العدد 138 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

صفات رجال الدولة الإسلامية (1)

تعاطفاً مع الأخ علي بن حاج، فرَّج الله عنه، نقتبس من بعض ما كتب في سجنه في عام 86 وما بعده تحت عنوان (أزهار الأحكام في صفات رجال دولة الإسلام)، وقد كتبها جواباً على استفسار من أحد إخوانه السجناء عن مواصفات رجال الدولة المسلمة، واستجابة لطلبه “أحب أن أكتب بعض ما تجمع في ذهني عن رجال دولة الإسلام، غير أنني آثرت أن أتحدث عن صفات الرجال الذين قامت على كاهلهم دولة الإسلام الأولى في المدينة، وآثرت أن أتحدث عن ذلك من خلال جملة من النقاط على غير ترتيب ريثما تحل الفرصة للتوسع في ذلك وترتيب ما يجب ترتيبه والله الموفق”.

تساؤل لا بد منه:

ألا يحق لي أن أتساءل بإلحاح ما هو السر الخفي الذي جعل من رعاة الغنم قادة الأمم؟! وما هي الخصال والصفات التي أهلتهم لإقامة دولة الإسلام العظيمة وخاصة بعد أن عرف العام والخاص من أبناء البشرية قديماً وحديثاً ما كانوا عليه من الضلال والفساد في جميع المجالات وما كانوا عليه من انحرافات في التصور، ما الذي حول أولئك الأجلاف الذين كانوا تحت رحمة الفرس الروم وهما سيدتا العالم وقتئذٍ؟! ما هي الروح الجديدة التي سرت في أوصالهم فجعلتهم في قيادة قافلة الإنسانية نحو النور والهدى بعد أن كانت في فساد لا مثيل له في العقائد والعبادة والأخلاق والسياسة والاقتصاد؟! ما الذي حدث لعبدة الأحجار والأشجار والأصنام الحجرية التي ما أنزل الله بها من سلطان فتغيرت حياتهم واستقام أمرهم؟! ألم يكونوا في ضلال مبين وكان الواحد منهم يصنع إلهه من عجوة من تمر فإذا جاع أكله؟! اسمع إلى (يزدجرد) يصفهم وصفاً يدل على ما كانوا عليه من هوان على الناس ويقر بذلك أحد الصحابة. جاء في البداية والنهاية لابن كثير ناقلاً ما قاله إمبراطور الفرس للمسلمين: “إني لا أعلم في الأرض أمة أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دهاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم” فقال المغيرة بن شعبة ما كانوا عليه في الجاهلية مقراً بما قاله الإمبراطور، “أيها الملك إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حال منا وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً وأن يبغي بعضنا على بعض وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لكم فبعث الله إلينا رجلاً…” وهذا (ماهان) يطلب خالداً ليبرز إليه فلما برز إليه قال ماهان “إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها”. تلك حالة العرب قبل الإسلام جوع وفقر ومهانة وذلة وحقارة لا نظير لها كما أقر بذلك المغبرة بن شعبة. فما الذي صنعهم صنعاً جديداً حتى خرجوا فاتحين منتصرين يفتحون القلوب بحقائق الإسلام قبل أن تخضع له الرقاب بحد السيف؟! وما الذي جعل الجيوش الجرارة الكاملة العدد والعدة تقف عاجزة عن الوقوف في طريقهم وهم الذين لا يفرقون بين الملح والكافور؟! وما الذي جعل رعاة الغنم والنعم والذين لا خبرة لهم بفنون الحرب مع الفرس والروم يذلونهم رغم كفاءتهم العالية ومراسها في الحرب وما هي الروح التي غلبت تلك الكفاءة العالية عند خصومهم؟!! ما الذي جعل عباد الأصنام يثلون عروش الطغاة الجبابرة ويدوسون على تيجانهم بسنابك خيلهم الأصيلة حتى هلك قيصر فلا قيصر بعده. وهلك كسرى فلا كسرى بعده وكيف جاسوا خلال الديار وما هي إلا سنوات قلائل حتى عم الإسلام أصقاع الدنيا وارتفعت كلمة التوحيد عالية في جو السماء وخرت الأصنام وخمدت النيران بل كيف تحول أولئك الرجال الخامدون الذين لا يحسنون إلا صناعة الكلام وزخرفته والذين فروا هاربين بالأمس من أبرهة الحبشي وهو يريد هدم الكعبة إلى الوصول إلى الحبشة ذاتها ويصدعوا فيها بكلمة الحق أمام النجاشي؟!! نعم يا أخي عشرات الأسئلة تفرض نفسها علي وأنا أبحث عن السر الذي حولهم إلى قادة الأمم في برهة من الزمن. لا شك أن هذه النقلة تحتاج منا ومن الدعاة خاصة إلى وقفة تأمل وتدبر بعيدة المدى إنه للغز حير حتى الخصوم أنفسهم وأعداء الإسلام في ذلك الوقت وفي وقتنا هذا ولا بأس أن أسجل بعض ذلك من باب: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) قال ستودارد الأميركي في كتابه (حاضر العالم الإسلامي): “كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دون في تاريخ الإنسان. ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان وبلاد منحطة الشأن فلم يمض على ظهوره عشرة عقود، حتى انتشر في نصف الأرض ممزقاً ممالك عالية الذرى، مترامية الأطراف، وهادماً أدياناً قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانياً عالماً حديثاً متراص الأركان ـ هو عالم الإسلام. كلما زدنا استقصاء باحثين في سر التقدم، الإسلام وتعاليمه، زادنا ذلك العجب العجاب بهراً، فارتددنا عنه بأطراف حسارة”. ويقول المؤرخ جبون في كتابه (انحطاط روما وسقوطها): “بقوة واحدة ونجاح واحد زحف العرب على خلفاء أغسطس في (الروم) واصطخر في (فارس) وأصبحت الدولتان المتنافستان في ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء والاحتقار منهما. في عشر سنوات من أيام حكم عمر رضي الله عنه أخضع العرب لسلطانه ستة وثلاثين ألفاً من المدن والقلاع، خربوا أربعة آلاف كنيسة ومعبد للكفار، وأنشأوا أربعة عشر ألفاً من المساجد لعبادة المسلمين. على رأس قرن من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة امتد سلطان خلفائه من الهند إلى المحيط الأطلانطيكي، ورفرف علم الإسلام على أقطار مختلفة نائية كفارس وسوريا ومصر وإفريقيا وأسبانيا” فها أنت ترى أن هذه النقلة البعيدة دوخت حتى الأعداء ولولا خشية الإطالة لذكرت شهادات أخرى ولكن في هذا القدر كفاية.

أما الجواب على كل هذه التساؤلات فيمكن أن يقال إن هذا الانقلاب العميق العجيب المدهش المحير يكمن في أن هناك تغيراً جذرياً حصل بداخل النفس فتحولوا إلى أصحاب رسالة ودين وكأنهم خلقوا من جديد. وصدق الله العظيم إذ يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) حقيقتان من الحقائق التي ينبغي ذكرها بين يدي الحديث عن مواصفات رجال الدولة الإسلامية الحقة حقيقتان هامتان هما:

الحقيقة الأولى: إن الدولة الإسلامية الأولى كانت ثمرة تضحية وجهاد لأن الدولة القدوة كانت بعد صراع مرير مع الجاهلية الجهلاء ومن هنا ينبغي أن نقول جازمين، والسيرة النبوية خير شاهد على ما نقول، أنه لا يمكن أن تقوم دولة إسلامية دون دعوة هادفة وجهاد متواصل، ولذلك فإننا نجد القرآن الكريم قبل أن يقول: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) قبل أن يتحدث عن التمكين والرسالة التي ينبغي أن تؤدى بعد التمكين قال قبل ذلك كله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وبعد هذه الآية قال: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ) فهذا أكبر دليل على أن الدولة الإسلامية والتمكين لها ليس وليد الكفاءات والملتقيات وإنما هي وليدة الدفع والصراع مع الباطل والثبات على الحق. هذه واحدة وأما الأخرى فهي أن الدولة الإسلامية وليدة الصبر واليقين وحسن البلاء في سبيل الله تعالى فإذا كانت الإمامة في الدين لا تنال إلا بالثقة في الله تعالى فما بالك بإمامة البشرية، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما طلب من الله تعالى أن يكون إماماً ابتلاه الله بكلمات، فلما قام بهن خير قيام جعله للناس إماماً، قال تعالى: (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) فلا تنال الإمامة في الدين إلا على جسر من المتاعب والمصائب. فإذا ثبت المسلمون على الشدائد والمحن وقاوموا الباطل وصبروا صبراً جميلاً كان لهم ميراث الأرض. قال تعالى في شان قوم موسى عندما صبروا: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) وقال أيضاً موضحاً أن لا تمكين إلا بعد الصبر واليقين: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) والآن وضح لك الأمر أخي أن لا قيام لدولة الإسلام إلا على جسر من التعب والتضحية والفداء والدعوة والصدع بالحق والصبر على مرارة الصراع، والناظر في السيرة النبوية يدرك أن دولة الإسلام القدوة قامت على تلك المعاني.

الحقيقة الثانية: أن أهم عنصر في قيام دولة الإسلام الأولى إنما يتمثل في نوعية الرجال الذين فهموا رسالتهم نحو البشرية فكانوا أولي العزمات القوية صلبة لا تلين وإيمان راسخ رسوخ الجبال والاستعداد الكامل للتضحية والفداء في سبيل ما يعتقدون فهيهات هيهات أن تقوم دولة الإسلام برجال منهزمين داخلياً ونفسياً يفكرون تفكير الساسة قبل أن يفكروا تفكير الدعاة وقد أثبت التاريخ أن رجالاً بعقيدة فاسدة يتمسكون بها بإمكانهم أن يقيموا دولة ويهزموا الدول التي لا عقيدة لها كما هو الشأن في إسرائيل فبالرغم من فساد عقيدتهم إلا أنهم وجدوا رجالاً يؤمنون بها ويعملون على نصرتها، أما نحن معشر المسلمين فلا عقيدة (نعمل على نصرتها) ولا هم يحزنون!!! فكيف تقوم لنا دولة ورجالنا لا يحسنون سوى التأليف والملتقيات والثرثرة والهزيمة النفسية فرجال الدولة الإسلامية لا تنجبهم المكاتب ولا المعاهد ولا الدراسات المنهجية زعموا وإنما رجالها يربيهم الإيمان الحق الفعال وتخرجهم مدرسة التضحية والابتلاء. من صفات رجال الدولة (القدوة): أقصد بالدولة القدوة الدولة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودولة الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بأن نعض على سنتهم وهديهم بالنواجذ وبحكم أن دولتهم كانت على منهج النبوة ولذلك فأنا أحب أن أذكر بعض الصفات التي اتصف بها الصحابة الكرام ما أهلتهم لقيام دولة إسلامية أحدثت زلزالاً عظيماً في تاريخ البشرية ما زال صداه يرن في سمع البشرية إلى يوم الناس هذا. وإليك بعض تلك الصفات.

إدراك هدفهم نحو البشرية: لقد أدرك جيل الصحابة رسالتهم نحو البشرية على أكمل وجه وأتم صفة فقاموا بها خير قيام، وضحوا في سبيل تحقيقها بالغالي والرخيص والنفس والنفيس، أدركوا معنى قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وإنهم أمة الشهادة على الأمم كلها تقوِّم انحرافاتها عن الجادة وتجعلها على الصراط المستقيم بقوة البيان والسنان لمن عاند وكابر. جاء في البداية والنهاية لابن كثير: (أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض الوسائد وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه فقالوا له ضع سلاحك “فقال إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها فقالوا له: ما جاء بكم. فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً  حتى نفضي إلى موعود الله قالوا: وما موعد الله؟ قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن يبقى فقال رستم قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال نعم كم أحب يوماً أو يومين؟ قال لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا فقال ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل فقال أسيدهم أنت؟ قال لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟ فقال ويلكم لا تنظروا إلى الثياب وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب” أفرأيت كيف فقه المسلمون الأوائل رسالتهم وواجبهم نحو البشرية ولما أدركوا ذلك جيداً خافهم عدوهم وإن كان أكثر منهم عدة وعدداً. فهذا عرقل عظيم الروم عندما انتهى إليه خبر زحف المسلمين قال لأهل الشام: “ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد وإنهم لا قبل لأحد (بهم) فأطيعوني وصالحوهم بما يصالحونكم على نصف خراج الشام ويبقى لكم جبال الروم وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام وضيقوا عليكم جبال الروم”. لقد أدرك الصحابة عليهم الرضوان أن الإمامة وقيادة البشرية لا تتم لهم إلا بشروط تتمثل في الإيمان، والصلاح، والعبادة الحقة. أما الإيمان فلقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، وقوله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ولقوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، وقوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا). وأما الصلاح فلقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ). وأما العبادة فلقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا). فلما حققوا في أنفسهم الإيمان الراسخ والصلاح الكامل والعبودية الحقة مكن لهم في الأرض رغم قلة عدتهم وقلة عددهم وصدق الله العظيم إذ يقول: (إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) وقوله عز وجل: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). وروى أحمد بن مروان الملكي في كتابه (المجالسة): “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت لهم العدو فوق ناقة عند اللقاء وقال هرقل وهو على إنطاكيا لما قدمت مهزمة الروم: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم ومن أجل أننا نشرب الخمر ونزني ونرتكب الحرام وننقض العهد ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض. فقال: أنت صدقتني. وسأل هرقل هذا رجلاً كان قد أسر مع المسلمين فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم. هم فرسان بالنهار رهبان بالليل لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ولا يدخلون إلا بسلام يقفون على من حاربوا حتى أتوا عليه فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين” وفي رواية أخرى قال لهم: “أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به”.

فها أنت ترى يا أخي أنه لم يصفهم بكثرة علم ولا بكفاءة عالية في فن الحرب وإنما وصفهم بما سبق بيانه.

2- قوة الإيمان وصدق اليقين: لا شك أن القلوب إن أُفرِغت من حلاوة الإيمان، وضعف يقينها بالله تعالى فهيهات أن تنفعها العظات البالغات، فلا يؤثر فيها عندئذٍ لا مواعظ الحسن البصري، ولا رقائق عبد الله بن مبارك، وحكم لقمان الحكيم، ولا كلمات ذي النون المصري، وصدق الله العظيم إذ يقول في شأن هؤلاء: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) ولكن جيل الصحابة الذين قامت على أيديهم دولة الإسلام الخالدة كان إيمانهم حياً يتدفق حرارة وشوقاً لما عند الله تعالى فغلب إيمانهم قوة الجبابرة. لقد كانوا بحق أصحاب يقين لا يزول وعقيدة صلبة فعالة لا تحول وولاء لدينهم غلب كفاءة الفرس والروم فكان الواحد فيهم يمضي لما أمره الله تعالى ولو خالف من في الأرض جميعاً واثقا من نصر الله له فلا تلين لهم قناة ولا يحفلون بالمخاطر والصعاب حسبهم إرضاء الله عز وجل ونصرة دينه وتحيط بهم الأحزاب من كل حدب وصوب فيقولون في ثقة: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، ولما استشار عمر أصحابه في مسيرة إلى العراق في وقعة نهاوند قال له علي بن أبي طالب: “يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر لم يكن نصرة ولا خذلاناً بكثرة ولا قلة هو دينه الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ فنحن على موعد من الله والله منجز وعده وناصر جنده” وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) لقد كانوا يؤمنون فعلاً بقوة الله تعالى ويؤمنون بنصره لهم مهما عظم عدوهم وقلوا لأن القوي بلا تأييد الله ضعيف والضعيف بتأييد الله قوي. ومن منا لا يعرف موقف الصديق رضي الله عنه الذي فيه معاندة للعقل وذلك أنه عندما التحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ارتدت العرب وظهر النفاق وبقي المسلمون كالغنم في ليلة مطيرة وامتنع الآخرون عن أداء الزكاة ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة وأراد أبو بكر الصديق، والحالة هذه، تنفيذ رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنفاذ جيش أسامة فقال له المسلمون إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك ولا ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، ولكنه أصر على تجهيز الجيش وإنفاذه، ولو فكر تفكير السياسيين لما أنفذ الجيش خاصة وأن عمر الذي عهد منه الشدة قال لأبي بكر تألف الناس، وحاول أن يقنع الصديق بالعدول عن إنفاذ هذا الجيش ولكن إيمان الصديق أبى عليه إلا أن ينفذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ويعاند العقل فقام إلى عمر وأخذ بلحيته وقال له ثكلتك أمك يا ابن الخطاب والله لو خطفتني الكلاب والذئاب لنفذته كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أرد قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته وقال أيضاً كلمته المشهورة: “أينقص الدين وأنا حي”؟!!

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *