سياسة أميركا الاستعمارية في أميركا اللاتينية

منذ أن اكتشف كولمبوس العالم الجديد تطلعت عيون الاستعمار الأوروبي إليه من أجل استغلاله ونهب كنوزه واستعباد أهله والسيطرة عليه، فوقعت أميركا الجنوبية والوسطى في معظمها ضحية الاستعمار الإسباني والبرتغالي، وكانت حصة الأسد في هذه المنطقة لصالح إسبانيا، وقد فرضت استعمارها الوحشي عن طريق ارتكاب الجرائم البشعة والتي تعتبر بحق إبادة جماعية لكثير من أهل البلاد، وهذه الأعمال الإرهابية هي في الواقع التجسيد العملي لفكرة الاستعمار، وهي من الدلائل والحقائق التاريخية على بشاعة وخطورة الاستعمار على شعوب الأرض. ولقد ركزت كل من إسبانيا والبرتغال في بداية غزوهم واستعمارهم لهذه المنطقة على أهم دولتين فيها: المكسيك والبرازيل، لأنهما الثغرة للنفاذ إلى أميركا اللاتينية كلها بما فيها منطقة الكاريبي. ووقعت الولايات المتحدة وكندا ومعظم منطقة الكاريبي فريسة الاستعمار البريطاني والفرنسي، وكانت حصة الأسد في هذه المناطق لصالح الإنجليز، ثم نشب بينهما صراع على الاستعمار والاستغلال في هذه المناطق انتهى هذا الصراع لصالح الإنجليز، وبهذا سيطر الإنجليز على معظم المناطق الشمالية من القارة الأميركية ومنطقة الكاريبي.

وشعوب أميركا اللاتينية أكثر شعوب العالم التي عانت من الاستعمار واكتوت بناره التي أهلكت الحرث والنسل منذ أكثر من أربعة قرون، وبالرغم من المعاناة الرهيبة من الاستعمار فإن هذه الشعوب قد قاومت الاستعمار مقاومة عنيفة وما زالت تقاومه بكل قوة إلا أنها أخفقت كل الإخفاق في التحرر من الاستعمار، لأنها ناضلت من أجل التحرير بالاستعانة بمستعمر على مستعمر، أي استعانت لتحرير كيانها من الاستعمار الأوروبي بالاستعمار الأميركي. والولايات المتحدة لم تساند هذه الشعوب وتدعم ثوراتها لكي تتحرر من أوروبا واستعمارها الغاشم وإنما أثارت هذه الشعوب ضد الهيمنة الأوروبية ودعمت حركات التحرر من أجل أن تحل محل الأوروبيين في النهب والاستغلال والاستعباد ومص الدماء والسيطرة والاستعمار، وبهذا خرجت هذه الشعوب من استعمار لتدخل في استعمار أخطر وأبشع وأعقد، ولهذا فإن هذه الشعوب تحمل للولايات المتحدة كدولة استعمارية وإرهابية الكراهية الشديدة، والعداء المستحكم في أعماق الفكر والحس، والنقمة العارمة، والحقد العميق الجذور. وهذه الشعوب قد حاولت الخروج على السيطرة والهيمنة الأميركية الجاثمة على قلوبهم، ولكن كافة محاولاتها قد فشلت لأنها كانت تتم ضمن السيطرة الأميركية، وكانت الولايات المتحدة تتحكم بها وبمسارها وأبعادها. ومن هنا فستبقى هذه الشعوب مستضعفة ومستعبدة وذليلة وبلادها مزرعة للولايات المتحدة ما دام يسيطر عليها سوء التفكير السياسي الذي يدمر الشعوب والأمم ومنه عدم إدراك حقائق السياسة الأميركية الاستعمارية وإدراك حقيقة التحرير والأمم والأسس المبدئية الصحيحة التي يبنى التحرير عليها، فهذه الشعوب قد منحت الفرصة الذهبية للتخلص من الاستعمار الأوروبي ولكنها أخفقت في استغلال هذه الفرصة بسبب سوء التفكير السياسي مما أدى إلى وقوعها في قبضة الاستعمار الأميركي، وهذا بخلاف ما حصل مع ما يسمى بالشعب الأميركي فقد كان واقعا تحت نير الاستعمار البريطاني، أي واقعاً في المشكلة نفسها، ولكن الشعب الأميركي قاد حرب التحرير بالاعتماد على النفس، ونجح في استغلال الظروف الدولية للخروج على السيطرة والاستعمار الإنجليزي الخبيث، وتمكن من إيجاد ما يسمى بالاتحاد الفدرالي للولايات المتحدة، وعمدت الولايات المتحدة إلى بناء قوتها الذاتية السياسية والاقتصادية والعسكرية، فأصبحت قوة يحسب لها ألف حساب، ولم تكتف بذلك بل قاومت التدخل الأوروبي في شؤونها الداخلية وهددت أوروبا بالحرب الضروس إن لم ترتدع عن غيها وتدخلها، وبادرت بتهديد مصالح أوروبا في أميركا اللاتينية وأثارت شعوبها وحرضتها ضد الاستعمار الأوروبي وشجعت وساندت حركات التحرير لا عطفا وشفقة على هذه الشعوب ولا من أجل إنقاذها من براثن الاستعمار الأوروبي بل من أجل استعمارها وفرض السيطرة عليها ثم فرضت سيطرتها على معظم جزر الكاريبي وعلى كندا واشترت ألاسكا من روسيا وضمتها إلى الولايات المتحدة فصار العالم الجديد تحت السيطرة الأميركية ونجحت في فرض سيطرتها الدولية على الدول التي كانت كبرى تحت شعار هيئة الأمم ومنه مجلس الأمن، وها هي الآن تسعى لفرض سيطرتها العالمية على العالم كله تحت شعار النظام العالمي الجديد وشعار (تطوير هيئة الأمم) وخصوصا بعد نجاح أميركا في تحطيم الشيوعية والاتحاد السوفياتي وخلق الأزمات السياسية والاقتصادية من أجل تفتيتها والسيطرة عليها ونجاحها في استعمار العديد من دول أوروبا ـ كألمانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان ـ وهي تسعى سعيا جادا وحثيثا لفرض سيطرتها واستعمارها على فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين ولقلع النفوذ البريطاني والفرنسي من آسيا وأفريقيا ولتحل محل روسيا في توابعها في أوروبا وآسيا.

هذا هو حال الشعب الأميركي والولايات المتحدة والذي يختلف كل الاختلاف عن حال شعوب ودول أميركا اللاتينية التي ما زالت ترزح تحت نير الاستعمار الأميركي وما زالت تعاني من أثاره الخطيرة والخطرة على كيانها، مع أن كلا منهما قد وقعتا في المشكلة نفسها ومع أن أميركا اللاتينية أكثر ثروة من حيث الكنوز والثروات والموارد الطبيعية وأكثر عددا من حيث السكان، ولكن المسألة لا تتعلق بالكم البشري ولا تتعلق بالمال والثروة وإنما تتعلق بالتفكير السياسي ومنه الانتفاع والتأثر بالحقائق التي ترفع أو تدمر القوى السياسية، فمن الحقائق أن الاستعانة بمستعمر على مستعمر هو انتحار سياسي للقوى السياسية، فأميركا لا تختلف عن أوروبا، والمبدأ الرأسمالي الذي تقوم عليه هذه الدول هو مبدأ خطير وخطر على شعوب العالم، وهو سبب شقاء العالم، والاستعمار جزء لا يتجزأ من هذا المبدأ القاتل وهو، أي الاستعمار: الطريقة لنشر هذا المبدأ العفن في العالم ولهذا لم يكن غريبا أن تحل الولايات المتحدة محل أوروبا في استعمار أميركا اللاتينية أو أن تحاول الهيمنة على أوروبا وروسيا والصين أو أن تحل محل الروس في أفغانستان، ولهذا أيضا لم يكن غريبا على الولايات المتحدة القيام باحتلال أراض من أميركا الوسطى وضمها للولايات المتحدة بالقوة والحرب وخصوصا الأراضي الغنية بالثروات الهائلة فقد انتزعت الولايات المتحدة أكثر من نصف الأراضي المكسيكية بالقوة العسكرية، ووقعت هذه الأراضي تحت الاحتلال الأميركي واعتبرت جزءا من الولايات المتحدة ـ كتكساس وكاليفورنيا ـ وجرى نهب كنوزهما وثرواتهما لصالح أهل شمال الولايات المتحدة، ومن أجل الاستعمار والسيطرة قامت الولايات المتحدة بالتدخل في شؤون دول الجوار الضعيفة ومارست فيها الإرهاب بكافة أشكاله وألوانه من أجل إيجاد حالة الرعب والخوف لدى الدول الأقوى في أميركا اللاتينية وغيرها لكي لا تفكر في الخروج على السيطرة والاستعمار الأميركي، فهي قد تدخلت ومارست الإرهاب في تشيلي، والدومينيكان ونمواتيمالا، وغرانادا والسلفادور، ونيكاراغوا، وبنما.

وأما السياسات الأميركية الاستعمارية في أميركا اللاتينية فتتلخص بما يلي:

1ـ تعتمد على العسكر والجنرالات في حكم البلاد، وإخفاء عمالة هؤلاء العسكريين للولايات المتحدة ليحكموا البلاد بالحديد والنار.

2ـ تعتمد على الانقلابات العسكرية عن طريق تحكمها بجنرالات الجيش وربطهم بالمخابرات الأميركية، كأسلوب لتغيير أدوات الحكم في هذه البلدان إذا اقتضت الظروف ذلك لديمومة سيطرتها عليها.

3ـ تعتمد على سياسة التدخل المباشر وغير المباشر في هذه البلدان بذريعة الديمقراطية أو الأخطار الوهمية والمفتعلة في هذه البلدان.

4ـ تعتمد على أسلوب القواعد العسكرية والتدخل العسكري في البلدان الضعيفة من أجل السيطرة أو إحكام هذه السيطرة أو ردع باقي البلدان الأقوى والتي تشكل خطرا عليها كالمكسيك والبرازيل، ولكي لا تفكر هذه البلدان بالاستقلال والوحدة للوقوف في وجه الاستعمار الأميركي والعمل على طردها من أميركا اللاتينية والقيام بتحرير أراضيها المغتصبة من الولايات المتحدة ولهذا فهي تخشى أية وحدة بين المكسيك والبرازيل لأن ذلك يؤدي بسهولة ويسر إلى توحيد أميركا اللاتينية.

5ـ تريد الولايات المتحدة إدخال البرازيل أو المكسيك في مجلس الأمن بعد تطوير هيئة الأمم لترسيخ العداء بين هاتين الدولتين ومن أجل ترسيخ استعمارها في أميركا اللاتينية واحتواء الأخطار المتوقعة لأنها ترى في أميركا اللاتينية الغابة السياسية العملاقة التي إذا شبت النار فيها خارج نطاق السيطرة الأميركية فإنها لن تتمكن من إطفائها وستحرق الولايات المتحدة.

6ـ توليد الأزمات الاقتصادية والسياسية بصورة متواصلة داخل هذه البلدان لجعلها تدور في حلقات مفرغة وللإبقاء عليها دولا متخلفة من ناحية سياسية واقتصادية وحتى من الناحية العسكرية.

7ـ تفرض سيطرتها على حكام البلاد وعلى الأوساط السياسية والفكرية وكافة الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وعلى الكنائس عن طريق أدواتها المرتبطة بالمخابرات الأميركية، وتفرض سيطرتها على الصناعة والإنتاج في هذه البلدان وتحتكر مواقع الثروات والكنوز عن طريق الشركات والاستثمارات الأميركية.

8ـ تعتمد على ما يسمى بتقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية والقروض لهذه البلدان لتبقى مربوطة بعجلة الاستعمار الأميركي ربطا محكما.

9ـ تعتمد على سياسة العدوان غير المباشر من التخريب والتدمير وإشعال الحرائق وشراء الذمم وتقديم المساعدات العسكرية والمالية لما يسمى بالحركات الثورية وعصابات المافيا من أجل إيجاد الفوضى والاضطراب السياسي في هذه البلدان لتبقى هذه الشعوب تعيش في فقر مدقع وبؤس مذل وقلق واضطراب دائمين.

10ـ تمارس الضغط السياسي على هذه البلدان لتسير في سياسات الخصخصة والعولمة واقتصاد السوق الحرة من أجل الإسراع في نهب ثرواتها وكنوزها ومن اجل التحكم بتفجير هذه البلدان متى أرادت.

11ـ ديمومة إيجاد حالات الفراغ بكافة مظاهره وأشكاله، وهذا الفراغ الذي تخطط له الولايات المتحدة وتحدثه في هذه الدول، هو من أخطر السياسات الأميركية في إبقاء هذه البلدان تابعة لها وغير قادرة على الثبات أو العمل للانفكاك من قبضتها الاستعمارية الغاشمة.

12ـ تعتمد على سياسة تسخير واحتواء واستغلال الأفكار على اختلاف أنواعها وصفاتها في إحداث الفتن والثورات الداخلية لإيجاد الفوضى العارمة في هذه البلدان لتتلهى القوى السياسية والفكرية فيما بينها وتحطم بعضها البعض وبالتالي تغفل عن التفكير في التصدي للولايات المتحدة واستعمارها وأدواتها والعمل على قلع ذلك من الجذور ومن أجل هذا غضت الولايات المتحدة الطرف عن قيام الاتحاد السوفيتي السابق بزرع أفكاره في أميركا اللاتينية لتقوم هي وأدواتها نيابة عن الاتحاد السوفيتي برعاية شؤون هذا الزرع والتحكم به من أجل الحرق أو الاحتواء أو الحصد قبل النضوج، ليكون هذا الفكر أداة فعالة في خلق الفوضى الشاملة في هذه البلدان ولتعميق الاضطراب السياسي فيها تحت شعار (الثورة الدائمة) الشعار الذي طرحه عميلها فيدل كاسترو الذي تربى في أحضان المخابرات الأميركية.

هذه هي أبرز وأهم السياسات الأميركية في استعمار أميركا اللاتينية وتوطيده لتبقى هذه الدول والشعوب والأحزاب ضمن السيطرة والاستعباد والإذلال والاستغلال ولتبقى هذه البلدان مزرعة لها أبد الآبدين ودهر الداهرين .

عبد الهادي العابد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *