العدد 89 -

السنة الثامنة ربيع الثاني 1415هـ, أيلول 1994م

رسالة من أبي حازم (سلمة بن دينار الأعرج) إلى علماء المسلمين

رحم الله أبا حازم فقد كان عالماً زاهداً في الدنيا قانعاً بما آتاه الله منها، لم يذل نفسه طلباً لمتاع الدنيا الزائل، بل صان علمه رغم ما عُرض عليه من مغريات، فقد قال له الخليفة سليمان بن عبد الملك: «اصحبنا يا أبا حازم تُصب منا ونُصِبْ منك». قال: أعوذ بالله من ذلك. قال الخليفة: ولِمَ؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني ضِعْفَ الحياة وضعف الممات. وقال في نفس الجلسة لعالم مشهور بعلمه ولكنه ملازم للسلطان بمحضر من الخليفة: إن بني إسرائيل لمّا كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلمّا رأى ذلك قومن من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوا به إلى الأمراء، فاستغنت به عن العلماء واجتمع القوم على المعصية، فسقطوا وانتكسوا (أي أصبح العلماء فقهاء للسلاطين) ولو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم، فقال له ذلك العالم: كأنك إياي تريد وبي تُعرّض، قال: هو ما تسمع.

وها نحن نورد رسالة كتبها أبو حازم وأرسل بها إلى ذلك العالم نفسه الذي زَلّ فلازم السلطان: وغيَّر موقعه. أرسل بها إليه حرصاً عليه ونصيحة له، وها نحن بدورنا نوجهها ونوصل نصيحة وغَيْرة أبي حازم على دين الله وعلمائه إلى كل عالم وفقيه في بلاد المسلمين. فما أجملها من رسالة وما أغلاها من نصيحة.

كتب أبو حازم:

«عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحتَ بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً، فقد أثقلتْك نَعَم الله عليك، بما صح من بدنك وطال من عمرك، وعملت حجج الله مما علمك من كتابه، وفقهك فيه من دينه وفهّمك من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك الغرض الأقصى ليبتلي في ذلك شكرك، وأبدا منه فضله عليك، وقد قال عز وجل: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)،فانظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل؛ فسألك عن نِعَمه عليك كيف رعيتها؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها؟ فلا تحصبن الله عز وجل راضياً فيك بالتعذير، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات ليس ذاك أخذَ على العلماء في كتابه إذ قال: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)، إنك تقول إنك جَدِل ماهر عالم؛ قد جادلت الناس فجَدَلتهم، وخاصمتهم فخصمتهم إدلالاً منك بفهمك، واقتداراً منك برأيك، فأين تذهب عن قول الله عز وجل: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، اعلم أن أدنى ما ارتكبت وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم، وسَهلت له طريق الغي بدنوّك حين أدنيت، وإجابتك حين دُعيت، فما أخلقك أن ينوه غداً علمك مع الجرمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة.

إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك؛ جعلوك قطباً تدور عليه رحا باطلهم وجسراً يعبرونك إلى بلائهم، وسلَّماً إلى ضلالتهم. يُدخِلون بك الشك على العلماء ويقتلون بك قلوب الجُهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزارائهم ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك. وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرُك، وحاسبها حساب رجل مسؤول،وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس مبجلاًن وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته مستتراً، وكيف قربك وبعدك ممّن أمرك أن تكون منه قريباً. ما لك لا تنتبه من نعستك؟ وتستقيل من عثرتك؟، فتقول: والله ما قمت لله عز وجل مقاماً واحداً أحيي له فيه ديناً ولا أميت له فيه باطلاً. أين شكرك لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه، ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى)، الآية. إنك لست في دار مقام قد أوذنت بالرحيل، فما بقاء المرء بعد أقرانه؟ طوبى لمن كان في الدنيا على وجل؛ يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده. إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلاً أن تتزود له طهرك، ذهبت اللذة، وبقيت التَبعَة، ما أشقى من سُعِد بكسبه غيرُه، أحذر فقد أتيت وتخلص فقد وَهلْتَ. إنك تعامل من لا يجهل، والذي يحفظ عليك لا يغفل، تجهز فقد دنا منك سفر بعيد، وداوِ دينك فقد دَخَلَهُ سقم شديد، ولا تحسبن أنني أردت توبيخك وتعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عليك من حِلمك، وذكرت قوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، غفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به؟ أو دخلوا ما دخلت فيه؟ وهل تراه ذخر لك خير مُنعوه؟ أ, علّمك شيئاً جهلوه؟ فإن كانت الدنيا تُبلِغُ مثلك في كِبَر سنّك ورسوخ علمك وحضورَ أجلك، فمن يلوم الحدث في سِنه، الجاهل في علمه؛ المأفون في رأيه؛ المدخول في عقله، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

رحمك الله يا أبا حازم فقد كنت تقولك لو أن أحدكم قيل له ضع ثوبك على هذا الهدف حتى يُرمى لقال: ما كانت لأخرق ثوبي وهو يخرق دينه.

هذا النص (الرسالة) مأخوذ من كتاب صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي ت 597 هـ المجلد الأول طبعة أولى 1991 هـ من منشورات دار الفكر .

أبو عمر – بخارست – رومانيا

       

(*)  عالم ورع زاهد توفي سنة 140 هـ في خلافة المنصور، سمع من ابن عمر وأنس بن مالك ومن كبار التابعين كسعيد بن المسيب وأبي سلمة وعروة رحمهم الله جميعاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *