من قبل الحزب مع الناس، وذلك يقتضي مواكبة كل جديد، لإنزال الحكم على واقعه، وربطه بالأساسيات، لأنه بالدينامية فقط يمكن إثارة الجماهير وشد انتباهها وتهييج مركز تنبهها، ومن ثم كسب ولائها.

العمل على تطهير جسم الحزب من الخلايا العفنة التي استشرت فيها عوامل التلويث بشكل دوري، ومن ثم صقل جميع خلايا الحزب بالأفكار المتبناة، بحيث يحافظ كل عضو على جزئيته بكل أمانة وصدق، باعتباره جزءاً من الكل الفكري والشعوري، بحيث يظهر ذلك جلياً عند اتصال الحزب بالأمة في الحياة اليومية، فلا ترى الأمة من الحزب إلا ما تراه في كل عضو من أعضائه.

السعي الدؤوب والمستمر للعمل من أجل تغيير القاعدة الفكرية الخاطئة التي يبني الناس عليها أفكارهم، وذلك بغية تغيير مفاهيمهم ومشاعرهم بشكل تلقائي، بناءً على القاعدة الفكرية المنتجة التي تؤدي إلى انقلابٍ فكري وشعوريٍّ عارم يشارك فيه معظم شرائح المجتمع.

إذا واجه الحزب تنكباً من الأمة بمجموعها أو رفضاً من أكثريتها للحزب ولأفكاره، فعلى الحزب الصبرُ واستمرار قيامه بسقي الأمة بأفكاره بلا يأس ولا إحباط، ولو استمر رفضُ الأمةِ تقبُّلَ الحزبِ فليعاملها معاملة المريض الذي يرفض شـرب الدواء، فعليه أن يستمر في علاجها إلى أن تتقبل الدواء لتشفى، ولا يقسو عليها ويجافيها فتجافيه.

عندما يقابَلُ الحزبُ بالصد الفج من قبل أفراد أو مجموعات مُغْرِضة من الأمة بشكل يظهر فيه العناد والصفاقة فلا يكترثْ، ويستمرُّ في العمل في الأمة متجاوزاً صَلَفَ هؤلاء، ولتكنْ قاعدتَهُ الآياتُ القرآنية الكريمة التالية: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) ، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(، (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ).

علاقة الحزب بالقوى والأحزاب الأخرى:

لا شك بأن الحزب السياسي الذي يتخذ من الإسلام مبدأً له يتلخص عمله بأمرين اثنين هما: الهدم والبناء، فهو يهدم أنظمة الحكم التي لا تطبق الإسلام، ويبني نظام الحكم الذي يطبق الإسلام، وهو يقوم بهذين العملين بشكل صريح ومباشر وواضح، فلا يخفي أهدافه عند قيامه بهذين العملين، بل ويحرم عليه أن لا يصدع بهما، وذلك استجابة لقوله سبحانه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) وتأسياً بأعمال حزب صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك فالحزب المبدئي السياسي الإسلامي لا يقبل التعايش مع الأنظمة الموجودة حالياً، مهما كانت قوية ومهما كان هو ضعيفاً، لأنه لا يملك تغيير طريقة عمله هذه، لأنها من الثوابت الشرعية والمسلَّمات القطعية، فضلاً عن كونها قطعية الثبوت قطعية الدلالة، فهي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتطور ولا تخضع لظروف ولا تتأثر بزمان أو مكان.

هذا بالنسبة للحزب المبدئي الصحيح، أما الأحزاب الأخرى فإنها جميعاً -مهما كانت اتجاهاتها الفكرية ومهما اختلفت مشاربها- وبلا استثناء أضحت ترضى بالتعامل مع الأنظمة الموجودة وتعترف بشرعيتها، ولقد دخلت جميعها في لعبة الديمقراطية والتعددية، وزُجَّ بها إلى داخل إطارات الأنظمة الحاكمة. ومن هنا فإنها لا تسعى لتغيير تلك الأنظمة، بل جل ما تريده هو تغيير الحكومات أو مشاركتها في تشكيل الحكومات الجديدة، فهي لا تستهدف الحكم وإنما تستهدف أشخاص الحكم، وهي قد قبلت عن رضا واختيار بإطار الحكم، والتزمت بتثبيته عندما التزمت بالدستور والميثاق. وحتى الأحزاب التي كانت تدعي بأنها تريد تغيير أنظمة الحكم في الخمسينيات من هذا القرن كالأحزاب الشيوعية وبعض الأحزاب القومية نراها اليوم قد دخلت في بيت طاعة الحكام، واعترفت بالأنظمة القائمة، ومنحتها الشرعية، فتنازلت عن استراتيجياتها وأسسها وثوابتها بحجج ذرائعية واهية متداعية.

وبقي الحزب المبدئي الصحيح وحيداً في الساحة الحزبية، يناضل في كل الاتجاهات، ويكافح في كل المجالات، يعمل في الأمة ومعها وبها بشكل مضاعف، لا تلين له قناة، يواجه أنظمة الحكم ومن يسندها من قوى خارجية دولية كافرة، ويواجه معها القوى الحزبية التي تدعي بأنها قوى معارضة، يواجه الجميع حكاماً ودولاً وأحزاباً وسوقةً، بينما ينتظم أو يحاول هؤلاء أن ينتظموا في إطار موحد تحت ستار الشرعية، فيتقاسمون الأدوار، ولا يفسحون المجال للحزب المبدئي الصحيح أن يعمل بحرية، بحجة أنه خارج عن الإطار وخارج عن الميثاق وخارج عن الشرعية، وعليه أن يخرج من الحياة.

هذه الحقيقة المرة موجودة ومحسوسة، وتبدو كأنها صخرة كأداء صلدة تقف أمام الحزب المبدئي الصحيح، ولكنها سرعان ما تتحطم، وتتلاشى، وذلك عندما يُظْهِر الحزبُ المبدئي الصحيح للأمة أن عمل هذه القوى الحزبية غير المبدئية لم ولن يخدم الأمة في يوم من الأيام، وإنما يخدم أنظمة الطاغوت المراد تغييرها، وعندما يُظْهِر الحزبُ حقيقة هذه القوى الحزبية المصلحية أنها باعت نفسها رخيصة في سبيل الشيطان، عند ذاك تعود الأمة إلى رشدها وصوابها، وترجع إلى حزبها المبدئي الصحيح وهي مصدِّقة بهذه الحقيقة التي انجلت لها بكل وضوح كالتي انجلت من قبل للحزب المبدئي الصحيح.

وعندها فإن الأمة سرعان ما تنقلب على جميع هذه القوى الحزبية المتخاذلة، فتكْفُرُ بالحياة الحزبية الشكلية، وتعود للبحث عن الحياة الحزبية الحقيقية، التي لا تجدها إلا عند الحزب المبدئي الصحيح، الذي يسعى للتغيير الحقيقي، فلا تجد أمامها إلا هو، فتعمل معه للتغيير الجِدِّي الذي سيثمر -بمشيئة الله تعالى- حكماً مبنياً على الفكرة الصحيحة، فتنهض الأمة، وتقام الدولة، ويُبنى المجتمعُ الإسلامي، وتُحْمَل الرسالةُ حملاً صحيحاً إلى العالم أجمع بإذنه تعالى.

وخلاصة القول إن التزامنا بهذه الحقائق الحزبية العشرة يساهم في تسريع العمل الحزبي المنتج، وفي توسيع القاعدة الحزبية في المجتمع، فيجعل من الحياة الحزبية حياة حقيقية، فتنشدُّ لها الأمة برجالها ونسائها، فيشارك الكل في العمل الحزبي، ويشترك الجميع مع الحزب في قطف ثمار التغيير، وتبدو الأهداف إذّاك قريبة المنال، حتى لتكاد أن تكون الدولة الإسلامية في متناول الأيدي، لا ننتظر ساعتها سوى إكرام الله سبحانه لنا بالنصر، ومَنِّهِ علينا بإقامة دولة الخلافة الراشدة، كما أكرمنا سبحانه من قبل بإقامة التكتل الحزبي المبدئي الصحيح، وكما منَّ -سبحانه وتعالى- علينا بالحفاظ على هذا الحزب ممن يتربّص به الدوائر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *