العدد 135 -

السنة الثانية عشرة – ربيع الثاني 1419هـ – آب 1998م

الغارات الأميركية على السودان وأفغانستان

الغارات الأميركية على السودان وأفغانستان

في يوم الخميس الموافق 20/8/1998 قامت القوات الأميركية بضرب كل من السودان وأفغانستان بصواريخ توما هوك، فدمرت مصنعاً للأدوية في الخرطوم ومناطق سكنية في أفغانستان قالت أميركا عنها إنها معسكرات تدريب. وكان من نتائج الغارات قتل وجرح العديد من الأبرياء وخسائر مادية قدرت بملايين الدولارات.

وحصلت الغارات بعد ثلاثة أيام من اعتراف الرئيس الأميركي كلينتون بفضيحته الجنسية أثناء شهادته أمام هيئة المحلفين، والتي كانت مناقضة لأقواله وتصريحاته السابقة؛ وبعد ما يقرب من أسبوعين من تفجير السفارات الأميركية في كل من نيروبي ودار السلام؛ وقبل اكتمال التحقيق أو توجيه التهمة لأية جهة من الجهات، وقبل الحصول على أدلة قاطعة تشير إلى الجهة التي كانت وراء التفجيرات.

وظهر بشكل بارز تركيز أجهزة الإعلام الأميركية والمستأجرة لها، وعلى لسان وزير الدفاع كوهن ووزيرة الخارجية أولبرايت، على أن الغارات كانت رداً على الإرهابيين بغرض حماية الأميركيين والمصالح الأميركية في الخارج.

ولم يتجاوز رد الفعل في السودان حد الشجب والاستنكار، وخروج المظاهرات، وحرق العلم الأميركي، وتقديم الشكوى العاجلة إلى مجلس الأمن. أما في أفغانستان فلم يحصل أكثر من إعلان الخبر، لأن الحكم والشعب في حالة ضياع، بسبب انشغال الناس والزعماء بالحرب الأهلية المستعرة منذ عدة سنوات. ولم يتم الاعتراف بطالبان رسمياً إلى الآن. أما الدول الكبرى فبعضها قد أيّد بقوة مثل بريطانيا ومنها من أيّد بحذر مثل فرنسا، والآخر استنكر على استحياء؛ أما دول وشعوب العالم المسمى بالثالث فقد استنكرت وشجبت كعادتها.

أما عن الدافع وراء الغارات على السودان وأفغانستان، فمن حيث التوقيت فهو لصرف الأنظار عن فضائح الرئيس الأميركي، أو بالأحرى للدفاع عن موقع الرئاسة بغض النظر عن شخص الرئيس، وهو أهم بكثير ـ عند العليمين بالسياسة ـ من الانتقام لضرب السفارات. فليس الدافع، كما زعم، رداً على ضرب السفارات، إذ إن نتائج التحقيق لم تظهر بعد، ولم يتم الحصول على أدلة كافية لتسويغ الغارة، وإلا لما ترددت أميركا في إظهارها بل وإلى نشرها على أوسع نطاق لأنه يخدم أغراضها. فالدافع للعمل السياسي شيء والنتيجة شيء آخر. فأغلب الظن أن الدافع هو لحماية الرئاسة الأميركية وإن كان من نتائجها حماية الرعايا والمصالح في الخارج.

إن فضيحة الرئيس الأميركي سوف تمكن الجمهوريين وأصحاب المصالح داخلياً وخارجياً من عزله قبل انتهاء مدة رئاسته وعشية انتخابات الكونغرس في تشرين ثاني القادم. وفي مثل هذه الأوضاع فإن الإدارة الأميركية سوف تنشغل بنفسها وبالدفاع عن الرئيس أو عن مصالح الحزب الديمقراطي، تماماً كما انشغلت إدارة الرئيس الأسبق نيكسون عندما أطاح به الديمقراطيون بسبب الووترجيت. ونظراً لضعف القائمين على السياسة الخارجية الأميركية في الوقت الحاضر، فإن العالم سوف يشهد في السنتين القادمتين أحداثاً كبيرة، وتحركات أقوى ضد المصالح الأميركية والسياسة الأميركية، وعلى الأخص من الأعداء التقليديين أو المنافسين كالدول الأوروبية. وما الانفجار الذي حصل في مدينة الكاب بجنوب إفريقيا يوم الثلاثاء 25/8/1998 إلاّ مؤشراً قوياً على علاقة بريطانيا بالانفجارات. كما أن تعليقات كل من كلينتون وألبرايت على انفجارات نيروبي ودار السلام بأن أميركا لن تنسحب ولن تتخلى عن دورها العالمي يشير إلى أن هناك قوى كبرى تسعى لجعلها تتخلى عن هذا الدور. كما أن الإدارة سوف تفتعل أحداثاً وتقوم بأعمال تغطي بها ضعفها أمام دول العالم كضرب العراق مثلاً أو غيره من الدول التي تضعها في قائمة المؤيدة للإرهاب على حد زعمها.

وأما اختيارها للسودان وأفغانستان فلم يكن من قبيل الصدفة، ذلك أن حكومة البشير في الخرطوم هي الآن في أضعف أحوالها. وتكالب المعارضة عليها زادها ضعفاً على ضعفها، وأفقدها كثيراً من شعبيتها، ولكن قصف مصنع الدواء في الخرطوم ألهب مشاعر الناس، وأعاد للحكومة قسطاً من شعبية، وبعضاً من المصداقية. وأما قصف أفغانستان، فهو من أجل إدخال حركة طالبان في مساومات الاعتراف بها كحكومة شرعية تمثل أفغانستان في المحافل الدولية، ولو بصورة مؤقتة. فتصريح أمير طالبان الملا محمد عمر يدل على ذلك. فقد قال في 24/8 بأنه “قد أخذ من أسامة بن لادن عهداً بأن لا يقوم بمهاجمة المصالح الأميركية طالما أنه موجود في أفغانستان”. وكان ابن لادن قد وعد أفغانستان بعدم التصريح بالتهديد لأميركا أو غيرها ما دام على أرض أفغانستان. وقد عرضت أميركا على طالبان إجراء حوار في شأن ابن لادن، ولكن طالبان رفضت العرض. وكان من نتيجة الغارتين الأميركيتين أن سُلّطت الأضواء على ابن لادن باعتباره عدواً لأميركا، واستقطب الكثير من مشاعر المسلمين، مما يؤهله للعب دور قيادي بارز بين المسلمين عامة وداخل السعودية بشكل خاص.

والمتتبع للسياسة الأميركية وأساليبها يرى أن هذا الأسلوب ليس أسلوباً جديداً، فقد سبق أن استخدمته مع كل من العراق وليبيا وإيران ولبنان. كما استخدمته مع بلدان أميركا اللاتينية وهي الآن تستخدمه في السودان وأفغانستان. إلا أن أكثر ما استحدمته مع بلدان العالم الإسلامي؛ وهو أسلوب ستظل تستعمله في المستقبل طالما الوضع الدولي على ما هو عليه الآن. إذ إن العربدة والغطرسة الأميركية وانتهاك الأعراف الدولية أصبح استراتيجية أميركية ثابتة كلما رأت في ذلك تحقيقاً لأهدافها الاستعمارية، بل هي لم تعد تقيم وزناً لا للأعراف ولا للشعوب ولا للدول. وهذا الأسلوب، أي التدخل العسكري السافر، في العلاقات الدولية يندرج تحت خطتها في (التدخل السريع وإظهار العلم من وراء البحار)، وقد أقرت هذه الاستراتيجية منذ أيام الرئيس كارتر، ورصدت لها مليارات الدولارات، وتستعد لها بإجراء المناورات المشتركة التي تجريها مع جيوش الدول الأخرى وعلى أراضيها، فهي تستخدم حاملات الطائرات العملاقة والبوارج بدلاً من استخدام القواعد الثابتة التي كانت تكلفها المليارات وتجلب عليها النقمة الدائمة من الشعوب والدول المعادية. وقد ساعدها على استخدام هذا الأسلوب والتمادي في استخدامه زوال الاتحاد السوفيتي وعدم وجود رادع يمنعها من تكراره. وهي تستخدمه مع الصديق  ـ العميل ـ لحمايته وصرف أنظار الناس عنه ـ ومع العدو لتخويفه وردعه كلما رأت مصلحة في ذلك. ومن الخطورة حقاً أن تؤيده ـ نفاقاً ـ بعض الدول الكبرى كبريطانيا؛ كما وتظهر خطورة تواجد الأساطيل الأميركية، من حاملات الطائرات والبوارج العسكرية، ليلاً ونهاراً وعلى مدار الساعة في المياه الإقليمية للدول أو في أعالي البحار.

إن الأسلوب الفعال لمقاومة مثل هذه الأساليب الاستعمارية هو في قيام الدول المعتدى عليها بالرد بالمثل وبشكل سافر مهما كانت التكاليف، وهو حق مشروع بمقتضى العرف الدولي منذ أن وجدت الخليقة على وجه الأرض، كما وأنه حق مشروع بمقتضى القانون الدولي الذي وضعته الدول الغربية. ولا توجد دولة في الوقت الحاضر، مهما كانت صغيرة، غير قادرة على رد العدوان السافر على شعبها وممتلكاتها وسيادتها، ولا يوجد ما يمنع من الرد بالمثل، خاصة والشعوب مستعدة للتضحية أمام العدوان الصارخ عليها. لا يوجد مانع سوى اللهم جبن الحكام وقبولهم بالاستكانة والذل والهوان لهم ولشعوبهم المغلوبة على أمرها بوجودهم. فإذا كان حاكم الدولة المعتدى عليها عميلاً فإن سبب عدم الرد مفهوم، أما إذا كان معادياً لأميركا فهل لعدم الرد تفسير آخر غير الجبن والخور والاستكانة. والرد حتى يكون رادعاً يجب أن يكون بالمثل وسافراً على المصالح الأميركية المنتشرة في جميع أنحاء العالم وسيلقى بالتأكيد تأييداً وترحيباً كاسحين من كل الدول والشعوب المستضعفة في العالم. أما الاحتجاجات والشكاوى العاجلة فلن تزيد الطاغية إلا إصراراً وتمادياً وعربدة ولن يكون مصيرها إلا محرقة الورق في مبنى الأمم والمتحدة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *