العدد 134 -

السنة الثانية عشرة – ربيع الأول 1419هـ – تموز 1998م

إعجـاز القـرآن

إعجـاز القـرآن

قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) [الطور:33-34].

وقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) [هود:13].

وقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [يونس:38].

إن هذه الآيات المذكورة أعلاه، وهي ما تعرف بآيات التحدي، ليست هي الدليل على إعجاز القرآن، ولم يبدأ اعتبار القرآن معجز من أول يوم نزلت فيه آيات التحدي، فالقرآن معجز من أول يوم بدأ فيه بالنـزول، فهو معجزة قبل أن تنزل آيات التحدي. ومما يدلل على وجود آيات قد نزلت قبل آيات التحدي قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) وقوله: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ) فهذا يدلل على وجود آيات قد نزلت وأخبر النبيصلى الله عليه وسلم  أنها من الله، فاتهمه المشركون بالافتراء، فنزلت آيات التحدي لتنفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد افتراه وتتحدى بالقرآن. ثم إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن قد بدأ قبل بضع سنوات من بدء نزول آيات التحدي. وقبل التحدي كان الـقـرآن معجزة للنبي، والقرآن إعجازه من أول يوم أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه كلام الله وأنه نبيّ. أما التحدي الوارد في الآيات فهو التأكيد على الإعجاز والمبالغة فيه والإظهار له. وليس إعلاناً لبدء الإعجاز والتحدي.

هذا عن التحدي ومتى بدأ، ودليل إعجاز القرآن.

وأما عن أقل القدر المعجز من القرآن فنقول والاستعانة بالله: ابتداءً على أن نورد ما عندنا من ملاحظات وأدلة ومن ثمّ نخلص إلى جواب شافٍ إن شاء الله.

أولاً: بما أن القرآن معجز من أول يوم فلننظر كم نزل من القرآن في أول يوم وكان قدراً معجزاً، تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم قريش.

إنه خمس آيات من سورة العلق ـ كما ذكره القرطبي ـ وبذلك فهذا القدر الذي هو أقل من السورة وأكثر من الآية قدر معجز وبذلك تكون السورة قدراً معجزاً ولكنها لا تكون أقل القدر المعجز.

ثانياً: إن العرب تبتدع غير الشعر والنثر، فلما أتى القرآن لم يكن العرب يستخدمون في كلامهم مثله، ثم عند نزوله لم يستطيعوا تقليده، فالإعجاز في القرآن آتٍ من بلاغته وفصاحته وتركيباته واستخدامه للألفاظ وغيرها. فمتى كان هذا التباين والتمايز بين كلام العرب والقرآن ظاهراً في قدر من القرآن كان هذا القدر، الذي لاحظنا عند سماعه أنه على خلاف عادة العرب في كلامهم، كان هذا القدر هو أقل القدر المعجز. ولا يشترط فيه أن يكون سورة من القرآن.

ثالثاً: أخرج البخاري وغيره: “قال عمر وافقت ربي في ثلاث مسائل قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنـزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى). وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البَرّ والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنـزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله  صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنـزلت كذلك”. واخرج ابن أبي حاتم قال: “قال عمر وافقت ربي أو وافقني ربي في أربع نزلت هذه الآية: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) فلما نزلت قلت فتبارك الله أحسن الخالقين فنـزلت: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)”، وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: “أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب فقال: إن جبريل، الذي يذكر صاحبكم، عدو لنا. فقال عمر: من كان عدوا لله وملائكته وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين قال فنـزلت على لسان عمر” وأخرج سنيد في تفسيره: “أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال: (سبحانك هذا بهتان عظيم) فنـزلت كذلك”. وقال ابن سعد في الطـبقات: “أخبرنا الواقدي حدثنا شرحبيل العبدري عن أبيه قال حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أُحد فقطعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى، ثم قطعت يده اليسرى فحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) ثم قتل فسقط اللواء. قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) يومئذ، حتى نزلت بعد ذلك”.

كل هذه الروايات تنقل لنا أقوالاً وألفاظاً قالها بعض الصحابة، فنـزل القرآن بتلك الألفاظ. والمهم هنا أن قول الصحابي الذي وافقه القرآن مثل ما نزل في القرآن، فإن كان أقل القدر المعجز في القرآن ما قاله الصحابة ونزل القرآن وفقه يكون قد بطلت معجزة القرآن، لأنه أجاز أن يأتي الناس بمثل أقل القدر المعجز لما كان معجزة، وهذا باطل.

إذن فأقل القدر المعجز ليس محدداً بكمية.

رابعاً: كثير ممن أسلموا عندما عرفوا إعجاز القرآن بعد سماعه مثل عمر بن الخطاب لم يسمعوا سورة كاملة، فعمر سمع من سورة طه.

نأتي الآن إلى النتيجة فنقول: ابتدأ القرآن معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكل سورة فيه هي قدر معجز، ولكن البحث في أقل القدر المعجز من القرآن الكريم، ونستعرض الآراء:

أولاً: قالوا إن السورة هي اقل القدر المعجز، فنقول إن إعجاز القرآن قد يظهر في أقل من السورة كالآية في بعض الأحيان، و كشطر الآية التي يظهر فيها وجه الإعجاز، ولا يوجد ما يمنع من ذلك. ثم إن دليلهم أنه اقل القدر في آيات التحدي. ونقول لهم: قبل أن تنزل الآية التي تتحدى بالسورة الواحدة هل لم تكن السورة لوحدها معجزة؟ إن الأمر الذي دعاهم إلى الخطأ هو عدم تفريقهم بين إعجاز القرآن والتحدي الوارد في الآيات.

ثانياً: قالوا إن أقل القدر المعجز هو ما كان في حجم سورة، وهذا الرأي يجعل الإعجاز من حيث الكم من الحروف والكلمات، ولكن إعجاز القرآن ليس كذلك. وأي نص ظهر فيه وجه الإعجاز فهو قدر معجز.

إن الرأي الصحيح في هذه المسألة هو أن أقل القدر المعجز هو القدر الذي يكون سامعه لأول مرة الغير عارف بأنه قرآناً قد حكم بأنه ليس بالشعر ولا بالنثر وأن هذا الكلام خارج عن عادة العرب في حديثها مع كون الشخص عالماً باللغة وأهلاً لهذا التمييز، وهذا القدر قد يكون شطر الآية، وليس كل شطر آية. وقد يكون آية، وليس كل آية. والسورة وأي سورة في القرآن هي قدر معجز.

لكنه ليس أقل القدر، وإلى هذا قد لمح الإمام تقي الدين النبهاني في كتابه (مقدمة الدستور) في ص35 حيث يقول: “ولأن القرآن معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم (…) وإنما إعجازه في المعنى حالة كونه معبراً عنه بهذا اللفظ العربي المعبر عن المعنى بالأسلوب العربي أي أن قوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) معجز للناس أن يأتوا بمثله، وإعجازها آتٍ من روعة التعبير بهذه الألفاظ عن المعاني التي أداها هذا السبك بهذا الأسلوب”.

واحتج من قال بأن السورة هي أقل القدر المعجز بأنها أقل القدر الذي لم يختلف فيه، وبما أن ما أقل من السورة قد اختلف فيه فيجب الرجوع إلى ما لم يختلفوا فيه، ومثل هذا القول يقيم وزناً لإجماع العلماء. وقالوا إن كون الخلاف قد وقع في المسالة فقد أنزلها عن مرتبة اليقين. فأقول…

إنه متى وقع الاختلاف في المسألة فإنها لا تنزل عن مرتبة اليقين لمجرد هذا الاختلاف ولو كان هذا الاختلاف بين العلماء الأنقياء الأتقياء. فمن المعلوم أن أصول الفقه يجب أن تكون قطعية فالقرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس قام الدليل القطعي على اعتبارها أدلة إجمالية.

ولكننا نرى الإمام ابن حزم والمذهب الظاهري لا يأخذ بالقياس فهل نقول بأن دليل القياس قد نزل عن مرتبة اليقين لأن الاختلاف قد وقع فيه فلا نأخذ بالقياس؟ ثم إذا كان عدد الأشخاص الناقلين للخبر الذي يحدد كون الخبر متواتراً أم آحاداً عند أحد الفقهاء اقل من غيره، فهل يعني أن لا يأخذ الأول الذي يكون عنده العدد أقل ويكون الحديث عنده متواتراً، فهل يعني أن لا يأخذ به لأن غيره لا يعتبره متواتراً لأن العدد عنده أكثر من الأول. كلا ما هذا بقول سليم.

وأخيراً فأقول لقد كان هذا البحث جرّاء قراءتي لموضوع إعجاز القرآن في العدد (132) الذي وجدته قد حوى أخطاءً لا بد من تصحيحها.

أيمن ـ الخليل

(الوعـي): الكاتب يقول بأنه وجد أخطاءً في الكلام عن إعجاز القرآن الوارد في العدد (132). وهذا قول الكاتب. وفي الحقيقة هي ليست أخطاء، إذ أن العقائد تحتاج إلى اليقين. والأمثلة والنُّقول التي أوردها الكاتب هي آراء ترجيحية وليست قطعية. ونعود لنؤكد أن القَدْرَ المعجز بشكل يقيني هو السورة، أي مقدار السورة. ومقدار السورة ليس بعدد الأحرف فقط، بل بعدد الآيات أيضاً. فلا يصح مثلاً أخذ جزء من آية حروفه تساوي حروف سورة الكوثر ونقول هذا معجز قطعاً، بل لا بدّ من أخذ ثلاث آيات (عدد آيات أقصر سورة) على أن لا يقل عدد حروفها (المنطوق بها) عن حروف أقصر سورة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *