العدد 253 -

العدد 253- السنة الثانية والعشرون، صفر 1429هـ، الموافق شباط 2008م

الرجال والمواقف

الرجال والمواقف

 

إن التاريخ يصنع من قبل الدولة والأفراد صناعة، والأمم تكتب وتسجل أمجادها بأسمائها وبأسماء عظمائها من أبنائها، والتاريخ هو تدوين لمجموعة الحوادث اليومية السياسية وغيرها، ويكون التاريخ مميزاً للدولة صاحبة المبدأ و التي تحمل وجهة نظر معينة، خاصة إذا كانت تحمل مبدأ إلهياً تعمل على نشره في العالم لصالح البشرية.

وبالرجوع إلى التاريخ نجد الحوادث الكثيرة التي وقفت فيها الدول مواقف مشرفة خُلدت على مر العصور. والأمة التي تستميت من أجل نشر رسالتها تموت بعزة ورفعة، والأمة التي تموت وتنحني أمام الآخرين وتفقد الجرأة تموت بذل وهوان، وكذلك الأفراد فقد وجد أفراد مبدئيون حملوا فكرة معينة وعاشوا من أجلها وأخلصوا في سبيل نشرها غير آبهين بما يلحق بهم من أذى، وقد تكون الفكرة التي يضحى من أجلها فكرة صحيحة نابعة من وجهة نظر صحيحة، وقد تكون فكرة خاطئة من وجهة نظر خاطئة تبناها شخص ما لمصلحة عنده؛ وهنا ينشأ الاختلاف في وجهات النظر تبعاً للمصالح، وهذا طبيعي بين بني البشر، وهذا الاختلاف قد يزيد ويتطور إلى مرحلة الصراع الدموي وإزاهاق الأرواح، وهنا المحك وموازنة المصالح؛ فتنشأ حلبة الصراع الذي يتطلب الحسم وبناء المواقف التي تكشف وزن الرجال.

وهنا لا بد من الوقوف وقفة مع الرجال وأشباه الرجال!، وهل للرجال صفات معينة؟ أم أن الذكورة في الرجال تكفي لأن يقف الإنسان موقفاً مشرفاً؟

والحقيقة أن بحث الرجولية لم يكن موضع بحث عند فهم الأحكام الشرعية وتطبيقها، وقد تم بحث مثل هذا الأمر لافتقار الأمة الإسلامية للرجال، وكأنها تعيش أزمة رجال، ولكثرة الصيحات التي تقول أين الرجال؟ وكأن كلمة رجال أصبحت غريبة في وقتنا، وعند التدقيق في البحث نجد أن الحكم على الرجولية هو من خلال مواقف معينة ومن وجهة نظرنا التي نحملها، فكثيراً ما تقول عندما تسأل عن شخص إن هذا رجل، وكثيراً ما نقول عن شخص آخر إنه ليس برجل أو شبه رجل، إنه ولد ولو كان بالغاً، فالأصل وصف الواقع كما هو، فهناك فرق بين الرجولية والذكورة.

قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب 23]. و هنا تبين الآية أن هناك رجالاً، وليس كل المؤمنين، ومن هنا للتبعيض وقد حددت الآية صفات للرجال، ولم تقل الآية من المؤمنين ذكور، وليس كل ذكر رجلاً، وليس كل المؤمنين رجالاً، ولا كل أصحاب العضلات المفتولة رجالاً، ولا كل أصحاب النياشين البراقة رجالاً، ولا كل الأمة الإسلامية ذات المليار ونصف المليار مسلم كلها رجالاً. فوصف الرجال في القرآن منح لصنف معين من الناس، وهم الذين صدقوا ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يهادنوا ولم يداهنوا ولم ينافقوا، ولم يتنازلوا عن أرض الإسلام ولا عن حكم شرعي واحد. وفي آية اخرى، قال تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور 37]. فالالتزام بشرع الله هو للرجال بالنسبه لنا كمسلمين قال تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس 20]، وقال تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص 20] فالنصح للرجال. وقال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) [غافر 28] هذا الرجل الذي لم يخشَ فرعون تمثلت فيه الرجولية الحقة.

هؤلاء الرجال الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في الآيات لهم صفات معينة، هذه الصفات هي مقومات الرجولة، وجاء في الحديث الشريف: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، ورجل ذكر الله خالياً، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، ورجلان تحابا في الله». هذه هي الرجولية الحقيقية التي تحمل هذه الصفات… وعند التدقيق يتبين كثرة استخدام هذه الكلمة في النصوص وبين الناس، وعند البحث في واقع الأمة نلاحظ أن «وامعتصماه» قد اختفت من الوجود، فلمن تقال؟!

لقد ورد عن سيدنا علي t أنه قال: «أحمد ربي على خصال خص بها سادة الرجال: لزوم صبر، وترك كبر، وصون عرض، وبذل مال» فالرجولية الحقيقية الصحيحة عند المسلمين هي الالتزام بالشرع الإسلامي، وانعدام الرجولية تعني ضعف الإيمان.

وفي الآية الكريمة: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) [الشعراء 165] ولم يقل الرجال؛ لأن الرجال لا تفعل مثل هذه الأفعال، فالآية تبين هنا الفعل. هؤلاء أشباه الرجال وليسوا رجالاً، هم ذكور وهي صفة خَلقية، أما عندما قال في آية أخرى (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) [الأعراف 81] هنا بيَّن النوع وركز عليه. فالرجولية مكتسبة يحملها الإنسان حسب وجهة نظره في الحياة.

وعندما سمعت تلك المرأة حديث قومها والذين لم يقفوا الموقف الصحيح، فخرجت إليهم فعابوا عليها خروجها فقالت:

ما كانت الحسناء لترفع سترها

لو أن في هذي الجموع رجالا

وقال الشاعر:

فكم من رجل يعد بألف رجل

وكم من ألف تمر بلا عداد

      فموقف هذه المرأة موقف رجال، وموقف أم عمارة في غزوة أحد موقف رجال، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها: «ما التفت يمنة ولا يسرة إلا ووجدتها تدافع عني».

فالرجال أصحاب المبادئ الملتزمين بها، أصحاب القناعات والمفاهيم الصحيحة، هم الذين جاء وصفهم بالآيات، فإذا وجدت هذه الصفات فيك فأنت رجل وإلا فأنت ذكر فقط، فأصحاب المصالح الشخصية والمواقف المخزية ليسوا رجالاً، فكثرة الأموال وكبر الحجم وطول الشنب ليس لها وزن في مقياس الرجولية، فالرجل الذي يخالف الشرع بلبسه لخاتم من ذهب ويعتبره مقدساً إخلاصاً لزوجته ليس رجلاً، والذي يلبس زي النساء متشبهاً بهن ليس برجل، والذي يقلد الأجنبي ليس برجل، والذي يقول: «أمشي الحيط الحيط» ليس برجل، ومن يتعرض للأذى ومن أول محنة يتراجع ليس برجل، والذي يحب مجالسة ومخالطة النساء الأجانب عنه ليس برجل، ففي الحديث الشريف: «يأتي الرجل السمين العظيم، عند الله لا يزن جناح بعوضة». وقد جاء في الحديث الشريف كذلك: «ومازال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صِدِّيقاً، ومازال العبد يكذب…». وهذا بيان من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرجل لا يكذب، وإنما العبد المسلوب الإرادة هو الذي يكذب، فمن لم يكن رجلاً في دينه وملتزماً لا يكون رجلاً في أي شيء، فمن يضيع وقته في اللعب وفي السهرات على الفضائيات ليس كمن يحرس في سبيل الله. قال الشاعر:

مَلَكنا هذه الدنيا قرونا
وسطرنا صحائفَ من ضياء
رجالٌ ذللوا سبل المعالي
فما عرفوا الخلاعة في بنات
وإن جن المساء فما تراهم
هكذا أخرج الإسلام قوماً
وعلمه الكرامة كيف تُبنى
وعلمه الخلافة كيف تبنى

وأخضعنا جنوداً خالدينا
فما نسي الزمان وما نسينا
وما عرفوا سوى الإسلام دينا
وما عرفت التخنث في بنينا
من الإشفاق إلا خاشعينا
شباباً مخلصاً حراً أمينا
فيأبى أن يقيد أو يهونا
تعيد أمجاداً وعزاً ودينا

هذه بعض الصفات للرجال، أما عند الحديث عن المواقف في وقتنا الحالي، فإن الانسان يشعر بالمرارة والأسى من الفرق الكبير بيننا وبين أسلافنا من اختلاف في المواقف. صحيح أن الأمة لا تخلو من بذرة الخير ولا من المواقف البطولية، ولكنها قليلة إذا قورنت بمن سبقنا في الدعوة إلى الله، فالأمر محرج أن نبقى نتغنى بالأمجاد ونفتخر بها وفي كتابتها، ولا نعمل بما يتوجب علينا فعله ونقتدي بهم ملتزمين بديننا.

فلقد أصابنا الوهن وأصبحنا غثاء كغثاء السيل، لا قيمة لنا سوى أننا حطب لنيران يشعلها أعداؤنا، إنهم يصولون ويجولون في أرض الإسلام لا يجدون من يمنعهم ويقف أمامهم، فقد اختفى الرجال من الساحات إلا من رحم ربي، واختفت المواقف، فانتعش الظالمون وتقدم الرويبضات وظهرت المواقف المخزية؛ فعطلت أحكام الشرع، وأسقطت الخلافة، وظهرت دول التشرذم والتمزيق، فأوقفوا صناعة التاريخ المشرف، وحاول الحكام صناعة تاريخ بطولي لهم مدعين أنهم أبناء الأبطال تارة، ومتنصلين من المسلمين أجدادهم تارة أخرى، قلبوا الحقائق وأغلقوا أبواب النصر ومنعوا الجهاد وفتحوا أبواب الخيانة والصلح والاستسلام، قتلوا المخلصين وسجنوا حملة الدعوة تاجروا بقضايا الأمة في أسواق اليهود والنصارى.

هؤلاء الرويبضات أشباه الرجال لا الرجال، ماذا يكتب التاريخ عنهم؟ وماذا يسجل؟ أيكتب لهم هدم الخلافة الإسلامية؟ أم يكتب لهم بيع فلسطين؟ أم يسجل لهم هزائمهم؟ أم يسجل لهم خذلانهم لأهل العراق وأهل فلسطين؟ أم يسجل لهم استنكارهم وشجبهم؟ أم هروبهم في المعارك؟ أم تسليم أنفسهم وبلادهم لأميركا؟ أم يسجل لهم تسليم أسلحتهم دون قتال كما فعل القذافي في سابقة لم تحدث في التاريخ؟. أهؤلاء رجال؟! لاوالله.

إن التاريخ سوف يكتب ويسجل كما سجل سابقاً. كل من ارتبط اسمه بالخيانة والخنوع والعمالة للكفار، إن التاريخ سوف يكتب ويسجل ويربط الأحداث بالأشخاص تبعاً لمواقفهم، فإذا ذكرت ياسر عرفات والسادات ومبارك وحسين وقرضاي ومشرف ومجلس الحكم في العراق وعلاوي ذكرت معهم الخيانة والعمالة والخنوع، فإذا عرف الموقف عرف الرجل والعكس صحيح.

إن المسلمين أمة صنعت تاريخها بيدها، فسطرت أروع الصور وسجلت أفضل المواقف، وشهد على ذلك العدو قبل الصديق، فكانوا إذا ذكرت الحادثة ذكر الشخص، وإذا ذكر الشخص ذكرت الحادثة؛ لأنهم وقفوا مواقف تبعاً لدينهم لا يخافون في الله لومة لائم، يقولون الحق مهما كانت النتائج، فلا يقفون على الحياد، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، مقتدين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملتزمين بما جاء به، معتزين بصحابته الذين استطاعوا أن ينشروا الإسلام ويبنوا دولة عظيمة في زمن قياسي.

فهذا عمر بن الخطاب ارتبط اسمه بفتح بيت المقدس والعهدة العمرية إذا ذكر هذا الحدث العظيم ذكر عمر، وهذا خالد بن الوليد وأبو عبيدة يذكِّرانا بفتح الشام والقضاء على الروم، وهذا محمد الفاتح ارتبط اسمه بالقسطنطينية ويذكِّرنا بفتح روما. وهذا موسى بن نصير وطارق بن زياد ارتبط اسمهما بفتح الأندلس، وهذا صلاح الدين ارتبط اسمه بتحرير القدس ودحر الصليبيين، وهذا هارون الرشيد يذكِّرنا بكلب الروم، وهذا المعتصم يذكِّرنا بوامعتصماه، وهذا العز بن عبد السلام ارتبط اسمه بمحاسبة الحكام وبلقب بائع الملوك، وإذا ذكر هؤلاء لا تذكر أموالهم ولا أولادهم ولا تجارتهم، وإنما يذكرون بمواقفهم البطولية التي خلدت أسماءهم.

وعلى هذه فلنحرص على أن نقف الموقف الصحيح؛ لأن الرجل موقف كما قيل، فقد يكون الموقف كلمة حق تقال، أو عملاً جليلاً يقوم به الإنسان يخلد اسمه ويصبح مثلاً يحتذى به وسنة حسنة إلى يوم القيامة. وعليه فالمواقف الحقيقية لها شروط وهي:

1- أن تكون المواقف وفق الحكم الشرعي وينظر لها أنها متطلبات شرعية يراد منها وجه الله.

2- أن تكون المواقف مواقف للحق واضحة وكاملة فلا يوجد نصف موقف.

3- أن تكون المواقف في وقتها ومكانها المناسب.

4- أن لا يكون الموقف رد فعل، وإن كان لا بد فالأصل أن يكون الموقف إيجابياً.

5- أن لا يكون الموقف تبعاً للمصالح الشخصية.

وهذا يتطلب من المسلم أن يكون عالماً بدينه واعياً سياسياً، وعلى دراية بما يجري حوله من أحداث، وكيِّساً فطناً، وشخصيته إسلامية، يعرف العدو من الصديق. ويجب أن يعلم المسلم أن صراعنا مع غيرنا هو صراع حضاري عقائدي وأن ملة الكفر واحدة، ويجب أن يعلم أن أمة الإسلام ليس مكتوباً عليها أن تظل تحت نير الاحتلال إلى الأبد؛ وهذا ما سيدفعه للتضحية والبذل والعطاء لخدمة دينه وأمته.

وعلى هذا فيجب إعداد جيل قادر على الوقوف مواقف تخلد أسماءهم، ووضع آليات لإعداد الرجال إعداداً طبيعياً من خلال التزامنا بديننا، فالذي يسمع قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». والذي يسمع ذلك ويفهمه ويطبقه وتكون هجرته لله ويعلم أن الرزق بيد الله، ويخشى الله ولا يخشى الناس، فيصبح بذلك شخصية إسلامية ذا مواقف بطولية، ويتحمل مسؤوليته ليقف موقف الرجال. والرجال موجودون في ظل الدولة وفي عدمها، ولكنها تساعد في إيجاد جو أفضل لصنع الرجال وإعدادهم.

إن تاريخنا مليء بالمواقف الصحيحة التي يحتذى بها على مر العصور والتي شهد لها الجميع، وعلى هذا فيجب علينا كتابة تاريخ جديد كما سطره أجدادنا، فمازالت أمتنا تنجب رجالاً ولازالت صفحات التاريخ مفتوحة أمام المخلصين لكتابته من جديد. تاريخ يعيد للأمة مجدها وعزها، فكما خلَّد التاريخ اسم محمد الفاتح بفتح القسطنطينية فإن روما تنتظر من يخلد اسمه في صفحات تاريخ مشرف في القريب العاجل إن شاء الله… وكذا فلسطين وسائر بلاد المسلمين المحتلة… وقبل كل ذلك، فإن الأمة كلها تنتظر من يقيم لها أمر دينها، خلافةً راشدةً على منهاج النبوة، يرضى عنها ساكن السماء والأرض. قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب 23].

موسى عبد الشكور – الخليل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *