العدد 148 -

السنة الثالثة عشرة – جمادى الأولى 1420هـ – أيلول 1999م

حلقات في الفكر السياسي (5) (الحلقة الأخيرة)

نستعرض في هذه الحلقة الأخيرة من حلقات الفكر السياسي، مفهوماً من أهم المفاهيم السياسية في الإسلام، وهو «جماعة المسلمين»، وهل هناك اليوم جماعة للمسلمين؟ وهل يحق لجماعة أو كتلة أو حزب أن يدعي أنه جماعة المسلمين، وأن على جميع المسلمين الدخول فيما دخلت فيه هذه الجماعة، وبالتالي يكون الخروج عنها خروجاً عن الجماعة، يكون الخارج آثماً يستحق عقوبة المفارق للجماعة ؟!

            بداية نقرر أنه لا توجد جماعة المسلمين إلا بوجود حاكم واحد واجب الطاعة، ينفذ على الناس أحكام الدين، أي يكون ذا سلطان على الناس، وبدون ذلك لا تكون للمسلمين جماعة، ونؤكد أنه لا يوجد حاكم للمسلمين، تجب طاعته عليهم، وينفذ فيهم أحكام الشرع، وبالتالي لا يحق لأية فئة أن تدّعي أنها جماعة المسلمين.

أهمية مفهوم الجماعة، أو جماعة المسلمين، آتية من كونه يجمع في طياته أبرز المفاهيم السياسية الأساسية في الإسلام، فهو يشمل الدولة والدار والمجتمع والدين ووحدة الأمة، وطاعة ولي الأمر. روى البخاري عن حذيفه بن اليمان قوله: «كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». ففي هذا الحديث الشريف يوجب الرسول صلى الله عليه وسلمعلى المسلمين لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، كما يوجب عليهم اعتزال كل الفرق الباغية، والتي لا تعتبر من جماعة المسلمين، ولا هي مبايعة لإمامهم الشرعي.

                وفي حديث آخر يقول عليه السلام: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» وفي هذا الحديث ندرك مدى عظم الارتباط بالجماعة، وأن من يود اختراقها أو الانفصال عنها أو التعدي عليها فعقوبته القتل، ويوضح ذلك حديث آخر للرسول عليه السلام يقول فيه: «ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» وهذا يعني ببساطة أن المسلمين يجب أن يكونوا جميعاً في دولة واحدة، وأن يكون لهم خليفة واحد، وأن يعيشوا في دار واحدة، وأن يكونوا مجتمعاً واحداً، فهم يدينون بدين واحد، ويعبدون رباً واحداً، ورسولهم واحد، وكتابهم واحد.

    هذه هي خصائص جماعة المسلمين وتعني تلاحم الرعية المسـلمة مع راعيها أي شد أزر الإمام المبايع بتعاضدهم معه وعدم الخروج عليه، وبذلك تتقوى أواصر التعاون والتعاضد بين الحاكم والمحكوم، وتنتفي شبهات التفسخ والانـقـسـام والـتـشـرذم.

    لقد شدد الإسلام على مفهوم الجماعة، فنهى نهياً شديداً عن الانفصال عنها لما ينشأ عن ذلك من فرقة وتفتت وضعف. فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية».

    فالجماعة إذاً هي لزوم المسلمين والتزامهم ببيعة الطـاعة للإمام، فهي تشـمل المسـلمين الذين بايعوا وتشمل الإمام الذي بويع، وعليه فيخرج من الجماعة غير المسلمين، ولو كانوا ذميين، ويخرج من الجماعة أيضاً البغاة الذين خلعوا البيعة، ويخرج كذلك من الجماعة المسلمون الذين لم يبايعوا أصلاً، كالذين يعيشون في دار الكفر ممن لم يبايعوا.

                ومن جهـة الإمـام فيخرج من جـمـاعـة المسلمين كل إمام يبايع مع وجود إمام سبقت بيعته، ولو بايع الآخر معظم المسلمين، ولو طبق الإسلام وكان سلطانه مستمداً من الشرع الإسلامي كاملاً، وكان أمان المسلمين مستمداً من قوة المسلمين خالصاً، لأن إمام العدل هو الإمام الأول فقط، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، ولقوله: «فـوا بـبـيـعـة الأول فـالأول».

                إن الجماعة يقابلها الفرقة فهي ضد التفرق، وقد ورد الأمر بلزوم الجماعة بهذا المعنى عن أكثر من عشرين صحابياً، والجماعة والجميع بمعنى واحد. قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، ولا توجد الجماعة إلا بوجود الإمام أو الخليفة، فإن وجد الخليفة وجدت الجماعة وإن لم يوجد فلا وجود لها وكانت الفرقة. يقول صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً» ويقول أيضاً: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية». والطاعة هنا لا تكون إلا للإمام أو الخليفة والخروج منها مفارقة للجماعة. ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن الجماعة لا تكون إلا على الإمام أو الخليفة، فقد أخرج ابن الجوزي في المنتظم عن جابر قال: قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر: «يا معشر المهاجرين، حسدتموني على الإمارة، وإنك وقومي أجبرتموني على البيعة فقال: أما لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة، ولكنا أجبرناك على الجماعة فلا إقالة لها. ولئن نزعت يدا من طاعة أو فرقت جماعة، لأضربن الذي فيه عيناك أي رأسك». وأخرج الدارمي عن تميم الداري قال: تطاول الناس في البنـاء زمـن عمـر، فقال عمـر: «يا معشر العرب الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة». وأخرج الطبري في التاريخ … قال: قال عمرو بن حريث لسعيد بن زيد: أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة؛ وصحَّ أن آل الرسول كانوا يجهزونه للدفن، وكان الصحابة يتشاورون فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، حيث تمت بيعة الانعقاد لأبي بكر الصدّيق.

                ومشهور أن العام الذي تنازل فيه الحسن لمعاوية سمي عام الجماعة، لأن الأمة اجتمعت على معاوية ولم تعد فرقة وتنازع بين الأئمة. وقال الماوردي في الحاوي: فتمت بيعة أبي بكر قبل جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بعدها في جهازه، لئلا يكونوا فوضى على غير جماعة، لتنطفئ بها فتنة الاختلاف. وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في بعض رسائله: «إن السلف إنما كانوا ينكرون على من شذ عن الجماعة في مبايعة الإمام ولزوم جماعة المسلمين»، وقال الطبري: «لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره» وقال عبد الله بن المبارك في الجماعة شعراً:

                إن الجماعـة حبل الله فاعتصـمـوا

                                                                منه بعروته الوثقى لمن دانا

                كم يدفع الله بالسلطان معضلةً

                                                                في ديننا رحـمـة منه ودنيانا

                لولا الـخــلافة لم تأمن لنا سـبـل

                                                                وكان أضـعفـنـا نهبـاً لأقوانـا

                وبذلك يظهر بشكل جلي مدى أهمية الجماعة في حياة المسلمين، وهاهم الصحابة والعلماء قد شددوا على لزوم المسلمين لها. وقد أخبر رسولنا صلوات الله عليه وسلامه أنه سيأتي على الناس زمانِ لا يكون لهم جماعة ولا إمام كما هو حالنا اليوم، وقد كلفنا الله سبحانه وتعالى بالعمل لإيجاد الجماعة في أدلة كثيرة كما أوردنا، ولا توجد الجماعة إلا بإيجاد الخلافة. يقول عليه الصلاة والسلام: «وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهم: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع»، ومن نافلة القول أن نؤكد أن الضيق مع الجماعة خير من السعة مع الانعزال، وأن الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشاردة.

                وقد رتّب الإسلام على جماعة المسلمين أحكاماً شرعية، مطلوب منهم القيام بها، كتطبيق الحدود، والجهاد في سبيل الله، وغيرها، وهذه الأحكام وأمثالها، يقتضي القيام بها وجود جماعة للمسلمين تأتمر بأمر خليفة واحد واجب الطاعة. ومن أجل المحافظة على وحدة جماعة المسلمين، أمر الله بطاعة أولي الأمر (وهم الحكام حصراً)، وقرن طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقد شدّد الإسلام في توطيد مفهوم الطاعة، حتى تصبح سجية من السجايا، لأنه بدون طاعة، لا يحصل انضباط في المجتمع، ويسوده التشرذم والتفكك، وصدق الشاعر حيث يقول:

  لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهمْ

                                                                ولا سـراة إذا جهـالهـمْ ســادوا

                وقد ينشأ التباس لدى بعض المسلمين في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في مكة كانوا جماعة المسلمين، ولهذا يخيّـل إليهم أن أية فئة أو جماعة تدعو إلى دين الله هي جماعة المسلمين. والقياس هنا خطأ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه في مكة، كانوا هم وحدهم المسلمين في العالم، وكان كل من حولهم غير مسلمين، ولذلك كانوا فعلاً جماعة المسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان رسولهم وقائدهم، أما اليوم فالمسلمون أكثر من مليار في بقاع الأرض، والفئة المسلمة حولها فئات مسلمة أخرى، وحولها مسلمون كثر، ولهذا لا يحق لأية فئة أن تدّعي أنها تمثل جماعة المسلمين، وأن أميرها هو أمير جماعة المسلمين، وأن على جميع المسلمين أن يبايعوا هذا الأمير، وإلا اعتبروا خارجين على الجماعة. وأصدق ما ينطبق على جميع الجماعات الإسلامية أنها تعمل من أجل إيجاد جماعة المسلمين، إن كانت فعلاً تعمل من أجل مبايعة حاكم واحد للمسلمين، ينفذ فيهم شرع الله، ويحمل معهم وبهم دعوة الإسلام إلى العالمين أجمع. أما الجماعات التي لا تستهدف إيجاد حاكم واحد للمسلمين، فلا ينطبق عليها هذا الوصف، لأن نهجها ترقيعي إصلاحي، وليس جذرياً شاملاً، وهي تبعد بتصرفاتها الأذهان عن تصور جماعة المسلمين الواحدة المتميزة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *