العدد 246-247 -

العددان 246-247، السنة الواحدة والعشرون، رجب وشعبان 1428هـ، الموافق آب وأيلول 2007م

أزمة الديون في دول العالم الثالث

أزمة الديون في دول العالم الثالث

 

أبو ابراهيم – بيت المقدس

إن استخدام الديون كوسيلة للاستعمار والتحكم بقرارات الدول وربطها بالدول الدائنة لم تعرفه البشرية من قديم، وإنما وجد مع تفنن الدول الاستعمارية في طريق وأساليب الاستعمار، فوجد إلى جانب الاستعمار العسكري والاستعمار الثقافي والسياسي والاقتصادي ، واستخدمت الديون كوسيلة استعمارية، فاحتلت فرنسا في عهد نابليون مصر عندما عجزت الأخيرة عن سداد الديون المستحقة عليها، ولكن مع ذلك لم تستخدم كوسيلة استعمارية بشكل قوي ومنظم إلا بعد الحرب العالمية الثانية ، عندما أنشأت أميركا المؤسسات الدولية لتضمن تفوقها الدولي، ولتكون مطية بيدها لبسط النفوذ وفتح الأسواق المقفلة أمام الفائض الكبير للإنتاج الأميركي.

أنشأت أميركا البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وصيغ عمله لتقديم القروض للمشاريع، فيجري التدخل من قبل البنك في قبول مشاريع دون أخرى، أو تفضيل دولة على أخرى في القروض مع انتزاع شروط معينة مقابل هذه القروض. فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن القروض المشروطة التي تمنحها الولايات المتحدة للدول الفقيرة، تلزم هذه الدول بشراء منتجات أميركية بقيمة القرض.

وأنشأت صندوق النقد الدولي فكان من أخطر المؤسسات الاقتصادية، وأداة من أدوات التدخل السافرفي شؤون الدول . فنظام الصندوق يشكل بحد ذاته أداة للتدخل ، وصلاحيات الصندوق صلاحيات إذلال وقهر؛ لذلك لا عجب أن يكون صندوق النقد الدولي والاحتلال الأميركي وجهين لعملة واحدة هي الاستعمار الأميركي.

وقد شرعت دول العالم الثالث في الاستدانة منذ استقلالها بإغراء من الدول الصناعية أحيانا، أو جبرا عنها أحيانا أخرى، كما كانت تفعل أميركا في خمسينات القرن الماضي، إلا أن الديون ازدادت بشكل كبير مع سبعينات القرن الماضي عندما سعت البنوك الغربية إلى تشجيع الدول الفقيرة على اقتراض أموال لم تكن هي بحاجة إليها أصلا، فقد وجد فائض مالي ضخم في البنوك الغربية بسبب ارتفاع سعر البترول في السبعينات وقيام الدول المنتجة للبترول بتحويل فائضها المالي الضخم في تلك البنوك، فأرادت الدول الغربية أن تعيد توزيع كميات الدولارات الموجودة في خزينتها، فسهلت القروض لدول العالم الثالث ولم تستعمل هذه القروض في إنعاش اقتصاد هذه الدول ، ومع مرور السنوات تفاقمت الأزمة، والذي فاقمها:

  • ارتفاع أسعار الفائدة على القروض.

  • هبوط أسعار المواد الأولية التي تعتمد عليها دول العالم الثالث في إيراداتها.

  • فرض الدول الصناعية الحماية التجارية على السلع المصدرة إليها.

  • الارتفاع الهائل في أسعار صادرات الدول الصناعية.

ولما عجزت هذه الدول عن تسديد الفوائد أو ما يسمى في النظام الرأسمالي خدمة الدين، أرغمت على إعادة جدولتها ، حيث يقدم صندوق النقد الدولي بمقتضاها قروضا جديدة تستخدم عادة في دفع مستحقات ديون قديمة؛ لذلك تراكمت على الدول المدينة الديون، ودخلت هذه الدول حلقة مفرغة، إذ ان ما تمنحه يد صندوق النقد تلتهمه يد البنوك الدائنة، وهكذا قفزت ديون العالم الثالث من 530 مليار دولار في عام  1980م الى 2050 مليار دولار عام 2000م، وقفزت الديون الأفريقية من 3 مليارات عام 1962م إلى 250 مليار دولار عام 2000م.

ومع تفاقم الأزمة لدى الدول المدينة والتي أثرت عليها بشكل مباشر في جميع المجالات، فالفقر والمرض والأمية والمجاعات هو أبرز ما تعرف به هذه الدول، لذلك لا يخلو تقرير أو دراسة لهيئة أو منظمة دولية من ذكر آثار الديون على هذه الدول ، وعليه أخذت أزمة ديون العالم الثالث دورا مهما ، واهتماما كبيرا لدى الرأي العام العالمي، فتأسست جمعيات في الغرب تنادي بتخفيف الديون عن الدول الفقيرة، وتبنت هذه المؤسسات والجمعيات هذه القضية حتى إنه لا يكاد يخلو مؤتمر أو اجتماع أو منتدى عالمي للدول الصناعية إلا ونظمت هذه الجمعيات مظاهرات تنادي فيها بشطب ديون الدول الفقيرة ، فتصدر موضوع الديون جدول أعمال كثير من المؤتمرات الدولية ، وفي كل مرة تخرج الدول الصناعية بتعهدات أو توصيات بشطب الديون عن الدول الأكثر فقرا، تحاول بها أن توهم المنادين بشطب الديون والرأي العام أنها جادة في حل الأزمة.

ولإدراك مدى التضليل وعدم جدية هذه الدول لحل أزمة الديون، وإن إعلان الدول الصناعية تقديم المعونات أو التوصيات بشطب ما هو إلا لإسكات الرأي العام المنادي بشطب الديون، نأخذ فقط مثالا واحدا لإدراك ذلكن ففي قمة كولونيا عام 1999م تصدر موضوع الديون جدول أعمال المؤتمر السنوي للدول الصناعية ، وتم الاتفاق لتخفيف أعباء ديون 41 دولة هي الأفقر في العالم من خلال التعهد بشطب 71 مليار دولار، وهو ما يمثل أقل من ربع الحجم الإجمالي لفوائد ديون العالم الثالث، ويتم اختيار الدول للتخفيف من ديونها إذا حققت الشروط التالية : تفادي هذه الدول جديدة غير منتجة ، تخصيص منافع التخفيف للشرائع السكانية الأكثر فقرا، مواصلة الإصلاحات الاقتصادية تحت إشراف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولنأخذ مثالا لدولة من الدول ال41 التي تأهلت للتخفيف من أعباء ديونها وهي موزمبيق، فقد تأهلت للحصول على مساعدات لتخفيف ديونها، حيث تسمح لها الخطة بخفض قيمة تسديد الديون وفوائدها بعشرة ملايين دولار سنويا من الحجم الإجمالي المقدر ب120 مليون دولار، ويمثل الدين المتبقي ضعفي ما تنفقه هذه الدول على القطاع الصحي مما يعكس عمق أزمة الديون وعدم جدية الدول الصناعية في حل هذه الأزمة، فمعظم سكان الدول ال41 يعيشون تحت خط الفقر أي أقل من دولار واحد في اليوم، وفي العام نفسه الذي قدمت فيه هذه المبادرة قدرت الأمم المتحدة عدد الأطفال الذين يموتون بسبب أمراض يمكن معالجتها بأربعة ملايين طفل ، وتعزو المنظمة ارتفاع عدد الوفيات إلى انعدام المياه الصالحة للشرب وغياب قنوات الصرف الصحي التي تسببت في انتشار الكثير من الأمراض المعدية، وفي نفس العام لم يتمكن حوالي 50 مليون طفل من هذه الدول الالتحاق بصفوف الدراسة لعدم وجود مدارس تأويهم مما يعني تعرضهم للفقر والبطالة طوال حياتهم.

ولم تخف الكثير من الجمعيات والمنظمات المنادية بشطب الديون استياءها من نتائج المؤتمر هذا ، بل إن بعضهم ذهب إلى حد اتهام قادة الدول الصناعية بالتلاعب بالأرقم سعيا؛ لامتصاص انتقادات الرأي العام، وإعطاء صورة غير حقيقية عن جهودهم لمعالجة هذه المشكلة ، حيث وصفت منظمة أوكسفام غير الحكومية قرارات المؤتمر ” بأنها خطوة عملاقة إلى الأمام فيما يتعلق باستعداد مجموعة الدول السبع للعطاء، لكنها خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح إذا ما تمعنا في احتياجات الدول الفقيرة”.

ومن جهة ثانية لو نظرنا إلى بعض الأرقام لاكتشفنا الحقيقة البينة ، فقد سدد العالم الثالث سنة 200م ستة أضعاف ما تلقاه من مساعدة عمومية للتنمية، بينما تظل قيمة المساعدات والإعفاءات المعلنة ثابتة ” والقيمة الفعلية تشهد انخفاضا حادا” . فقد تراوح المبلغ الإجمالي للمساعدات أو الإعفاءات بين 40 إلى 50 مليار دولار سنويا، بينما ارتفعت فوائد ديون العالم الثالث عام 200م إلى زهاء 315 مليار دولار، مما يعني أن الإعفاءات ثابتة بينما الفوائد تزداد بشكل كبير ، فقد كان العالم الثالث يسدد ” 154 مليار دولار سنة 1993م، 169 مليار سنة 1994م، 203 مليار سنة 1995م، 239 مليار سنة 1996م، 270 مليار سنة 1997م، 263 مليار سنة 1998م، 328 مليار سنة 1999م، 315 مليار سنة 2000م – البنك الدولي” .

وبذلك تظهر فداحة الأزمة وكذب الدول الصناعية في إجراءاتها في معالجة الأزمة.

أما إجراءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لحل الأزمة فهي تتمثل بإعطاء الدول المدينة قروضا جديدة لسداد فوائد الديون، أو إعادة جدولة الديون، مع تقيد الدول المدينة بشروط الصندوق والدول الدائنة، فتشترط الدول الدائنة على الدول المدينة أن تخضع لشرطين يفرضهما المجتمعون في نادي باريس.

  • أن تدفع الدول المدينة فوائد التأخير على الأقساط المؤجلة كعقاب لها.

  • أن تتعهد الدول المدينة بتنفيذ سياسات وتوجيهات اقتصادية واجتماعية معينة ذات علاقة بالتجارة الخارجية والإنفاق العام.

ولهذا فإن وسيلة إعادة جدولة الديون ما هي إلا فخ من قبل الحكومات والمؤسسات الموالية الخاصة في الدول الصناعية الدائنة لإيقاع المقترضين في حبائل الديون وزيادة تراكمها سنة بعد أخرى.

أما اشتراطات ومطالب صندوق النقد الدولي فإنها تزيد الأمر تعقيدا حيث يطالب الدول المدينة ب:

  • تخفيض القيمة الخارجية للعملة الوطنية أي هبوط سعر صرفها الرسمي.

  • عدم اتباع سياسة الرقابة على الصرف، والسماح بالتعامل في النقد الأجنبي.

  • إلغاء أي قيود تتعلق بسياسة الاستيراد، وإلغاء الإجراءات المتعلقة بتشجيع الصادرات، والسماح للقطاع الخاص والعام بالاستيراد.

  • خضوع الدولة المدينة لنمط التجارة الحرة تحت حجة ضرورة الانتفاع والمنافسة الأجنبية.

وهذه الإجراءات لا تحل الأزمة بل تزيدها تعقيدا، وتوقع البلاد تحت وطأة الدول الدائنة وتدخلها في أزمات اقتصادية جديدة، في حين يحقق الدائنون ومنهم صندوق النقد الدولي أرباحا طائلة، فقد تلقى صندوق النقد الدولي إجمالا من عام 1980م إلى عام 200م عشرين مليار دولار فوق ما دفع من قروض.

وفي الختام والحالة هذه للدول المدينة، فما المخرج من هذه الأزمة ؟ وكيف تحل أزمة ديون العالم الثالث؟

إن مشكلة الديون تكمن في الفوائد المترتبة عليها، فقد كان الدين الخارجي لبلدان العالم الثالث حسب إحصائيات البنك الدولي يبلغ سنة 1980م زهاء 530 مليار دولار، وبعد عشرين سنة بلغ في نهاية 2000م ما قدره 2050 مليار دولار، أي أربعة أضعاف المبلغ، أم بلدان الكتلة الشرقية السابقة ، فقد بلغ دينها ثمانة أمثالها منتقلا من 57 مليار دولار سنة 1980م إلى ما يفوق 480 مليار دولار سنة 2000م، وقد سدد العالم الثالث لدائنيه، فيما بين 1980م و2000م أكثر من 3450 مليار دولار ( يستدعي حساب المبالغ التي سددتها مجمل بلدان العالم الثالث إضافة أكثر من 640 مليار دولار سددتها بلدان الكتلة الشرقية السابقة وبذلك يصل المجموع إلى زهاء 4100 مليار دولار ( البنك الدولي 2001).

فعلى هذا النحو سدد العالم الثالث ما يفوق م بذمته ستة أضعاف ليبلغ ثقل الدين عليه أربعة أمثال ما كان عليه. ومن جانبها سددت بلدان الكتلة الشرقية السابقة أحد عشر ضعف ما بذمتها سنة 1980م لتصبح مثقلة بدين يعادل ثمانية أضعاف ما كان عليه. فيظهر من هذا الإستعراض لبعض الإحصائيات أن المشكلة هي في الفوائد المتراكمة التي تجعل البلدان الفقيرة تسدد أضعاف ما عليها من دين، فحتى تخرج هذه الدول من أزمتها يجب عليها القيام بما يلي:

  • تتوقف الدول المدينة عن سداد ديونها، وفوائد هذه الديون، فقد دفعت هذه الدول أضعاف ما عليها من ديون، ولو فرضنا أنه بقي عليها دين ، فتكون هذه الدول ملزمة بسداد أصل الدين المقترض، ولا تلزم بسداد فوائد هذا الدين. قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) البقرة 278-279.

  • على الدول المدينة الخروج فورا من صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، وأن ترفض تدخل هاتين المؤسستين في شؤونها الداخلية ، وأن ترفض برامجها العقيمة.

  • تشكل الدول المدينة ناديا يجمعها لمخاطبة الدول الدائنة والمؤسسات المالية بصوت واحد. فدول العالم الثالث تشكل 80% من سكان العالم، وهذا يظهر مدى قدرتها إن وقفت صفا واحدا في مواجهة الدول الدائنة والمؤسسات المالية على رفضها ورفض قروضها الربوية.

  • يمكن الاستفادة من الرأي العام المتكون في الغرب حول فكرة شطب الديون، فهناك أصوات جريئة تنادي بحل الأزمة ، فقد قال إريك توسان رئيس لجنة الغاء ديون العالم الثالث عام 2003م في جامعة جنيف، في نشاط نظمته اللجنة في الجامعة باسم محكمة الديون” إن الحل الوحيد أمام الدول النامية سيكون رفضها تسديد ديونها”.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *