العدد 136 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الأولى 1419هـ – أيلول 1998م

السَّلَـف (السَّلَـم)

السَّلَـف (السَّلَـم)

عرّف الإمام النووي السَّلف (السَّلَم) بقوله: “عقد السلم هو عقد على موصوف في الذمة ببدل يُعطى عاجلاً، وفي رواية أسْلَفَ مكان أسْلَم معناهما واحد”.

وورد تعريف للسلف مع دليله الشرعي في كتاب (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع) مفاده: (السَّلَم، ويقال له: السَّلَف، يقال: أَسْلَمَ وأَسْلَفَ، والسَّلَم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق، قاله الماوردي، سمي سلماً لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفاً لتقديم رأس المال. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) روى سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال “أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ آية الدين”).

أما السنة: فروى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنهـم قدموا المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال: «من أسْلَفَ في شيء فليُسلف في كيل معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم»).

أما الإجماع: فقال ابن المنذر: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز. ويصح السلم حالاً ومؤجلاً بأن يصرّح بهما. أما المؤجل فبالنص والإجماع، وأما الحالّ فبالأَوْلى لبعده عن الغَـرَر”، وعند ابن قدامة أن السلم إنما جاء رخصة للرفق ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، وإنما سمي سلماً لتعجل أحد العوضين وتأخر الآخر.

ويُستخلص من هذه العبارة ما يلي:

1ـ السَّلَف هو السَّلَم.

2ـ السَّلَف هو لُغةُ أهل العراق، والسَّلَم هو لُغةُ أهل الحجاز.

3ـ الدليل على جواز السَّلَف مأخوذ من الكتاب والسنة والإجماع.

4ـ ضرورة أن يكون السَّلَف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم، كما جاء في الحديث المذكور.

5ـ يصح أن يكون السَّلَف حالاًّ أو مؤجلاً.

أما عن المُسْلَم فيه، فقد تحدث (الشربيني الخطيب) عن عدة شروط يمكن إيجازها بما يلي:

1ـ أن يكون المُسْلَم فيه مضبوطاً بالصِّفة.

2ـ أن يكون المُسْلَم فيه جنساً واحداً لم يختلط به جنس غيره.

3ـ أن لا يكون المُسْلَم فيه مُعَيَّناً (أي عيناً: ذهباً أو فضة)، بل يشترط أن يكون دَيْناً.

4ـ أن لا يكون المُسْلَم فيه من موضع معين يمكن انقطاعه بجائحة.

5ـ أن يكون المُسْلَم فيه مما يصح بيعه.

أما عن صحة العقد فلها عند الشربيني الخطيب ثمانية شروط:

1ـ أن يصفه بعد ذكر جنسه ونوعه بالصفات التي يختلف بها الغرض اختلافاً ظاهراً.

2ـ أن يذكر قدر المُسْلَم فيه بما ينفي الجهالة عنه من كيلٍ أو وزن.

3ـ إن كان السَّلَم مؤجلاً يذكر وقت حلول الأجل.

4ـ أن يكون المُسْلَم فيه موجوداً حين الاستحقاق، أي عند وجوب التسليم.

5ـ أن يكون وجوده في الغالب، ولا يصح فيما ندر وجوده في زمان أو مكان معينين.

6ـ أن يذكر في السَّلَم المؤجل موضع قبضه.

7ـ أن يتقابضا (المُسْلَم والمُسْلَم إليه) رأس مال السَّلَم (الثمن) في مجلس العقد قبضاً حقيقياً قبل التفرق.

8ـ ن يكون العقد ناجزاً لا يدخله خيار الشرط لهما، أو لأحدهما، لأن تسليم رأس المال لا يحتمل التأجيل.

وعلّق الشربيني الخطيب على التقابض في المجلس قبل التفرق في بيع السَّلَم بقوله: “إذ لو تأخر (التقابض) لكان في معنى بيع الدَّيْن بالدَّيْن (الكالئ بالكالئ) إن كان رأس المال في الذمة، ولأن في السَّلَم غرراً، فلا يُضمّ إليه غرر تأخير رأس المال، ولا بد من حلول رأس المال (تسليمه حالاً) كالصرف، فلو تفرقا قبله، أو ألزماه بَطَلَ العقد، أو قبل تسليم بعضه بَطَلَ فيما لم يُقبض وفيما يقابله من المُسْلَم فيه وصَحَّ في الباقي بِقِسْطِه”.

وحينما اعتبر الشربيني الخطيب تأخير رأس مال السلعة المُسْلَم فيها غير جائز، فإن هذا مردُّه كون هذه العملية تصبح بيعاً للدّيْن بدَين آخر، وهذا تماماً ما تفعله المصارف اللاربوية من خلال المعاملة المستحدثة المسماة (بيع المرابحة للآمر بالشراء) فهي بيع مؤجل التسليم: مؤجل بالنسبة لرأس المال، ومؤجل بالنسبة للسلعة، وهذا ما أثار معارضة لهذه المعاملة من قبل بعض العلماء والاقتصاديين.

ومن المعلوم في السَّلَف أن صفقة البيع تُعْقَد، ويُدفع الثمن، ويُؤَخَّر تسليم البضاعة، أما المرابحة، فتُعقد صفقة البيع على بضاعة موجودة مملوكة للبائع، وفي المقدور تسليمها حالاً، ولكن الثمن قد يُدفع حالاً، وقد يؤجّل، وقد يُدفع مُقسَّطاً، وليس فيها وعد بالشراء، ولا إلزام بوعد، ولا آمر ومأمور.

ويعتبر دفع الثمن سلفاً من أبرز ما يميز بيع السَّلَف عن غيره، ولا بديل عن الدفع، حيث “لا يجوز في السَّلَف حتى يدفع الثمن قبل أن يفارقه، ويكون ما سَلَف فيه موصوفاً، وإن كان ما سَلَف فيه بصفة معلومة عند أهل العلم بها وأجل معلوم جاز”.

ويسمى المشتري مُسْلِماً أو رَبَّ سَلَم، ويُسمى البائع مُسْلَماً إليه، والمبيع هو المُسْلَمُ فيه، والثمن هو رأس مال السَّلَم، ويجوز السَّلَم في كل ما يُكال ويُوزن بصفة خاصـة وفي كل السلع التي تنضبط بالصفة عموماً، ولا خلاف بين الفقهاء في اشتراط كون المُسْلَم فيه دَيْناً موصوفاً في ذمة المُسْلَم إليه.

وفي هذا المجال يقول البغوي عن حديث: «لا تبع ما ليس عندك»، إن النهي في هذا الحديث عن بيع الأعيان التي لا يملكها، أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السَّلَم بشروطه، فلو باع شيئاً موصوفاً في ذمته عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز وإن لم يكن المبيع موجوداً في ملكه حين العقد كالسَّلَم.

وقال النووي في حديث النهي عن بيع ما ليس عندك: “وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان، ولا داخلاً تحت مقدرته. وقد استثنى من ذلك السَّلَم فتكون أدلة جوازه مخصِّصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان البيع في ذمة المشتري، إذ هو كالحاضر المقبوض”.

وهذا الرأي يعارضه ابن قيّم الجوزية في تعليقه على حديث النهي عن بيع ما ليس عندك، وذلك بقوله: “وقد ظن طائفة أن السَّلَم مخصوص من عموم هذا الحديث… والحديث إنما تناول بيع الأعيان، وأما السَّلَم فعقد على ما في الذمة”. والمبيع لا بد أن يكون “في ذمة المشتري، أو في يده، وبيع ما ليس عنده ليس بواحد منهما. فالحديث باقٍ على عمومه”. والعِنْدِيَّة في حديث: «ما ليس عندك» ليست عِنْدِيَّة الحسّ والمشاهدة، وإنمـا هي عندية الحُكْم والتمكين.

الفرق بين السَّلـف (السَّـلم) والقرض

القَرْض لغة: القَطْع، وقَرَضَهُ يَقْرِضُهُ قَرْضاً وقَرَّضَهُ: قَطَّعَه، ويُقال: تَسَلَّف واسْتَسْلَفَ: أي استقرض ليردّ مثله عليه، ويأتي السَّلَف بمعنى السَّلَم فيقال: سَلَّف وأَسْلَم بمعنى سَلَّم وأَسْلَم.

القرض في الاصطلاح الفقهي: هو عقد مخصوص يَرِدُ على دفع مال مِثْلَيْ لآخر ليَرُدَّ مِثْلَهُ.

والقرض أو الدَيْن يسميه أهل الحجاز سَلَفاً وهو يصحّ بلفظ أَسْلَفْت “والقول في كل دَيْن سَلَف… وقول الله تعالى: (إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يَحْتَمِل كل دَيْن ويَحْتَمِل السَّلَف خاصة”.

والقرض جائز لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من مسلم يُقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة» رواه ابن مسعود. وهو مندوب في حق المُقرِض، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه». ومباح للمقترض، ولا يصحّ إلا إذا تم من أشخاص يجوز لهم التصرف من حيث العقل والبلوغ وعدم الحجر لأنه من العقود القائمة على المال، ويجب رد المثل إذا كان الشيء المقترض مما يُكال ويُوزَن.

ويصح القرض بلفظِ القرض، أو السَّلَف، وكل ما أدّى إلى معناهما.

ويختلف السَّلَف الذي يعـني الدَّيْن، أو القرض عن السَّلَف الذي يعني السلم، في عدة نواحٍ، وبالإمكان إيجاز ذلك الاختلاف فيما يلي:

1ـ السَّلَف يصحّ حالاًّ ومؤجلاً، بينما القرض لا يصح تأجيله.

2ـ يجوز الاستبدال عن القرض، بينما لا يجوز استبدال المُسْلَف فيه.

3ـ المُسْلَف فيه لا يكون إلا في الذمة، أما المُقْرَض فلا يكون إلا مُعَيَّناً.

4ـ يجوز السَّلَف في المنافع (الخدمات)، أما القَرْض ففيه وجهان، الوجه المجزوم به المنع.

5ـ يجوز السَّلَف في الجارية التي تحل للمسلم، ولا يجوز فيها القرض.

6ـ لا يجوز السَّلَم في العقار، وفي قرضه وجهان.

7ـ يشترط في السَّلَم أن يكون جنس الثمن مخالفاً لجنس المبيع، أما في القرض فيُشترط أن لا يكون العوض مخالفاً لما دفعه.

ويبدو واضحاً أن السَّلَف يختلف عن القرض، ويختلف عن بيع المرابحة، وعن بيع ما لا يملك، أو ما ليس عندك، وهو معاملة قائمة بذاتها لها شروطها وأحكامها، وكل تغيير فيها يُخرجها عن واقعها المشروع، والكلمات نفسها تصلح للتعليق على المرابحة، فكل تجزئة لها، أو بتر لأية جزئية منهـا أو من أية معاملة يُخرجها عن واقعها، ويُدخلها في واقع جديد، يحتاج إلى دليل شرعي لإجازته، هذا إذا لم يُدخلها في دائرة المعاملات التي يشوبها الغرر، أو الجهالة، أو المعاملات الربوية.

بقيت إشارة أخيرة وهي أنه لا يجوز الجمع بين السَّلَف والبيع، لحديث عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَحلُّ سَلَفٌ وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تَضْـمن، ولا بيع ما ليس عندك». وهذا يدل على أن بعض المعاملات إذا دُمجت في غيرها من المعاملات الأخرى تُخرجها عن واقعها، ولا ينقذها إعطاؤها تسمية جديدة، لأن واقعها هو الذي يحدّد الحكم عليها .

أبو الفضل عبد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *