العدد 136 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الأولى 1419هـ – أيلول 1998م

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسـه على أحياء العـرب

في رحاب السيرة النبوية الشريفة        (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

يعرض نفسـه على أحياء العـرب

قال ابن إسحق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، ولم يستطع أن يدخل مكة، بعد عودته من الطائف، إلا في جوار المطعم بن عدي، وكان مشركاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز وجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبيّن عن الله ما بعث به، وعمه أبو لهب من خلفه يدعو الناس أن لا يستجيبوا له ويشككهم في قواه العقلية، ويحذرهم من اتباع دينه ومخالفة دين آبائهم وأجدادهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كندة في منازلهم وفيهم سيد يقال له مليح، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه. وأتى صلوات الله عليه كلباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: «يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم» فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يك أحد من العرب أقبح رداً منهم.

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الأمر لله يضعه حيث يشاء». فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه. فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدّثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وأنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم.

وقال موسى بن عقبة عن الزهري. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا أكره أحداً منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أُكرهه، إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد بي من القتل حتى أبلّغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء». فلم يقبله أحد منهم، وكلهم يقول: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه.

وروى الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس عن العباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة، فهل أنت مخرجي إلى السوق غداً حتى نقر في قبائل الناس» وكانت مجمع العرب. قال: فقلت هذه كندة، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك. قال فبدأ بكندة فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «فهل لكم إلى خير؟» قالوا وما هو؟ قال: «تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله». فقالوا له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الملك لله يجعله حيث يشاء» فقالوا: الحق بقومك فلا حاجة لنا فيما جئتنا به. فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل، فقال: «كيف العدد؟» قالوا كثير مثل الثرى. قال: «فكيف المنعة؟» قالوا: لا منعة جاورنا فارس، فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم. قال: «فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنـزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين وتكبروه أربعاً وثلاثين». قالوا ومن أنت؟ قال: «أنا رسول الله» وعمه أبو لهب من خلفه يدعوهم أن لا يستجيبوا له، فإنه مجنون يهذي.

ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ، قال: «كيف المنعة؟» قالوا: لا يرام ما قبلنا، ولا يصطلى بنارنا. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولا أكره أحداً منكم على شيء» قالوا ومن أي قريش أنت؟ قال: «من بني عبد المطلب» قالوا فأين أنت من عبد مناف؟ قال: «هم أول من كذبني وطردني» قالوا ولكن لا نطردك ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلّغ رسالة ربك، فنـزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بحيرة بن فراس فقال من هذا الرجل أراه عندكم أُنكره؟ قالوا محمد بن عبد الله القرشي. قال فما لكم وله؟ قالوا زعم لنا أنه رسول الله فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربّه. قال ماذا رددتم عليه؟ قالوا بالترحيب والسعة سنخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا. قال بحيرة: ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدءاً ثم لتنابذوا الناس، وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به… فبئس الرأي رأيكم. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني شيبان بن ثعلبة، ومعه أبو بكر وعلي رضي الله عنهما، وكان في القوم: مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. قال أبو بكر لمفروق: كيف العدد فيكم؟ فقال له إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال له: فكيف المنعة فيكم؟ فقال علينا الجهد ولكل قوم جد. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوّكم؟ فقال مفروق إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا. لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا، فقال مفروق قد بلغنا أنه يذكر ذلك. ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال  صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وأن تؤووني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد». قال له وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) إلى قوله تعالى: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وأشرك هانئ بن قبيصة في الكلام، فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لم نتفكر في أمرك، وعاقبة ما تدعونا إليه، زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوماً نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. واشترك المثنى بن حارثة في الكلام فأيّد رأي هانئ بن قبيصة وقال: … وإنّا إنما نزلنا بين صَريَيْن: أحدهما اليمامة، والآخر السمامة. فقال له رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «وما هذان الصَّرَيان؟» فقال له أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول؛ فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيراً حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبّحون الله وتقدّسونه؟» فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإنّ ذلك لك يا أخا قريش. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا*وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا).

ويواصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غشيان القبائل في منازلها حتى نزل بمجمع الأوس والخزرج، الذين كتب الله لهم شرف نصرة رسول الله، وإعزاز دين الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *