العدد 246-247 -

العددان 246-247، السنة الواحدة والعشرون، رجب وشعبان 1428هـ، الموافق آب وأيلول 2007م

نظرية الفوضى الخلاقة

نظرية الفوضى الخلاقة

 

يعتبر النظام الرأسمالي والمبدأ الرأسمالي هو النظام المسيطر على كل الأصعدة في عالمنا اليوم؛ في الحكم والسياسة، والاقتصاد، والعلاقات ، وفي جميع مناحي الحياة. وتعتبر أميركا هي المثال الحي لهذا المبدأ ، والطرح العملي الملموس لأفكاره وأساليب تنفيذه وطريقة نشره في جميع أنحاء العالم، بحيث لا يذكر المبدأ أو النظام الرأسمالي إلا ويذكر بمعية أميركا الرأسمالية المعبرة عن هذا المبدأ والنظام في هذا العصر.

ويمكننا القول إن المبدأ الرأسمالي لم يكن ليعرف طريقه إلى الحياة، وما كان يمكن له أن ينتشر في العالم ، لولا وجود الأسلوب الاستعماري في نشره وفرضه على الأمم والشعوب في العالم أجمع، وما يرافق ذلك من حروب وإثارة للأزمات المختلفة والمختلقة في أصقاع الأرض.

إن الاستعمار والحروب والانقضاض على الأمم والشعوب وتفجير الأزمات هو ديدن وطابع المبدأ الرأسمالي ، فلو تتبعنا الكثير من الحروب والأزمات لوجدنا أنها تعود في أساسها إلى الدول الرأسمالية الاستعمارية خاصة ما كان منها في بلاد المسلمين. والملاحظ في هذه الأزمات والحروب أ،ها لا تنتهي ، بل إنها تهدأ أحيانا أو توجه، وغالبا ما تحل بطريقة وبأسلوب يضمن اندلاعها من جديد، عدا عن استحداث الجديد من هذه الأزمات والحروب.

هذا هو المبدأ الرأسمالي ونظامه ، وهذه هي طريقته في نشر المبدأ ، عن طريق الاستعمار وإحداث القلاقل والأزمات والحروب واستغلال ثروات الشعوب لصالح الدول الرأسمالية المتنافسة على المنافع، والمثال الحي الصارخ لذلك الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا…

ويبرز في هذه الأيام أسلوب جديد يتخذ كطريقة دامية في نشر المبدأ الرأسمالي ألا هو أسلوب ” الفوضى الخلاقة” . وأول ما برزت هذه الفكرة كانت على لسان وزيرة الخارجية الأميركية رايس، في صحيفة ” واشنطن بوست” ، عندما سئلت عن الفوضى التي يمكن أن تنتج عن تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط فأجابت : ” إن الوضع الحالي ليس مستقرا، وإن الفوضى التي تنتجها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي فوضى خلاقة، ربما تنتج في النهاية وضعا أفضل من الذي تعيشه حاليا”. وتعتبر رايس في تصريحاتها أن هذه الفوضى الخلاقة ضرورية ومهمة لنشر مباديء أميركا المزعومة من ديمقراطية وإصلاح سياسي وإجتماعي لضمان حقوق الإنسان.

وقد تشكل مصطلح ” الفوضى الخلاقة” الذي استندت إليه رايس في صفوف اليمين السياسي الأميركي ليعبر عن مسارات التغيير التي تتباناها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالذات ، وتعمل على تنفيذها في أرض الواقع باستراتيجيات مختلفة، لكنها لا تخرج عن طريقتين ذكرهما  ” ريتشارد هس” مدير التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية في مقاله المطول بعنوان ” تغيير الأنظمة” :

الأولى: تغيير الأنظمة من الخارج وبالقوة.

والثانية : التغيير المتدرج من الداخل ،على أعتبار أن التغيير الذي تريده أميركا على الأرض هو تغيير الأنظمة المعادية لها ولسياستها والمهددة لأمن أميركا واسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.

ومن أبرز الداعين لنظرية الفوضى الخلاقة هو ” ناتان شارنسكي” الوزير المستقيل إبان حكومة شارون بسبب الانسحاب من غزة، وقد أشار إلى ذلك بوش في حديثه مع الصحفيين بقوله : ” إذا أردتم الاطلاع على مفهومي للسياسة الخارجية فاقرأوا كتاب شارنسكي: ” قضية الديمقراطية” فإنه سيساعدكم على فهم الكثير من القرارات التي اتخذت والتي قد تتخذ”.

وشارنسكي هذا هو الذي قالت له رايس حين دخل مكتبها ، فوجد كتابه ” قضية الديمقراطية” على طاولتها: قد تتساءل لماذا أقرأ هذا الكتاب؟ وأجابته: ” لقد قضى الرئيس إجازة الأسبوع في قراءته، ويجب علي أن أعرف كيف يفكر الرئيس”.

ويرى شارنسكي في كتابه ” قضية الديمقراطية” العرب والمسلمين كأقليات دينية عرقية متنابذة لا تستطيع العيش ضمن منظومة دول حضارية، فهي – بالضرورة- تشكل بيئات مثالية لتفريخ الإرهاب وتغذيته، ما يجعلها وسطا يمثل تهديدا لأمن أميركا لا سبيل لتجاهله؛ وبالتالي فإنه يدعو أميركا لاستخدام الطائفية في إطار ما يسمى الفوضى الخلاقة للقضاء على مكامن الشر واستئصالها، وتحقيق الديمقراطية في منطقة العالم العربي والإسلامي. كما أنه يؤكد على أن الإسلام حركة إرهابية تشكل تهديدا مستمرا لا يتوقف للعالم الغربي بأسره، وأن العمل الأمني البحت لا يكفي للقضاء على هذا التهديد، وإنما يجب أن يسند باستراتيجيات أخرى تضمن انتزاعه والقضاء عليه. وتعتبر نظرية الفوضى الخلاقة واحدة من أهم هذه الاستراتيجيات كما أن له اعتراض حتى على المسميات العامة، وآثر تغييرها في الصحافة العالمية من مثل مسمى العالم العربي والإسلامي، حيث أطلق عليه مسمى الشرق الأوسط.

ولا يعتبر شارنسكي الوحيد في تأكيد هذه النظرية ، بل هناك كتاب ومفكرون غيره أمثال ” مايكل ليدن” العضو البارز في معهد ” أميركا إنتربرايز” المعروف بكونه ” قلعة المحافظين الجدد” ، صاحب نظرية التدمير الخلاق، الذي يعتبر أن ما تقوم به أميركا لتحقيق أمنها والحفاظ على هيبتها حق مشروع، خاصة بعد أحداث 9/11، فإنه يؤكد أ، ” التدمير البناء” هو صفة أميركا المركزية : لأن اميركا تسعى إلى تمزيق كل الأنماط القديمة في السياسة والأعمال والعمارة والعلوم والآداب والقانون وغيرها، وهذا السعي النبيل له أعداؤه الذين يقفون في وجه هذه الطاقة الخلاقة المتدفقة، وهؤلاء يجب تدميرهم والقضاء عليهم حتى تتحقق لنا أهدافنا السامية في مهمتنا التاريخية.

وهناك من تبنى هذه الأفكار وعمل على تطويرها ، وذلك كما فعل ” توماس بارنيت” المحلل العسكري الأميركي واسع الاطلاع في شؤون مؤسسة الدفاع الأميركيية في كتابه ” الخريطة الجديدة للبنتاغون” حيث يقسم العالم فيه إلى قسمين:

  • دول المركز أو القلب وهي الولايات المتحدة وحلفاؤها.

  • ودول الفجوة وهي كل الدول الأخرى، وهو يشبه هذه الدول بثقب الأوزون؛ لأنها لم تكن ظاهرة قبل احداث 9/11، ويعرفها بأنها الدول المصابة بالفقر والأمراض والقتل الجماعي والنزاعات المزمنة والحكم الاستبدادي.

ويحدد استراتيجية للأمن القومي الأميركي من خلال هذا التصور يتجه إلى سيطرة القلب وتقويته، والعمل على انكماش الثقب وتقويضه.

إن هذه النظرية القائمة على الفوضى والتدمير والحروب الدامية، وافتعال الأزمات، وبسط النفوذ والسيطرة على الأمم والشعوب الأخرى، والنظر إليها نظرة دونية، هي تعبير صارخ للمبدأ الرأسمالي وطرق تنفيذه المجرمة التي لا تعطي قيمة للإنسان ولا تكترث به، ولا تأبه إلا بالمنافع الشخصية لتلك المجتمعات الرأسمالية ، ولعل ما يحدث في العراق ومن قبله فلسطين وأفغانستان والسودان وغيرها خير دليل على ذلك، لا بل إن رايس في اجتماع دول جوار العراق في شرم الشيخ 5/5/2007م تقول مهددة من لا يقف بجانب أميركا بالعراق : ” إن ما يحدث للعراق يمكن أن ينتقل إلى دول الجوار إذا لم تقم بدورها بإغلاق الحدود وإيقاف تدفق المقاتلين والعتاد إلى العراق”.

وهذا بخلاف ما عليه الإسلام في طريقة نشره للمبدأ، فإنه قائم على تحطيم الحواجز المادية التي تحول دون إيصال الإسلام بشكل لافت للنظر، وينهى عن استهداف أو قتل غير المحاربين، وفوق ذلك فإنه لا يكره أحدا على اعتناق الإسلام ما لم يقتنع بهذا الدين ن لقوله تعالى : ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) البقرة 256 ، وهناك الكثير من الشواهد والحوادث في تاريخ نشر الإسلام تدل على أن الهدف هو إيصال الإسلام للناس، ورفع الظلم عنهم، والارتقاء بهم إلى أسمى مرتقى إنساني يعبد فيه الإنسان ربه دون أحد سواه: وهذه الشواهد التاريخية في نشر الإسلام لا زالت قائمة حتى يومنا هذا ، فكل البلاد التي فتحت أيام الفتح الإسلامي لبلاد الفرس والرومان والبربر وغيرها لا زال أهلها يدينون بالإسلام، وقد بذلوا الغالي والنفيس في سبيل هذا الدين، ولقد أقبل أهل تلك البلاد على الإسلام منذ اليوم الأول لدخول الإسلام تلك البلاد، واحتضنوا دعوته، وكان منهم العلماء في اللغة والفقه والحديث وغيرها من العلوم والمعارف الإسلامية، حيث تأثروا بها وأثروها بعقلية إسلامية ولاؤها لله ورسوله والمؤمنين، وليس ولاء للعرض أو القوم أو البلد أو غيرها من روابط جاهلية عمية، مدركين قول الله تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13 ، ومهتدين بقوله صلى الله عليه وسلم: ” من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه” .

إن الإسلام يفتح الآفاق لاتباعه ، ولا يتعامل مع البشر على أسس الطائفية أو القومية، ولا يثير بين الناس النعرات المهلكة، ليتقوى بهذه الأساليب الملتوية على أهل تلك البلاد المفتوحة، بخلاف المبدأ الرأسمالي ضيق الأفق الذي يسمي الأشياء بغير مسمياتها، فلم تكن الفوضى في يوم من الأيام خلاقة، ولا كان التدمير بناء، إلا في هذا الرأسمالي الفردي الذي يرى الأمم والشعوب الأخرى عبارة عن مطية لتحقيق رغباته، ويعتبر أرضها وبلادها وما فيها من ثروات وخيرات نهبا وحلبة صراع وسباق لتحقيق مصالحها ومنافعها، ويبحث عن الثغرات ليبرزها ويثيرها، ويركز على مكامن الفرقة فيثيرها ويغذيها ليمزق بها البلاد والعباد شر تمزق ، وهذا يثير الناس بالتالي على تلك الدول الرأسمالية ، ويقوي عداء الشعوب تجاه الرأسمالية ، وخير مثال على ذلك ما يحدث في العراق ومشكلة أميركا هناك خير دليل على أن هذه الفوضى الخلاقة أصبحت لغنة تطارد الأميركيين في العراق ليل نهار، ولولا نفر من العملاء الذين باعوا دينهم بدنيا الأميركيين ما استقرت الأرض تحت أقدام الأميركان هؤلاء.

فشتان بين ما جاء به الإسلام من رحمة وهداية للعالمين، وما جاءت به مباديء البشر العقيمة التي كانت وبالا على أصحابها. فالإسلام جاء لسعادة البشر وخيرهم في الدنيا والآخرة ، والرأسمالية سارت بالإنسان إلى درك سفلي من شقاء في الدنيا وخسران مبين في الآخرة.

فالإسلام كما قال ربعي بن عامر لقائد الفرس ، جاء ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *