فرضـية إقامـة الحـزب السـياسـي
1999/09/24م
المقالات
1,497 زيارة
قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) صدق الله العظيم.
اتفق الفقهاء وعلماء التفسير على أن هذه الآية دليل على أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض، إلا أنهم اختلفوا في هذا الفرض هل فرض عين أم فرض كفاية. ومن هنا وقع اختلافهم في معنى “من” هل تفيد التبعيض أم تفيد بيان الجنس، فمن قال إن المكلف البعض قال إن “من” للتبعيض ومن قال إن المكلف الكل قال إنها للتبيين، فكان بحثهم في الآية مسلطاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل هو فرض عين أم فرض كفاية؟ وقد استند كل فريق في قوله إلى قرائن عقلية وفقهية، وقلما اعتمدوا القرائن اللغوية في بحثهم، فلا نجد فيهم من رجح معنى لها على آخر من حيث اللغة. وتتلخص قرائن من قال إنها للتبعيض في الأمور التالية:
أ ـ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح له أي أحد، إذ يجب أن تتوفر في المـتـصـدي له شـروط، لا تتـوفـر في جميـع أبناء الأمة، ففي الأمة من لا يقدر على الدعوة إلى الخيـر ولا على الأمـر بالمـعـروف والنهـي عن المنكـر، بل ربما كان هناك من يشـتـبه عليه الأمـر، فيـأمـر بمنكر وينـكـر معـروفـاً، يقول الخازن: «وقيل إن «من» هنا للتبعيض وذلك لأن في الأمة من لا يقدر على الأمر بالمـعـروف والنـهـي عن المنـكـر، لعـجـز وضعف، فحسن إدخال لفظ «من» في قوله: (ولتكن منكم أمة)». ويقول النيسابوري: «وقال آخرون: إنها للتبعيض، إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..».
ب ـ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الدعـوة إلى الخـيـر، من فروض الكفاية، يقول الأعقم الأندلسي في تفسيره: «للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات»، وفي تفسير البيضاوي: «من للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهـي عن المنـكـر من فروض الكفاية»، ويقول الفخـر الرازي: «والقول الثاني: أن «من» للتبعيض … والوجه الثاني في هذا القول: أنا أجمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية …».
ج ـ أن هذا التكليف مختص بالعلماء من جهة أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطة بالعلم، ولا يتمكن الجاهل من ذلك، يقول الفخر الرازي: «ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف … فثبت أن هذا التكليف متوجب على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)».
أما من قال إنها لبيان الجنس، فقرينته أن المسلمين جميعا مكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الألوسي: «وأن القائلين بأن المكلـف الكـل قالـوا: إنها للتبيين، وأيدوا ذلك بأن اللـه تعالـى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمـرون بالمعروف وتنهـون عن المنكر)، ويقول البيضاوي: «أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس..).
وهكذا نرى أن الفريقين قد بحثوا في الآية من جهة دلالتها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس غير. والواضح الذي لا لبس فيه، أن الأمر في الآية ليس مسلطاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن فهم منها وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل هو مسلط على إقامة جماعة عملها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير. وسواء أكان هذان الأمران فرض كفاية أم فرض عين، فلا أثر لهما في تعيين معنى «من»، فجميع القرائن التي جيء بها هي لإثبات أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية أو فرض عين. وقولنا هذا لا ينفي أو يتعارض مع كون ترجيح أي معنى من المعنيين لا يُحسم أو يُفصل فيه إلا بقرائن. وهذا ما ذهب إليه الكثير من علماء اللغة، بل هو سر اختلافهم في معناها في هذه الآية أو في آيات أخر. يقول العكبري في اللباب في علل البناء والإعراب: «وقال المبرد: هي لابتداء المكان أيضا والتبعيض مستفاد بقرينة». ويقول أيضا: «واحتج الآخرون بقوله: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم)، وقوله: (ويغفر لكم من ذنوبكم)، والمراد الجميع أي جميع السيئات والذنوب والجواب أن “من” هنا للتبعيض أي بعض سيئاتكم، لأن إخفاء الصدقة لا يكفّر السيئات، وأما «من ذنوبكم»فللتبعيض أيضا، لأن الكافر إذا أسلم قد يبقى عليه ذنب، وهو مظالم العباد الدنيوية» انتهى قول العكبري.
وفي أسرار العربية للأنباري في قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) «من» هذه دخلت لتبيين المقصود بالاجتناب، ولا يجوز أن تكون للتبعيض، لأنه ليس المأمور به اجتناب بعض الأوثان دون بعض، وإنما المقصود اجتناب جنس الأوثان. ويقول الأنباري أيضا في آية: (يغضوا من أبصارهم) «“من” فيه أيضا للتبعيض، لأنهم أمروا أن يغضوا أبصارهم عما حرم عليهم، لا عما أحل لهم، فدل على أنها للتبعيض وليست زائدة». انتهى كلام الأنباري.
وهكذا نرى أن علماء اللغة أنفسهم يلجأون في تعيين معنى “من” للتبعيض أم لبيان الجنس، إلى قرائن من خارج اللغة.
والبحث في “من” ينقسم إلى قسمين: بحث لغوي، وبحث في القرائن التي تصرفها لإفادة التبعيض. أما من حيث اللغة ففيه أمران:ـ
1ـ في أمالي ابن الحاجب ما معناه أن شرط التبيين المطابقة أي أن يكون ما قبل “من” مطابقا لما بعدها وشرط التبعيض أن يكون ما قبل من بعضا لما بعدها. كقوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) فالرجس هنا ليس بعضا للأوثان، وإنما أريد به جنس الأوثان، والرجس، وإن كان يصح أن يطلق على أعم من الأوثان، فيصح إطلاقه على الأوثان. ولذلك فسر بها. ولا يستقيم أن تكون هنا للتبعيض، لأن الأعم لا يكون بعضا للأخص، والمطابقة لا يكون بعضا لمطابقة، وبناءً على نظرة ابن الحاجب هذه لو نظرنا في آية: (ولتكن منكم أمة) نرى أن المعنى: ولتكن أمة منكم، فيستقيم أن يكون ما قبل “من” وهو لفظ أمة بعضاً أو جزءاً مما بعدها أي من الضمير العائد على المسلمين، ولا تستقيم المطابقة فما قبل من لفظ “أمة” ليس مطابقاً لما بعدها بل هو بعضها. ويقول المرادى في الجنى الداني في حروف المعاني: «من حرف جر يكون زائداً وغير زائد، فغير الزائد له أربعة عشر معنى .. الثاني: التبعيض نحو قوله تعالى: (منهم من كلم الله)، وعلامتها جواز الاستغناء عنها ببعض، الثالث: بيان الجنس نحو: (اجتنبوا الرجس من الأوثان) قالوا علامتها أن يحسن جعل الذي مكانها، لأن المعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن.
وبناءً على هذا التفريق يستقيم تقدير معنى آية: (ولتكن منكم أمة) بــِ: وليكن بعضـكم، أي بعض المسلمين، أمة، إذ هو أقرب وأسوغ من تقديره بــ: “ولتكن منكم أمة التي هي المسلمون”.
2 ـ وهناك قرينة لغوية على أن «من» للتبعيض، وهي تنكير أمة، وفي حاشية الكشاف للجرجاني، قال أحمد رضي الله عنه وفي هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملـيـن بذلك، وأنه لا يخاطب به إلا الخواص، ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: (اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) فإنما وجه الخطاب على نفس نكرة تنبيهاً على قلة الناظر في معاده.
القسم الثاني: البحث في القرائن
أ) الدعوة إلى الخير أي إلى الإسلام هي مهمة هذه الجماعة الرئيسة وفي ثناياها يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإفرادهما بالذكر بعد قوله: (يدعون إلى الخير) من دون باقي الفروض التي تندرج تحت كلمة “الخير” هو تعظيم لشأنهما، وهذا ما يؤديه عطف الخاص على العام عند أهل اللغة. والدعوة إلى الإسلام هي فرض كفاية، وهذا من قبيل قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) وهذا الأمر ليس من القرائن على أن «من» تبعيضية فقط، بل هو أيضا من القرائن على أن أمة جماعة متكتلة.
ب) إن المنكر منكران: منكر قد يقع من الأفراد فيتصدى له أي لإنكاره الأفراد كل بحسب استطاعته أي حسب مراتب الإنكار، وتتصدى له الدولة وتتحمل مسؤولية تغييره في المقام الأول؛ ومنكر قد يقع من الحاكم، وربما قام بإنكاره أفراد من الأمة، أو الأمة كاملة، وغالباً ما ينحصر في العلماء، ولكن قيام جماعة له وبه أصلح وأنجع، وبخاصة إذا ما احتاجت الأمة لتغييره بالسيف، وذلك عندما يكون كفراً بواحاً عندها فيه من الله برهان، أو عندما يكون اغتصاباً للسلطة، وهذا هو العمل السياسي. وننقل في هذا المقال رأياً لأبي حنيفة يتلخص في ضرورة وجود جماعة لإنكار منكر الحاكم وأمره بالمعروف. فقد ورد في كتاب «أحكام القرآن» للجصاص، في باب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ بكى، حتى ظننا أنه سيموت فخلوت به، فقال أبو حنيفة: كان والله رجلاً عاملاً ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر، قلت: وكيف كان سببه؟ قال: كان يقدم ويسألني وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله، وكان شديد الورع، …، فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى، فقال لي: مدّ يدك حتى أبايعك فأظلمت الدنيا بيني وبينه، فقلت: ولم؟، قال: دعاني إلى حق من حقوق الله فامتنعت عليه، وقلت له: إن قام به رجل وحـده قتـل، ولم يصـلـح للناس أمر، ولكن إن وجد عليه أعوانـاً صـالحين ورجلاً يرأس عليهم مأموناً على دينه لا يحول، قال: وكان يقتضي ذلك كلما قدم علي تقاضى الغريم المُـلِحّ، كلما قدم علي تقـاضـاني، فأقول له: هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء، وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض، لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده، وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه، وعرض نفسه للقتل، فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه ولكنه ينتظر».
هذه هي الطريقة التي يراها أبو حنيفة لأمر الحاكم ونهيه، وهذا ما اقتضته الآية الكريمة: (ولتكن منكم أمة) ويرى أبو حنيفة في هذه الجماعة أنه يلزمها أمران: صلاح الأعوان (أي أفراد صالحون)، وقيادة مخلصة، أي أمير يرأس عليهم مأمون على دينه، لا يحول هو ولا تحول جماعته، أي لا ينقلبون عن الحق.
ج) إتفاق معظم الفقهاء وعلماء التفسير على إن معنى أمة جماعة أو عصبة أو فرقة. وإشارة الكثير منهم إلى بعض صـفاتهـا. يقول البقاعي في نظم الدرر: «أي جماعة تصلح لان يقصدها غيرها، ويكون بعضها قاصداً بعضا، حتى تكون أشد شيء ائتلافا واجتماعا في كل وقت من الأوقات». يقول الألوسـي: «والأمة أي الجمـاعة التي تؤم أي تقصـد لأمر ما، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة». يقول القاسمي في محاسـن التأويـل: «أي جمـاعـة سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس أي يقصدونها ويـقـــتــدون بـهـا». يـقـــول ابــن كثــيــر: «والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة متصـدية لهذا الشأن». ومن مجمل أقوال العلماء في معنى أمة نخرج بأن لها صفات معينة أهمها:ـ
l أن يكون لها غاية يقول الطبري: «وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد».
l أن يكون أفرادها صالحين وقيادتها مخلصـة يقـول أبـو حنيفـة: «ولكـن إن وجـد عليه أعوانا صـالحـيـن ورجل يرأس عليهم مأمون على دينه».
l أن يكون بين أفراد هذه الجماعة رابطة يقول البقاعي: «حتى تكون أشد شيء ائتلافا واجتماعا في كل وقت من الأوقات».
l أن تقود الناس: يقول القاسمي: «سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس، أي يقصدونها ويقتدون بها»، ويقول الثعالبي: «ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك».
وخلاصة القول أن تبعيضية “من” فهمت لغة ورجحت بقرائن من غير اللغة وأفادت أن الطلب مسلط على إيجاد جماعة معينة لها أوصاف معينة، وتقوم بأعمال معينة، ولها أمير واحد واجب الطاعة، وهذا هو الحزب السياسي أو الجماعة السياسية، ولذلك كان إيجاد حزب أو جماعة سياسية على أساس الإسلام، تدعو إلى الإسلام، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحاسب الحكام، فرضاً على جماعة المسلمين، فإن أقاموه، فقد وجد الفرض. ولا يمنع أحد من القيام بهذا الفرض، ولا يحتاج القيام بفرض إلى ترخيص، ولهذا يجوز تعدد الجماعات أو الأحزاب السياسية على أساس الإسلام. ويمنع ويعاقب على إيجاد أحزاب غير إسـلامية. كما أن إقامة جماعة أو حزب يدعو إلى الإسـلام ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكن لا يتصدى لمنكر الحكام، أي لا يقوم بالعمل السياسي، لا يعتبر قياماً بالفرض، ولا يسقط الفرض إلا بإيجاد كتلة سياسية أو أكـثـر .
أبو موسى ـ بيت المقدس
1999-09-24