الرجال والمواقف
إن التاريخ يصنع من قبل الدولة والأفراد صناعة، والأمم تكتب وتسجل أمجادها بأسمائها وبأسماء عظمائها من أبنائها، والتاريخ هو تدوين لمجموعة الحوادث اليومية السياسية وغيرها، ويكون التاريخ مميزاً للدولة صاحبة المبدأ و التي تحمل وجهة نظر معينة، خاصة إذا كانت تحمل مبدأ إلهياً تعمل على نشره في العالم لصالح البشرية.
وبالرجوع إلى التاريخ نجد الحوادث الكثيرة التي وقفت فيها الدول مواقف مشرفة خُلدت على مر العصور. والأمة التي تستميت من أجل نشر رسالتها تموت بعزة ورفعة، والأمة التي تموت وتنحني أمام الآخرين وتفقد الجرأة تموت بذل وهوان، وكذلك الأفراد فقد وجد أفراد مبدئيون حملوا فكرة معينة وعاشوا من أجلها وأخلصوا في سبيل نشرها غير آبهين بما يلحق بهم من أذى، وقد تكون الفكرة التي يضحى من أجلها فكرة صحيحة نابعة من وجهة نظر صحيحة، وقد تكون فكرة خاطئة من وجهة نظر خاطئة تبناها شخص ما لمصلحة عنده؛ وهنا ينشأ الاختلاف في وجهات النظر تبعاً للمصالح، وهذا طبيعي بين بني البشر، وهذا الاختلاف قد يزيد ويتطور إلى مرحلة الصراع الدموي وإزاهاق الأرواح، وهنا المحك وموازنة المصالح؛ فتنشأ حلبة الصراع الذي يتطلب الحسم وبناء المواقف التي تكشف وزن الرجال.
وهنا لا بد من الوقوف وقفة مع الرجال وأشباه الرجال!، وهل للرجال صفات معينة؟ أم أن الذكورة في الرجال تكفي لأن يقف الإنسان موقفاً مشرفاً؟
والحقيقة أن بحث الرجولية لم يكن موضع بحث عند فهم الأحكام الشرعية وتطبيقها، وقد تم بحث مثل هذا الأمر لافتقار الأمة الإسلامية للرجال، وكأنها تعيش أزمة رجال، ولكثرة الصيحات التي تقول أين الرجال؟ وكأن كلمة رجال أصبحت غريبة في وقتنا، وعند التدقيق في البحث نجد أن الحكم على الرجولية هو من خلال مواقف معينة ومن وجهة نظرنا التي نحملها، فكثيراً ما تقول عندما تسأل عن شخص إن هذا رجل، وكثيراً ما نقول عن شخص آخر إنه ليس برجل أو شبه رجل، إنه ولد ولو كان بالغاً، فالأصل وصف الواقع كما هو، فهناك فرق بين الرجولية والذكورة.
قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب 23]. و هنا تبين الآية أن هناك رجالاً، وليس كل المؤمنين، ومن هنا للتبعيض وقد حددت الآية صفات للرجال، ولم تقل الآية من المؤمنين ذكور، وليس كل ذكر رجلاً، وليس كل المؤمنين رجالاً، ولا كل أصحاب العضلات المفتولة رجالاً، ولا كل أصحاب النياشين البراقة رجالاً، ولا كل الأمة الإسلامية ذات المليار ونصف المليار مسلم كلها رجالاً. فوصف الرجال في القرآن منح لصنف معين من الناس، وهم الذين صدقوا ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يهادنوا ولم يداهنوا ولم ينافقوا، ولم يتنازلوا عن أرض الإسلام ولا عن حكم شرعي واحد. وفي آية اخرى، قال تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور 37]. فالالتزام بشرع الله هو للرجال بالنسبه لنا كمسلمين قال تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس 20]، وقال تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص 20] فالنصح للرجال. وقال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) [غافر 28] هذا الرجل الذي لم يخشَ فرعون تمثلت فيه الرجولية الحقة.
هؤلاء الرجال الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في الآيات لهم صفات معينة، هذه الصفات هي مقومات الرجولة، وجاء في الحديث الشريف: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، ورجل ذكر الله خالياً، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، ورجلان تحابا في الله». هذه هي الرجولية الحقيقية التي تحمل هذه الصفات… وعند التدقيق يتبين كثرة استخدام هذه الكلمة في النصوص وبين الناس، وعند البحث في واقع الأمة نلاحظ أن «وامعتصماه» قد اختفت من الوجود، فلمن تقال؟!
لقد ورد عن سيدنا علي t أنه قال: «أحمد ربي على خصال خص بها سادة الرجال: لزوم صبر، وترك كبر، وصون عرض، وبذل مال» فالرجولية الحقيقية الصحيحة عند المسلمين هي الالتزام بالشرع الإسلامي، وانعدام الرجولية تعني ضعف الإيمان.
وفي الآية الكريمة: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) [الشعراء 165] ولم يقل الرجال؛ لأن الرجال لا تفعل مثل هذه الأفعال، فالآية تبين هنا الفعل. هؤلاء أشباه الرجال وليسوا رجالاً، هم ذكور وهي صفة خَلقية، أما عندما قال في آية أخرى (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) [الأعراف 81] هنا بيَّن النوع وركز عليه. فالرجولية مكتسبة يحملها الإنسان حسب وجهة نظره في الحياة.
وعندما سمعت تلك المرأة حديث قومها والذين لم يقفوا الموقف الصحيح، فخرجت إليهم فعابوا عليها خروجها فقالت:
ما كانت الحسناء لترفع سترها |
لو أن في هذي الجموع رجالا |
وقال الشاعر:
فكم من رجل يعد بألف رجل |
وكم من ألف تمر بلا عداد |
فموقف هذه المرأة موقف رجال، وموقف أم عمارة في غزوة أحد موقف رجال، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها: «ما التفت يمنة ولا يسرة إلا ووجدتها تدافع عني».
فالرجال أصحاب المبادئ الملتزمين بها، أصحاب القناعات والمفاهيم الصحيحة، هم الذين جاء وصفهم بالآيات، فإذا وجدت هذه الصفات فيك فأنت رجل وإلا فأنت ذكر فقط، فأصحاب المصالح الشخصية والمواقف المخزية ليسوا رجالاً، فكثرة الأموال وكبر الحجم وطول الشنب ليس لها وزن في مقياس الرجولية، فالرجل الذي يخالف الشرع بلبسه لخاتم من ذهب ويعتبره مقدساً إخلاصاً لزوجته ليس رجلاً، والذي يلبس زي النساء متشبهاً بهن ليس برجل، والذي يقلد الأجنبي ليس برجل، والذي يقول: «أمشي الحيط الحيط» ليس برجل، ومن يتعرض للأذى ومن أول محنة يتراجع ليس برجل، والذي يحب مجالسة ومخالطة النساء الأجانب عنه ليس برجل، ففي الحديث الشريف: «يأتي الرجل السمين العظيم، عند الله لا يزن جناح بعوضة». وقد جاء في الحديث الشريف كذلك: «ومازال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صِدِّيقاً، ومازال العبد يكذب…». وهذا بيان من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرجل لا يكذب، وإنما العبد المسلوب الإرادة هو الذي يكذب، فمن لم يكن رجلاً في دينه وملتزماً لا يكون رجلاً في أي شيء، فمن يضيع وقته في اللعب وفي السهرات على الفضائيات ليس كمن يحرس في سبيل الله. قال الشاعر:
مَلَكنا هذه الدنيا قرونا
|
وأخضعنا جنوداً خالدينا
|