العدد 253 -

العدد 253- السنة الثانية والعشرون، صفر 1429هـ، الموافق شباط 2008م

أضواء على التحرير الحقيقي مفهومه ومشروعه وأهله

أضواء على التحرير الحقيقي

مفهومه ومشروعه وأهله

 

لا يمضي يوم ويأتي الذي يليه إلا وحاجة العالم -وبخاصة المسلمين- إلى التحرير أشد، وثمن تأخّره أغلى، يدفعه العالم من دمه وماله وأمنه. فالشر مستطير  ويزداد، والظلم والاحتلال والقهر والاستعباد في اضطراد، يستوي في ذلك كل بقعة من بقاع العالم، وإن كان ذلك يظهر بشكل أوضح في بلاد المسلمين… ولكن في الوقت نفسه يوقن أهل الشرّ أن من المسلمين من هم أهل تحرير العالم من الكفر وأدرانه، من هم قادته وحملة لوائه، يراهم رأي العين، يرصد حركتهم فيندهش من حرارتهم وإصرارهم لتحقيق غاية مسعاهم، فينقم عليهم ويحاربهم لكي يحول بينهم وبين ما يرنون إليه بأفئدتهم وأبصارهم. كذلك فإنّ من المسلمين أناساً لا يعلمون ما هي مسؤوليتهم، ولا يدرون أنّهم أهل التحرير، وأن منهم من يسعون بينهم ومعهم لبلوغه فيهم وتحقيقه للعالم من خلالهم. فلألئك أتوجه تبصرة ولمن يسيرون على خطى التحرير الحقيقي طمأنينة، ولمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد تذكرةً، لأولئك أُلقي أضواءً أسأل الله أن تنير بنوره عزّ وجل درباً حُق له أن يراه المسلمون، وأن يتواصلوا به، ويسيروا من خلاله أجمعين؛ لتُرفع عنهم الغمة، ويُرضوا ربَّ العزة؛ ليدخل الناس أجمعين في ظل الإسلام أو في ظل حكمه؛ فيتحرر العالم كلّه من الشرّ بالخير. فلابد أولاً من بيان مفهوم التحرير الحقيقي، وثانياً مشروعه المبدئي، وثالثاً قادته والسائرين عليه، ليكون بذلك بلاغاً حسناً لأهله، علّه يوقظ نائماً، أو يثبت متردداً، أو يزيد السائرين على الحق طمأنينة وحقاً.

1- مفهوم التحرير الحقيقي:    

إن الحقيقة ما طابق الواقع ،عقلياً بالحس ونقلياً بالدليل القطعي ،وهي ليست ما طابق الواقع الذهني وإلا لتناقضت الحقائق ولما ظهر يوماً الحق على الباطل، وإن من أهم الحقائق التي لا تقبل الخلاف الأمور التي تتعلق بمصائر الناس، وما يكفل النجاة وتحقيق السعادة لهم، ومن ذلك مسعى الناس للتحرير. ولكن سبلهم في ذلك مختلفة، فمنهم من يجعل الاعتبار في التحرير والمرجعية له هو الأرض والوطن، ومنهم يجعل الاعتبار للجنس وللقوم كتحرير العرب وجمعهم على كلمة واحدة، ومن ذلك تحرير الرق من العبودية، وتحرير الشعوب الفقيرة من الفقر، والشعوب الجاهلة من الجهل، والشعوب المريضة من المرض، وهكذا فقد حدّد بعضهم خطواتٍ للتحرير بالمفهوم الوطني، فقالوا يجب أن تكون أول خطوة من خطوات التحرير هي تحرير الأرض من الاحتلال العسكري، ومن ثم تحرير الشعب العربي من الإمبريالية، وهكذا… ولوضع الأصبع على المفهوم الحقيقي للتحرير. فلا بد أولاً من معرفة مَن هو المحتاج للتحرير، هل هو الأرض أم الإنسان؟ هل هو العرق أم اللون أم جميع بني البشر؟ والجواب على ذلك إنما يكون باعتبار النظرة التي ينطلق منها مريد التحرير، فالناظر في واقع الإنسان يرى أنّ أول القيود التي تطوقه فطرياً هي العقدة الكبرى التي تتعلق بسبب مجيئه إلى هذه الحياة، ومن أين مبتدؤه، وإلى أين مصيره، وهذه هي عقدة العقد التي يحتاج لحلها ليتحرر من طوق الشقاء والحيرة، وأما ما يعانيه الإنسان من تسلط إنسان عليه  عسكرياً، أو سياسياً، أو اقتصادياً، أو تسلط الجوع والفقر والحرمان، وتسلط القوي على الضعيف، إلى آخره… فإنّ هذه الأمور وإن كان لها اعتبار حياتي آني مهم، إلا أنها يجب أن لا تستعمل لصرف الأذهان والجهود عن مركز التحرير الحقيقي، ونقطة ابتدائه، وغاية مبتغاه. فالإنسان في هذه الحياة  الدنيا تقوم الحقيقة القطعية على أنه لا بد له من مراعاة أنها -أي الحياة- ليست حياة سرمدية أبدية، بل هي أشبه بممر لمستقر، وأن الغاية والدار الحقيقية هي الدار الآخرة، وأنّ السعادة مضمونة بالطاعة للرحمن ونوال رضوانه؛ وبناء على ذلك، فإن مفهوم التحرير الحقيقي يعني تحرير العالم من الكفر بالإسلام، ومن الشر بالخير، وقدوتنا في هذه النظرة رسولنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد قام يدعو إلى هذا التحرير في شعب يحتله الجهل والعصبية، والرذيلة، والوثنية، وعلى الرغم من ذلك فإنه قد جعل غايته هي تحرير الإنسان كإنسان من الكفر بالإسلام، لذلك لم تكن قضيته يحدها وطن، أو تقتصر على جنس، أو لون، فقد كانت دعوته عالمية، وإن كان منطلقها محلي، فكانت دعوته للتحرير من العقدة الكبرى للعربي والعجمي، للأبيض والأسود، فقد دعا أبا بكر العربي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي. يقول عزّ وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ 28] وقوله عزّ وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء 107] ليظهر بذلك التحرير بكل جلاء ووضوح أنه تحرير البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهذا ما قاله ربعي بن عامر إلى قائد جيوش الفرس عندما قال: «إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام…».

لذلك لا بد من تحديد واضح لمفهوم التحرير الحقيقي الذي يحتاجه الناس جميعهم، وإن هذا يعني عدم إهمال كافة الصور والأشكال التي يعانيها الإنسان، ويسعى لأن ينعتق منها، والتي في كليتها إنما هي ناشئة عن قصور بشري في السعي الحقيقي في مشروع التحرير الحقيقي. فلو ظل المسلمون سائرين وفق مفهومه الحقيقي للتحرير لما انتكسوا على رؤوسهم، ولما حصل لهم الاحتلال العسكري والفكري والثقافي، والفقر والجهل والتخلف، ولعمر الحق إن أمة صاحبة رسالة كرسالة الإسلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الرحمة الوحيدة للبشر، وهو المبدأ الوحيد المخلص لهم، والقادر على تحريرهم من الرأسمالية عبر تحقيق قضيته، فهو مشروع تحرير تفصيلي واضح، طبق عملياً قروناً عديدة، حول فيها العبيد إلى سادة، والناس العاديون إلى قادة، والأعداء إلى إخوة، والقوميات والأعراف  إلى خير أمة؛ ليثبت بالدليل القطعي أنه مشروع تحرير لكافة أشكال التسلط والقهر والتعسف. فتحرر الناس بتطبيق الإسلام من الجهل والفقر والرق، ومن منازعات العصبية، ومن الخوف والاعتداء على الأعراض والأموال، وحفظ الدين حتى إن أحدهم لا يُفتن في ظل الإسلام عن نصرانيته، أو يهوديته، أو مجوسيته، وهذه الحالة لم ولن تحصل إلا في ظل الإسلام وحده.

لقد عنف وعاقب عمر بن الخطاب واليَه في مصر عمرو بن العاص  وابنه لضرب قبطي من غير حق قائلاً لهما: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، وقد أمن الناس على أنفسهم يوم أن نام الخليفة عمر بن الخطاب على الأرض، غير بعيد عن الناس، آمناً حتى قيل فيه «حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر»، وأمِن الناس الجوع والفقر والغش عندما كان العسس بالليل والنهار ، والعطايا تصل لكل دار، حتى من يدفعون الجزية فيما أُخذ عليهم لقاء ما نحمي به أعراضهم وأنفسهم يعيشون في ذمة المسلمين إنما يدفعونها عن يد واستطاعة لاعن قهر وتسلط .هذا هو مفهوم التحرير الذي يتوق له العالم، وينتظره على أحر من الجمر. إنه تحرير للبشر بغض النظر عن التبعية للأرض، أو العرق، أو اللون. فمفهوم التحرير يتجاوز الأرض والوطن، وإلا لبقي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة المكرمة لم يخرج  منها قط، ويتجاوز العشيرة بل والقوم، وإلا لما قام (صلى الله عليه وآله وسلم) يحرر الأحمر، والأبيض، والأسود، وإلا لبقي في قومه وعشيرته (صلى الله عليه وآله وسلم). وعليه فإن مفهوم التحرير هو شمولي في معناه ومضمونه ومقتضاه. فالإسلام يعطي المفهوم الصحيح عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبله وعما بعده، وعن علاقته بما قبله وما بعده، بمعنى أنه يحدد مفهوم الإنسان عن الحياة أنه مفهوم عقيدة توافق كل بني البشر، وفيه الطريقة العملية لحمل العقيدة بالحجة والقوة، وفيه طريقة لتنفيذ المعالجات وحل مشاكل البشر مهما تعقدت. كل ذلك من خلال الدولة باعتبارها طريقة شرعية لمباشرة تطبيق الإسلام، بما يكفل السيادة التامة له، وحمله دون سواه للعالم كمشعل هداية، ومشروع تحرير للعالم أجمع، وإنه لمن قصر النظر أن نقصر مشروع الإسلام في التحرير بأرض هنا أوهناك أو قطع يد هنا أو جلد هناك وإنما هو مشروع كامل، ونظام شامل، ورسالة عامة هي رحمة للعالمين.

2- أما مشروع الإسلام في التحرير فيقوم على:

أولاً: العمل على إظهاره في دولة، وذلك من خلال العمل في حزب يقوم بناؤه على ثقافة الإسلام، ويزيل عن أمته ما علق بها من غشاوات، ويصارع ما أُدخل على المسلمين من أفكار الكفر ليزهقها، ويكافح أعداء الأمة سياسياً، وليكشف الدسائس والمؤامرات لتحذرها الأمة وتحبطها. كل ذلك بعد قيامه واستمراره في التثقيف المركّز، والجماعي، ليحقق من ذلك احتضان الأمة للإسلام عقيدة سياسية روحية، ونظام حياة لكافة شؤون الحياة الدنيا فتعود الأمة تحتضن الإسلام وحده دون غيره، وبذلك يظل الحزب يعمل بين الأمة ومعها لتتخذ الإسلام قضية لها، ولتعطيه أو الفئة الأقوى منها قوتَها ومنعتها ليقيم الخلافة، ويعيد الحكم بالإسلام إلى الحياة من جديد، وبذلك تتحقق الخطوة الأولى للتحرير وهي تحرير الأمة من سيطرة الكفر بكل أشكاله.

ثانياً: تحرير العالم مما هو فيه من شقاء الرأسمالية وإظهار الإسلام على الدين كله. وهذه المهمة تقوم بحملها دولة الخلافة، ومن ورائها الأمة الإسلامية بالطريق الشرعي الوحيد ألا وهو الدعوة والجهاد. مصداقاً لقوله عز وجل: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة 29] وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله محمد رسول الله». ومفهومه حتى أُحررهم بـ«لا إله إلا الله» مما سُلط عليهم من أنظمة وضعية، وعقائد بالية. وأن المستقبل واعد إن شاء الله، والأيام حُبلى بالخير سيما أن أمة الإسلام كلها حشود من الطاقات، والخبرات القادرة على اكتساح العالم حتى يعمَه الخير، والأمن، والسعادة بالإسلام. وإن ما يحفظه بعض أحفاد النصارى ويرددونه عن أجدادهم مما عاشوه من أمن وأمان في ظل حكم الإسلام لهو غيض من فيض ما سيعيشه العالم في المستقبل الموعود بوعد الله ورسوله قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار…».

3- وأما أهل التحرير فهم:

أمة الإسلام كلها، وقادتها في ذلك هم أصحاب دعوة التحرير الحقيقي فيها، من يسعون بخطى حثيثة وواثقة عبر منهاج الإسلام وطريقه الشرعي الواضح القويم الملتزم من ألفه إلى يائه . نعم أمة الإسلام ومن بينها أبنائها وخدامها من أبناء التحرير الذين يثقفونها فردياً وجماعياً، ويصارعون في مقدمتها أفكار الكفر ويكافحونه سياسياً، ويتبنون ما استطاعوا من مصالح أمتهم فيشرفون على فكر أمتهم وحسها، يحولون دون انتكاسها، يحرصون على رفعة أمتهم، يتصدون لكل فكر أو مؤامرة، ويكشفون كل كيد وخطة، ينفون عن الإسلام ما ليس منه حتى يظل الإسلام صافياً نقياً وأمة الإسلام له محتضنة وبه قوية.

خلاصة القول: هذا هو مفهوم التحرير الحقيقي: رسالة الله، وهي مبدأ يقوم على فكرة قابلة للتطبيق الكامل في ظل دولة خلافة راشدة. هذه الرسالة هي الكفيلة بتحرير المسلمين تحريراً كاملاً من كل ما تسلط عليهم؛ سواء من عدو ملك أمرهم أو بعيد يتجهمهم وفي زمان عزّ فيه القاصر، وطغى فيه الكافر، وقد كان هذا المشروع كفيلاً في  الماضي بالقيام بمهام التحرير للناس من عبادة  العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، بما يكفل السعادة والرفاة والأمن والاستقرار، وبغير هذا سيظل العالم في دوامة وفي حلقة مفرغة. وهذا المفهوم لا يتحقق إلا وفق مشروعه الوحيد وهو طريقة الإسلام في تحقيق إيصاله للدولة للحكم به من خلال حزب سياسي يقوم على المبدأ فكرة وطريقة، ويسير وفق طريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إيجاد الإسلام في أرض الواقع عن طريق الصراع الفكري والكفاح السياسي، وطلب النصرة من أهل القوة والمنعة لتمكينه من تطبيق الإسلام وحمله للعالم. وهذه المهمة تقتضي أن تلتف الأمة حول قيادتها حزبها الذي يصل ليله بنهاره بجد المجتهد، وبسخاء الكريم، وعطاء العالم، وشجاعة المقدام، حتى يبلغ الأمانة، ويرفع الغمة، ويحرر الأمة، ويقودها لنيل ثمار التحرير بظهور الإسلام على الدين كله.

قال عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة 33].

سعيد الأسعد – بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *