العدد 148 -

السنة الثالثة عشرة – جمادى الأولى 1420هـ – أيلول 1999م

التدرج في تطبيق أحكام الإسـلام حرام والتطبيق الفوري فرض

يجادل كثير من المسلمين، ومنهم أعضاء في الجماعات الإسلامية، أن تطبيق الإسلام كاملاً، وكما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً في الظروف الراهنة، ويستدلون على رأيهم بما كان من تهيئة لنفوس المسلمين قبل تحريم الخمر، وبزعمهم أن عمر عطّـل بعض أحكام الإسلام، من مثل عدم دفع سهم المؤلفة قلوبهم من أموال الزكاة، ويصل بهم الاستشهاد إلى العصر الحاضر، حيث لم تستطع جمهورية إيران تطبيق الإسلام كاملاً، فهي مثلاً لم تستطع أن تلغي التعامل بالربا من المصارف الإيرانية، ولم تستطع السودان أن تنص في دستورها على أن دين الدولة الإسلام أو أن دين رئيس الدولة الإسلام؛ ولهذا، يقبل الكثيرون بتطعيم أحكام الكفر ببعض أحكام الإسلام، على أمل أن تزداد مشاركة أحكام الإسلام في صوغ الحياة في المجتمع، ويقبلون المشاركة في الحكومات الحالية، التي لا تحكِّم شرع الله، ويستدلون بأن سيدنا يوسف عليه السلام، قَـبِل أن يكون وزيراً للخزانة في مصر، في حين بقي الحكم على حاله بيد الملك آنذاك. وبداية، نقرّر أن تطبيق أحكام الإسلام واجب، تطبيقاً كاملاً ودفعة واحدة، وهذا التطبيق واجب في حق الأفراد والجماعات كما هو واجب في حق الدولة، كل في حدود ما كلف به، ولهذا يجب على الدولة الإسلامية أن تتلبس فوراً بتطبيق أحكام الإسلام كاملة، وأن تتلبس بحمل دعوته إلى العالم، وأن تـنفي من دستورها وقوانينها ومن حياة الناس، ومؤسسات الدولة كل ما ليس من الإسلام. والأدلة على هذا الوجوب: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.

أما الكتاب :

  l           فقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )*، و”ما” من ألفاظ العموم فتشمل جميع الأوامر وجميع النواهي، فيجب التقيد بكل ما أمر به أو نهى عنه، لأن الأمر والنهي في الآية جازمان لترتب العقاب على المخالفة. وما آتانا الرسول صلى الله عليه وسلم وما نهانا عنه يشمل الكتاب والسنة ومـا أرشـدا إلـيـه. هـذا مـن حـيـث الحكـم الذي هـو

خطاب الشارع. أما من حيث من هم المكلفون، فإنه يشمل الأفراد والجماعات والحكام، لأن الخطاب موجه للمؤمنين، وهو من ألفاظ العموم. فالعموم كائن في الخطاب وفي المكلفين. وهذه الآية وإن نزلت في فيء بني النضير، وهناك من قال إنها خاصة بالفيء ومعناها عنده: ما آتاكم من الفيء فخذوه وما نهاكم عنه من الغلول فانتهوا عنه. والصواب أنها عامة لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وممن قال بعموم هذه الآية عبد الله بن مسعود، والشافعي، وابن جريج إذ قال: وما آتاكم من طاعتي فافعلوه وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه، والماوردي: قيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه، لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد، والمهدوي: قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى، والآية وإن كانت في الغنائم، فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخلت فيها.

  l           وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً )*، فبعد أن أكمل الله لنا الدين لم يبق لنا أن نتخير بين ما كلفنا به، فنحن مكلفون بجميع الأوامر والنواهي. والقائلون بالتدرج بعد إكمال الدين يريدون أن يتخيروا، إذ لا معنى للتدرج إلا التخير بين فعل أو ترك ما أمرنا به أو نهينا عنه، ومن ترك ما أمر به أو فعل ما نهي عنه فقد عصى وضل، فكلمتا مؤمن ومؤمنة نكرتان مسبوقتان بنفي فأفادتا العموم، ولفظ “أمراً” لفظ مطلق لم يقيد، ولفظ “أمرهم” نكرة مضافة وهي تفيد العموم ولم يرد ما يخصص هذا العموم. فنحن مكلفون بالتقيد بكل ما قضى الله ورسوله في أمرنا. والمتدرج متخير، والمتخير عاص في بعض أمره فيشمله الذم.

  l           وقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)، فهذا طلب جازم من الله سبحانه لرسوله وللحكام من بعده أن يحكموا بجميع ما أنزل الله من أحكام، لأن “ما” من ألفاظ العموم؛ ولم يكتف سبحانه بذلك بل نهى عن اتباع أهواء الناس فقال: (ولا تتبع أهواءهم)، ثم حذره ـ وتحذيره تحذير للحكام من بعده ـ من الافتتان عن بعض ما أنزل الله، والتدرج يسـتوجـب افتـتـاناً عن بعض ما أنزل الله، لا معنى له غير هذا.

  l           وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )*، وفي آية ثانية: (فأولئك هم الظالمون)، وفي ثالثة: (فأولئك هم الفاسقون)، ولفظ “ما” في الآيات الثلاث من ألفاظ العموم، فتشمل جميع ما أنزل الله. والذي يدعو إلى التدرج، يدعو إلى ترك بعض الأحكام في بعض الأحوال، فينطبق عليه ما يلائم وضعه من الأوصاف الثلاثة حسب التفصيل المعروف.

                وأما السنة :

  l           فما أخرجه ابن ماجة بإسناد رجاله ثقات عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن … وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم، وهذا نص في المسألة، ينهى نهياً جازماً عن التخير مما أنزل الله، والتدرج هو عين التخير، فيكون منهياً عنه نهياً جازماً.

  l           ومن السنة أيضاً ما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات عن السدوسي يعني ابن الخصاصية قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، قال فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أودي الزكاة، وإن أحج حجة الإسلام وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله، أما اثنتان فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فإنهم زعموا أن من ولّى الدبر فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت تلك جشعت نفسي وكرهت الموت، والصدقة فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم، قال فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم حرك يده ثم قال: فلا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذاً؟ قلت: يا رسول الله، أنا أبايعك. قال فبايعت عليهن كلهن. فهذا نص في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل من ابن الخصاصية أن يترك الجهاد والصدقة، وهو يعارض حديثي جابر وعثمان بن أبي العاص في وفد ثقيف كما سيأتي.

  l           ومن السنة أيضاً ما جاء في حديث عبادة الذي أخرجه مسلم:‹وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، يعني أن ننازع الأمر أهله وننابذهم إذا رأينا الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، والذي يدعو إلى التدرج يدعو إلى الخلط بين ما هو من الإسلام وما هو من غيره، أي الخلط بين الإسلام والكفر، ولو في وقت ما. فإن جاء حاكم مسلم وزعم أنه يحكم بالإسلام ثم خلط به الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان وجبت منابذته.

  l           ومن السنة ما رواه ابن القيم في زاد المعاد: فقال كنانة بن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟. قال: نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم. قال: أفرأيت الزنا فإنا قوم نعتزب ولا بد لنا منه؟. قال: هو عليكم حرام، فإن الله يقول: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً )*. قالوا: أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها؟ قال: لكم رؤوس أموالكم، إن الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين )*. قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها؟. قال: إن الله قد حرمها، وقرأ: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )*. فارتفع القوم فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلقوا نكاتبه على ما سألناه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نعم لك ما سألت. أرأيت الربّة ماذا نصنع بها؟. قال: اهدموها. قالوا: هيهات، لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها.. فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل ما أجهلك! إنما الربة حجر. فقالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب. وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تولّ أنت هدمها، فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً. قال: سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها. فكاتبوه. ولفظ الإسلام في أول الحديث اسم جنس محلى بالألف واللام فيشمل كل أحكام الإسلام. ومنطوق الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم اشترط عليهم الإقرار بالإسلام وإلا فلا قضية وهدم الربة. كما يدل بمنطوقه أنه رفض أن يبيح لهم الزنا والربا والخمر.

  l           ومن السنة أيضاً ما رواه أبو داود وأحمد واللفظ له بإسناد رجاله ثقات عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا ولا يستعمل عليهم غيرهم. قال فقال: إن لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا يستعمل عليكم غيركم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين لا ركوع فيه. ففي هذا الحديث رفض إعفاءهم من الركوع. وفي رواية ابن هشام: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه، فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها وإن كانت دناءة، فهذان الحديثان بمنطوقهما يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم ترك الصلاة.

                وأما الإجماع :

                فإنه قد ثبت بالتواتر أن الخلفاء الراشدين الأربعة وولاتهم وقضاتهم كانوا يطبقون الإسلام كاملاً ولا يتدرجون في التطبيق، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ولا حاجة للتطويل فيها.

                فإن قال قائل إن التدرج في تطبيق الأحكام جائز محتجاً بما رواه أحمد والنسائي عن أبي ميسرة عن عمر رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنـزلت الآية التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس)، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنـزلت الآية التي في النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنـزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ فهل أنتم منتهون، قال عمر رضي الله عنه: انتهينا، انتهينا. وبما رواه أحمد قال: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو الزبير قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، فقال: اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد. وبما رواه أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا إسماعيل يعني ابن عبد الكريم حدثني إبراهيم يعني ابن عقيل بن منبه عن أبيه عن وهب قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا. وبحديث عثمان بن أبي العاص السابق الذي رواه أبو داود وأحمد والذي يذكر فيه أنهم أي ثقيفاً اشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا، وشرحه قائلاً لأن لا يجاهدوا ولا يتصدقوا.

                قلنـا: حديث أبي ميسرة عن عمر في تحريم الخمر الذي أخرجه أحمد والنسائي ليس فيه ما يدل على التدرج في التحريم، فالخمر لم تحرم إلا في آية المائدة، أما آيتا البقرة والنساء فليس فيهما تحريم، وغاية ما فيهما مقدمات لتحريم الخمر، كما نقل الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند نزول آيتي البقرة والنساء:‹إن ربكم يقدم في الخمر من حديث الربيع بن أنس بإسناد رجاله وثقوا، وكون الله سبحانه قدم في تحريم الخمر، لا يسوغ لأحد أن يتدرج أو يقدم مقدمات للتحريم، إذ لا معنى لهذا إلا أن يعطل حكم التحريم. هذا في الخمر؛ أما في الجهاد فيؤمر الناس بالكف عنه، ثم يؤذن لهم إذا ظلموا، ثم يطلب منهم قتال المشركين حيث ثقفوهم، لا أظن أن يقول بهذا إلا جريء على دين الله. أو أن يقول قائل إذا قامت دولة إسلامية أو فتحنا بلداً أقررنا الربا وعطلنا الزكاة، وأقررنا فرض الصلاة وعطلنا فرض الجزية، وأقررنا حد السرقة وعطلنا حد الردة، وأقررنا حد الحرابة وعطلنا قتال البغاة، وهذا مما لا يقول به مسلم، فبعد أن أكمل الله الدين وأمرنا بالتقيد بكل ما جاء به محمد من عند الله لا يسوغ لأحد ترك حكم واحد. فإن قيل إن التدرج مما جاء به، أجيب بأن تقديم الله سبحانه في الخمر لا يبيح للعباد أن يقدموا في تحريمها، وكونه سبحانه أكمل الدين على مدى ثلاثة وعشرين عاماً لا يسوغ للعباد أن يطبقوه منجماً على عدد هذه السنين، وكون التشريع فيه المكي والمدني لا يسوغ تعطيل الأحكام المدنية إلى ما بعد قيام الدولة، إلا ما جعله الله من اختصاص الدولة. وإن أريد بالتدرج محاولة إدخال بعض الأحكام في دساتير وقوانين الدول التي تحكم بغير ما أنزل الله اليوم، فأقل ما يقال فيه إنه سـذاجة وقصـر نظـر.

                وأما حديث جابر الذي أخرجه أحمد ففيه ابن لهيعة وهو ضعيف، ورواية ابي داود له مما يحتج به، مع أن المنذري سكت عنه، وهو يفيد بمفهومه لا بمنطوقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من ثقيف شرطهم في وضع الصدقة والجهاد عنهم، وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم سيتصدقون ويجاهدون، فقوله هذا يقتضي أنه قبل شرطهم، فدلالته من قبيل دلالة الاقتضاء وهي من المفهوم، وهو يعارض منطوق حديث عبد الله بن عمر في النهي عن التخير، كما يعارض منطوق حديث بشير بن الخصاصية الذي لم يقبل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع عنه الجهاد والصدقة، ويعارض منطوق حديث الوفد عند ابن القيم إذ لم يقبل صلى الله عليه وسلم أن يبقي لهم صنمهم ويبيح لهم الزنا والربا والخمر، ويعارض رواية ابن هشام في وضع الصلاة عنهم وحديث عثمان بن أبي العاص في أن لا يجبوا. وإذا تعارض المنطوق مع المفهوم رجح المنطوق. وأيضاً إذا تعارض الخبر الدال على الوجوب رُجّح على الخبر الدال على الإباحة، وخبر ابن الخصاصية دال على الوجوب فيرجح على خبر جابر الدال على الإباحة. إلا أنه يمكن رفع التعارض وإعمال الدليلين وذلك أولى من إهمال أحدهما، وذلك بأن يقال إن إعفاء ثقيف من الجهاد والصدقة خاص بثقيف بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم سيتصدقون ويجاهدون، وهذا هو قول راوي الحديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرج صاحب عون المعبود قال: وسئل جابر عن اشتراط ثقيف أن لا صدقة عليها ولا جهاد، فقال علم أنهم سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا. وهذا العلم لا يتأتى لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى خاصاً بثقيف.

                وأما حديث عثمان بن أبي العاص الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: إن لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا›فلفظ تحشروا قال في اللسان: أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم. ولفظ تعشروا قال في اللسان: أي لا يؤخذ عشر أموالهم، وقيل أرادوا به الصدقة الواجبة.

                هذان اللفظان من المشترك، والمشترك يجب حمله على جميع معانيه، إلا إذا وجدت قرينة تخصصه بأحد معانيه، وهنا الأحاديث الواردة في إيجاب الصدقة والجهاد والنهي عن التخير، ترجح أن المراد لا يحشرون إلى عامل الزكاة فيأخذها في أماكنهم، ولا يعشرون أي لا يؤخذ منهم العشر كاملاً. ثم يقال في هذا الحديث ما قيل في حديث جابر في وضع الصدقة والجهاد عن ثقيف، فموضوعهما واحد وإن اختلفت الألفاظ.

                بعد أن رجح تحريم التدرج ووجوب التطبيق الكامل دون تخير، بقيت مسألة تتعلق بالتطبيق وهي هل يجوز التراخي في التطبيق أم أنه يجب على الفور دون تأخير ولا تسويف؟ والواجب هو التطبيق الفوري، والأدلة على هذا كثيرة جداً نذكر منها ما يلي:

  l           روى ابن ماجة بإسناد رجاله وثقوا عن عطية بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة قال: حدثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام ثقيف قال: وقدموا عليه في رمضان فضرب عليهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر.

  l           أخرج البخاري عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) فوجه نحو الكعبة وصلى معه رجل العصر ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال: هو يشهد أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر.

  l           روى أبو يعلى بإسناد لا بأس به عن جابر قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمال، فقدم به المدينة، فلقيه رجل من المسلمين، فقال: يا فلان، إن الخمر قد حرمت. فوضعها حيث انتهى على تل، وسجى عليها بالأكسية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بلغني أن الخمر قد حرمت! قال: أجل. قال: أليَ أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: لا يصلح ردها. قال: أليَ أن أهديها لمن يكافئني منها؟ قال: لا. قال: إن فيها مالاً ليتامى في حجري. قال: إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من مالهم. ثم نادى بالمدينة. قال: فقال الرجل: يا رسول الله الأوعية ننتفع بها! قال: فحلوا أوكيتها، فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي.

  l           روى البخاري والنسائي ومسلم وابن ماجة وأحمد واللفظ له عن عبد الله بن أبي أوفى قال: أصبنا حمراً خارجاً من القرية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكفئوا القدور وما فيها. وفي رواية لأحمد عن صليت الأنصاري وكان بدرياً قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر ونحن بخيبر فأكفأناها وإنا لجياع.

  l           أخرج أبو داود في كتاب الأدب بإسناد رجاله ثقات عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قبة مشرفة فقال: ما هذه ؟ قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار. قال فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليه في الناس أعرض عنه. صنع ذلك مراراً. حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: خرج فرأى قبتك. قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها، قال: ما فعلت القبة؟ قالوا: شكا إلينا صاحبك إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها. فقال: أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا يعني ما لا بد منه.

  l           وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح، وأبيّ بن كعب شراباً من فضيخ وهو تمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فاكسرها. قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسـفله حتى انكـسـرت .

عبد الرحمن العقبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *