العدد 138 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

بيعة العقبة الثانية أو بيعة الحرب

قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال: مكث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلّغ رسالة ربي وله الجنة» فلا يجد أحداً يؤويه وينصره. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتننك، ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدّقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعاً، فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة» فقمنا إليه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة. فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم وتعضّكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبيّنوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أبطِ عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها أبداً. قال: فقمنا إليه فبايعناه. وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.

قال ابن إسحاق عن معبد عن عبد الله عن أبيه كعب بن مالك قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا (وهما نسيبة بنت كعب أم عمارة المازنية، وأسماء ابنة عمرو بن عدي من بني سلمة وهي أم منيع). قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج، إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه. فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام. قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فقال فأخذ البراء بن معرور بيده، وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابراً عن كابر. فاعترض القول أبو الهيثم بن التيّهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم». قال كعب وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم»، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. قال ابن إسحاق فحدّثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي».

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنّ القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ قالوا نعم، قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟ قال: «الجنة» فبسط يده فبايعوه. وروى البيهقي أن عبادة بن الصامت قال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة.

فلما فرغت البيعة والاستيثاق، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إرفضّوا إلى رحالكم» فقال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منىً غداً بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بعد، ولكن ارجعوا إلى رحالكم».

وهكذا وجد في المدينة المنورة النواة الصلبة لإقامة دولة الإسلام الأولى، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *