العدد 136 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الأولى 1419هـ – أيلول 1998م

الستـر على المسلـم

الستـر على المسلـم

الستر هو التغطية. والستر على المسلم هو تغطية عثرته وزلته. وعكسه الكشف. ولكل منهما أحكامه، فالستر لا يكون إلا مندوباً، أما الكشف فيكون واجباً ومندوباً ومباحاً.

حكم الستر: الستر لا يكون إلا مندوباً. ويكون كذلك بثلاثة شروط:

أولها: أن تكون الزلة غير متكررة فتكون أول معصية زلّ فيها مطيع.

ثانيها: أن لا يجاهر صاحبها بها ويكون من ذوي الهيئات الذين لا يعرفون بالشر.

ثالثها: أن لا يحصل منها ضرر خاص ولا عام.

إذا وقعت الزلة على هذه الصورة وبهذه الشروط كأن يزني المسلم أو يقذف، أو يكذب كذبة، أو يفطر يوماً في رمضان، أو يترك صلاة مفروضة، أو ينظر إلى عورة امرأة، أو يختلط اختلاطاً محرماً، أو يخلف وعداً، أو يقتني تمثالاً في بيته، أو يأكل لحم خنـزير، أو يشرب خمراً في بيته، أو يشم مخدراً، فإنه يندب الستر عليه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من ستر اخاه في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة» وقوله: «ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» وقوله: «من رأى عورة فسترها كان كم استحيى موؤودة من قبرها» وقوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» وقوله (إلا الحدود ) أي أنها لا تقال بل تقام على ذي الهيئة وغيره بعد الرفع إلى الإمام وأما قبله فيندب سترها، وهي غير مستثناة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» وقوله لهزال الذي أشار على ماعز بالإقرار: «يا هزال لو سترته بثوبك كان خيراً لك» وفي رواية: «ويحك يا هزال ألا كنت رحمته، ويحك يا هزال ألا كنت رحمته، ويحك يا هزال ألا كنت رحمته» وما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: «إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتي بسارق فأمر بقطعه فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله كأنك كرهت قطعه؟ قال: وما يمنعني؟! لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم، إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حدّ إلا أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم».

كذلك يندب أن يستر الإنسان على نفسه بدليل ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عز وجل، ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه».

أحكام الكشف: يكون واجباً ويكون مندوباً ويكون مباحاً.

الكشف الواجب:

ـ ويكون في كل معصية تشكل خطراً على كيان الدولة أو الأمة أو الحزب. وذلك كما حصل في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق عندما قال عبد الله بن أُبي: قد ثاورونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها. فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غُلَيم وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره الخبر. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مُر عباد بن بشر فليضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا، ولكن نادِ يا عمر: الرحيل.

ففي هذه الحال يجب النقل إلى الأمير. فإن كان الضرر متعلقاً بالدولة أو الأمة كما في القصة السابقة نقل إلى الإمام، وإن كان الضرر متعلقاً بالحزب، كأن يكون هناك محاولة إيجاد تكتل داخل الحزب، نقل إلى أمير الحزب. وتقدير مدى كشف المعصية والعلاج يرجع إلى الأمير بما يكفل منع الضرر المتسبب عنها.

ـ ومنه التحريض على الإمام لأنه من أعمال هدم الكيان، فقد روى ابن عساكر عن ابراهيم عن عقبة قال: “سمعت أم خالد بن سعيد بن العاص تقول: قدم أبي من اليمن إلى المدينة بعد ان بويع لأبي بكر فقال لعليّ وعثمان: أرضيتم بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ فنقلها عمر إلى أبي بكر…”.

ـ ومنه كل تشكيك أو طعن في الأساس الذي تقوم عليه الدولة أو يقوم عليه الحزب، أو الدعوة والترويج لما يناقض هذا الأساس.

ـ ومنه خيانة الأمناء على الأموال العامة إذا تأكد الناقل من حصول الخيانة وكانت عنده بينة عليها وقد نقل النووي الإجماع علىذلك كما نقله الأمير الصنعاني. ويكفي هنا النقل للأمير أو من ينوب عنه في مثل هذا الأمر.

ـ ومنه التقصير في أي عمل من الأعمال التي توجبها التبعة الحزبية إذا تكرر ذلك منه، فهو منكر يجب نقله إلى الأمير أو صاحب الصلاحية لاتخاذ الإجراء اللازم. وكونه منكراً آت من كونه تقصيراً بواجب يلحق ضرراً بكيان الحزب.

ـ ومنه جرح الرواة عند الحاجة، وهو مجمع عليه كما قال النووي، أي على وجوب الجرح، لأنه من النصيحة الواجبة كما قال.

ـ ومنه التلبس بمعصية فيها ضرر ولم يستطع من اطلع عليها أن يمنعها أو يوقف ضررها إلا بالاستعانة بغيره فيجب عليه إطلاع هذا الغير على المعصية التي فيها ضرر، وهذا الغير يحدد بالقدرة على إزالة المنكر فقد يكفي فيه شخص واحد وقد لا يكفي فيه إلا الأمير.

ـ ومنه العمالة الفكرية والسياسية لأعداء الأمة، وأدلتها أدلة الصراع الفكري والكفاح السياسي ويكون الكشف هنا للناس.

ـ ومنه التجسس لصالح الكفار فقد كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وأصحاب مسجد الضرار للناس.

ـ ومنه كشف الإنسان عن نفسه في أمرٍ أضر به بغيره. كفعل أبي لبابة عندما أشار لليهود بالذبح. وكمن يكشف سراً من أسرار الدولة أو الحزب.

ـ ومنه كشف كل ما فيه اعتداء على حق من حقوق الله، كأن يعلم بأن فلاناً وفلانة رضعا من امرأة واحدة، ويراد تزويجهما من بعضهما، فيجب تبيان ذلك لمن يحول دون هذا الزواج.

الكشف المندوب:  وذلك مثل:

ـ الإدلاء بالشهادة قبل أن يسألها لإحقاق حق أو إبطال باطل لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». وتكون أمام القاضي أو لصاحب الحق.

ـ التحذير من الفاسق بدليل ما ذكره الماوردي في الحاوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس» وفي لفظ للحكيم الترمذي في النوادر: «أتورعون عن ذكر الفاجر؟ متى يعرفه الناس؟ اذكروه بما فيه يحذره الناس» وعند الطبراني بإسناد حسن رجاله موثقون: «حتى متى ترعوون عن ذكر الفاجر؟ اهتكوه حتى يحذره الناس». وبدليل ما رواه البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة».

ـ النصيحة من المستشار للمستشير ولو بذكر عيوب الشخص المعني بدليل أن فاطمة بنت قيس جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تستأذنه وتستشيره وتذكر أنه خطبها معاوية بن أبي سفيان وخطبها أبو جهم فقال: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ثم قال: انكحي أسامة».

الكشف المباح:

وهو محصور في من وقع عليه ضرر كفرد فله أن يستفتي ويستشير وله ان يرفع إلى القاضي أو إلى الجهة التي تستطيع رفع الظلم عنه أو إبعاد الضرر بدليل قول هند لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان: «إنه رجل شحيح».

ولا يدخل في هذا الباب الحكام ومن هم على شاكلتهم، فنقدهم، وإبراز تقصيرهم في رعاية شؤون الناس، وإبراز أخطائهم في معالجة المشاكل، واجب على المسلمين وعدم قيامهم به تقصير يلحقهم من ورائه الإثم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *