العدد الثاني -

السنة الأولى، العدد الثاني، ذو القعدة 1307 هـ، الموافق تموز 1987م

نهضة الأمة إسلامية

إن نهضة الجماعة من النّاس تظهر في استقلال قرارها وتكافلها ووحدة رأيها ورسالتها إلى غيرها من الأمم، إلى غير ما هنالك من القيم. لكننا نجد الأمة الإسلامية اليوم، ويا للأسف، على هذا الواقع من فقدان للانتماء والعزّة والكرامة، وتدخّل للأعداء في شؤونها الداخلية، وارتهانها لدول الكفر، إلى غير ما هنالك من مظاهر التخلف.

وإذا كان هذا الواقع كبوة لهذه الأمة العظيمة، فما هو السبيل للنهوض من كبوتها؟.

بقلم: هيثم بكر

نَهَضَتْ الأمة على أساس الإسلام، فمضت لا

يوقفها شيء عن نشر الدين حتى يعم الإسلام الدنيا!.

عاش العرب شراذم متفرقين في الصحراء، يغزو بعضهم بعضاً ويعتدون على حرمات بعضهم فأرسل الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، وإلى تطبيق الإسلام، والعمل بأحكام الله. فكان نتيجة ذلك أن تحول العرب إلى أمة إسلامية، تجمعها وحدة المبدأ والنظام.

ونهضَت أمة الإسلام على هذا الأساس. فاتخذت من الإسلام نظاماً تطبقه فيما بينها، وتدعو غيرها من الأمم إلى تطبيقه. فمضت حاملة رسالة الإسلام إلى العالم لا يوقفها شيء عن الجهاد في سبيل الله حتى يَعمّ الإسلامُ الدنيا. ففُتحت الشام والعراق ومصر وإفريقية وفارس والسند والهند وبلاد الترك والأندلس، وبلغ المسلمون الصين شرقاً، وفرنسا غرباً، وتوغلوا في بلاد الفولغا شمالاً، في دولة إسلامية واحدة.

كبوات وهزات:

ثم تشاغلت الأمة بالدنيا، وقعدت عن الجهاد منشغلة بأمور المعاش من تجارة وعلوم وفلسفة وفنون وإلى ما هنالك، وانحطت همتها عن حمل رسالة الإسلام، ممّا سهل على الأعداء أن ينالوا منها. فحصلت كبوات عديدة لها، غير أنها سرعان ما استفاقت منها.

فقد جاءت الحملات الصليبية، فتوغلت جيوش أوروبا في بلاد الشام، مستغلةً تفرق المسلمين فيها إلى دويلات متناحرة. لكن الأمة سرعان ما انتفضت من سباتها، ونفضت عنها غبار الذل، فطردت الصليبيين على أعقابهم وحرّرت بلاد الشام من احتلالهم، وأعادتها إلى حكم الإسلام.

وبَعْدَهَا جاء اجتياح المغول سيلاً يجرف أمامه كل ما يقف في طريقه. وقد حصلت هذه الغزوات في وقت بلغ فيه المسلمون غاية التشاغل بأمور المعاش والتفرّق من أجله. كما كانوا قد فقدوا روح الأمة التي تتكاتف وتتعاضد وتقف وقفة رجل واحد لأجل البقاء على وحدتها ورايتها. فانهزم المسلمون شرّ هزيمة، حتى إنهم أباحوا للمغول أنفسَهم وبلادَهم يعملون فيها القتل والحرق والنهب، دون أن يتجرؤوا على ردّ ذلك. ويروي المؤرخون أن التتار كانوا إذا دخلوا مدنية استباحوها أربعين يوماً، فقَتلوا من قَتلوا وحرقوا ونهبوا وسبَوا نساء المسلمين، وكان الواحد منهم يدخل إلى مخبأ قد تحصن فيه الجمع من الرجال ومعهم النساء والولدان، فيقول: ليس معي ما أقتلكم به، فانتظروني أعود بسيفي، ثم يغيب ساعة فيعود وما هرب منهم أحد، فيحز رقابهم أرسالاً وما يردعه رادع.

لقد بلغ المسلمون في تلك الفترة غاية الضعف والذل، يمعن الكفار في قتلهم والتنكيل بهم. ورغم ما وصلوا إليه، استعادت الأمة عافيتها بعد ذلك، ونفضت عنها غبار الذلّ وحبَّ الدنيا، وعادت أقوى مما كانت، تفتح البلدان. فاستؤنفت الفتوحات في أوروبا وبلاد الهند والبنغال، حتى دكّ المسلمون أسوار فينا، وبلغوا سيليزيا في بولندا.

انحطاط الأمة:

ثم ظهرت النهضة الصناعة في أوروبا وجاء الغزو التبشيري. فعملت دول أوروبا على نشر أفكارها في بلاد الإسلام، حتى عمّت الأفكار الدخيلة بين المسلمين. وفقد المسلمون الثقة بالإسلام وأحكامه، حتى وُجد من يطالب منهم بترك الإسلام وأحكامه. وجاءت دعوة القومية تفتّ ما تبقى من وحدة المسلمين وتعلن من بلاد الكفر الهجوم على دولة الخلافة بحجّة نشر الوعي القومي. فانتهى الأمر بالمسلمين أن هدموا دولة الإسلام، وغدا حالهم على ما نشاهده اليوم.

فالأمة اليوم تركت العمل بكتاب الله وسنة رسوله، وتخلت عن الإسلام كمنهاج حياة ونظام عيش، وارتضت نظام الكفر يحكم ربوع الإسلام دون أن تنكر ذلك. فقعدت عن العمل للإسلام، وركنت إلى مشاغل الدنيا، وانصرف كله إلى طلب معاشه لا يكترث في هذه الحياة لغير طلب رزقه. والكفّار يحكمون قبضتهم على ديار الإسلام، يستغلّون خيراتها ويسلبون ثرواتها ويغزونها بحجة حماية (مصالحهم). لقد صار للكفار مصالح في بلاد الإسلام، وصار المسلمون يقرّونهم عليها!.

لقد فقدت أمة الإسلام اليوم معنى العزة والكرامة، وفقدت ماذا يعني استقلال قرارها السياسي، وماذا يعني تدخل الدول العظمى في شؤونها. فها هم حكامها اليوم تخلّوا عن استقلالية قرارهم لدول الفكر. وفي البأساء والضرّاء وحين البأس نجدهم يسارعون إلى دول الغرب يلتمسون المساعدة والرضا ليحلّوا لهم مشاكلهم. وها هم المسلمون يفتحون بلادهم لجيوش الكفر تحمي (مصالحها) في بلاد الإسلام، وتبني فيها القواعد الثابتة والمتحركة.

لقد فقد كل فرد في الأمة الإسلامية كلّ انتماء وكل قضية. فالمسلم في هذه الأيام لا ينتمي للإسلام فيعملَ لدينه ويضحّي من أجل انتمائه. حتى إنه لا يشعر بالانتماء لقوميته أو لوطنيته فيشعر بمدى ذلّ قومه أو انحطاط شعبه. لقد أصبحت قضية المسلم اليوم أن يعمل لدنياه قبل آخرته، بأن يحصّل أكبر قدر من المتاع، ويؤمّن (مستقبل) أبنائه، ويعيش عيشاً رغيداً، وكأن هناك عيش رغيد والأمة على ما هي عليه من ذلّ، وكأن استذلال أمته وشعبه واستعمارها لا يعنيه من قريب ولا من بعيد! وذلك منتهى الانحطاط والتخلف.

لقد بلغت أمة الإسلام أقصى درجات الانحطاط تلهث ذليلة وراء الأمم الكافرة، فما هو السبيل للنهوض من كبوتها.

نهضة المجتمع:

إن نهضة الإنسان الفرد إنما تكون بتحقيق معنى الإنسانية، وذلك بالفكر لأنه ينبثق عنه نظام للحياة يرتقي بحسبه السلوك الإنساني. فإذا تبع الإنسان فكره دون غرائزه نهض وارتقى، وعاش عيشة الإنسان، وتحققت له مقوماتها من العزّة والكرامة والقيم الرفيعة وإذا تبع غرائزه دون فكره فَقَدَ دور العقل في حياته، وفقد كل معنى للقيم فيها فانحطّت إلى مستوى الأنعام. يقول الله تعالى واصفاً هؤلاء: (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [سورة الأعراف:179].

أمّا جماعة الناس فإنها تنهض بالفكر أيضاً. لكنّ الفرق بين الجماعة والفرد أن الجماعة لها مقومات لا بد من جعل الفكر أساساً لها حتى تنهض بمجموعها. فإذا كان السلوك الفردي وارتقاؤه مظهراً من مظاهر نهوض الفرد، فإن نهضة الجماعة تظهر في استقلال قرارها، وتكافلها ووحدة رأيها إلى غير ما هنالك من القيم الاجتمّاعية. فما هي مقومات نهضة الجماعة من الناس؟

معلوم أن جماعة الناس لا تكوّن مجتمعاً إذا لم يجمعها شعور واحد، وتسودها أفكار واحدة وتربطها علاقات دائمية يحكمها نظام عيش واحد. فهذه مقومات ثلاث لا بد منها حتى ترتقي جماعة الناس لتكوّن مجتمعاً: أفكار واحدة، ومشاعر واحدة، ونظام واحد. لذلك فإن ركّاب سفينة ما في رحلة ما، مثلاً، لا يكوّنون مجتمعاً مع كونهم جماعة، لأنه لا يجمعهم تفكير واحد أو شعور واحد. أما سكّان مدينة ما فإنهم يشكّلون مجتمعاً، لأنه تربطهم أفكار عامّة وشعور واحد، ولأنّ بينهم علاقات دائمية يحكمها نظام معين.

وهذه المقومات الثلاث لا بد أن تُحكم بالفكر، بأن يكون المجتمع تَبَعاً لأفكاره وليس لمشاعره. فاجتماع هؤلاء الناس يجب أن يكون لأسباب فكرية وليس لأسباب غرائزية. فإذا كان اجتماعهم من أجل تحصيل المعاش ودرء الأخطار، غدت هذه الجماعة تماماً كجماعة الأنعام تربطها نفس الأسباب. أما المجتمع الإنساني فلا بد أن يكون سبب تكونه فكرياً لا يمت إلى الحاجات والغرائز بصلة، كأن يجتمع الناس على مبدأ واحد فيشكّلوا أمة.

ومعنى أن يجتمع الناس على مبدأ هو أن يتخذوه أساساً لحياتهم ومنهاجاً لعيشهم، أمراً مصيرياً يحدد انتماءهم وهويتهم. فإذا لم يتم ذلك لم تتحقق فيهم مقوّمات النهضة. فإذا اتخذ الناس المبدأ أساساً لحياتهم ومنهاجاً لعيشهم شكل المجتمع أفكاره وآراءه العامة بناء عليه، وكوّن مشاعره بحسبه، وسار في إقامة علاقاته على أساسه، وبذلك تحققت النهضة في تصرفات الجماعة. فإذا جاء معتدٍ هبّت الأمة كلّها لرد العدوان، وإذا حصل ما يهدد كيانها انبرت وضحّت بكل شيء دون إزالة هذا التهديد.

نهضة الأمة الإسلامية:

والإسلام مبدأ يقوم على عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وعلى الأمّة الإسلامية أن تتخذه منهاجَ حياة ونظامَ عيش إذا أرادت أن تتحقق لها النهضة. فإذا أدرك المسلمون أن اجتماعهم إنما كان على الإسلام ومن أجله، أدركوا أن الحفاظَ على عقيدة الإسلام أمرٌ مصيري يستلزم منهم بذل الغالي والرخيص دونه. وإذا حصل ما يهدد تطبيق الإسلام في المجتمع، بذلت الجماعة حياتها دون ذلك. وإذا مرت على المجتمع والأمة ظروف صعبة كما يحصل اليوم، انبرت الأمة من أقصاها إلى أقصاها لتصحح هذا الوضع الشاذ. لأنها إن لم تفعل ذلك فقدت مبرّر وجودها، وهو مبدأ الإسلام، وإذا فقدته فقدت مقوّمات كونها أمة إسلامية، وغدت كأمة الأنعام يسخرّها الناس.

ولعل من أسمى مظاهر النهضة عند أمّة الإسلام أنها تعتبر نفسها حاملة الرسالة إلى البشر. فأمّة الإسلام خير الأمم ما حملت رسالة الإسلام إلى النّاس. قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [سورة آل عمران: آية 110]. فحدد الله تعالى أن أمة الإسلام خير الأمم ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أي ما دامت تتخذ الإسلام نظاماً وتحمله للناس. لذلك لم تألُ الأمة في السابق جهداً في سبيل نشر كلمة الله في بقاع الأرض. ولم تتوقف الأمة عن الجهاد إلا عندما انحطت الهمم، وانشغل أفرادها بحب الدنيا.

لذلك فإن نهضة الأمة الإسلامية إنما تكون باتخاذها الإسلام منهج حياة نهائي ونظام عيش شامل، ورسالة تحملها إلى العالمين تكون شغلها الشاغل في هذه الحياة. فإذا أرادت الأمة النهوض من كبوتها، فلا بد أن يكون الإسلام بالنسبة لها أمراً مصيرياً لا يهنأ لها عيش دونه. وهذا يتطلب التضحية بكل ما في هذه الحياة. والله تعالى يقول: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [سورة النساء: آية 77]. فإذا ترك المؤمنون حبّ الدنيا وطلبوا الآخرة في العمل للإسلام، كانت لهم العزّة والسيادة في الدنيا فكسبوا بذلك الآخرة والدنيا معاً. يقول رب العزة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة التوبة: آية 111].

واتخاذ الإسلام نظاماً لهذه الأمة يقتضي الوعيَ على أحكامه وفهمهَا والحرصَ عليها كلَّ الحرص. فإنه لم يوصلنا  إلى ما نحن عليه اليوم سوى الضعف الشديد في فهم الإسلام، والذي طرأ على أذهان المسلمين في مواجهة الأفكار الغربية في القرن الماضي. فإذا ضعف منهم الإسلام سهُل على الأفكار الدخيلة أن تتسرب إلى مجتمع الإسلام تثير فيه البلبلة وتؤدي به إلى ترك أحكام الدين وكذلك فإنه يقتضي الوعي السياسي على شؤون الأمة ورعايتها والحذر من كل موقف قد يشكل جسراً للكفار ينفذون عبره إلى مجتمع الإسلام.

فنهضة الأمة الإسلامية تكون بالعودة إلى الإسلام ونبذ كل ما عداه، أمراً مصيرياً يستلزم البذل والتضحية في سبيله. فإمّا أنَّها أمة إسلامية يسودها شرعُ الله وإما أن لا تكون. وهذا يشكل لنا خير انتماء، وخير قضية وهدف في الحياة، كما أنه يشكل أفضل رابط وخير رسالة.

لقد قالها نبي الأمة في خطبة الوداع: «لقد تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي». وها نحن اليوم نلمس صدقه عندما تركنا التمسك بكتاب الله وسنة نبيه. فلعل ذلك يدفع الأمة للاستجابة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [سورة الأنفال: آية 24].

لا شك أن التفكير سلاح الأمم، تنهض به حين يزدهر وينشط، وتتخلف حين يخبو ويضمحل. وإنما بقاء الأمم بدوام شعلة الفكر فيها، وإنما اضمحلالها بانطفاء هذه الشعلة.

وهذا التفكير ليس هو البحث في الأمور غير المحسوسة، أو البحث في الماورائيات، أو إقامة الفرضيات والاستناد إليها. وإنما هو التفكير المنتج في الوقائع التي تحصل للإنسان في كل يوم وفي كل ساعة. هذا هو التفكير الذي يوجد لدى الأمة القدرة على الحياة الناهضة، ومثله يؤدّي إلى الحكم على الأشياء وتعيين المواقف منها، ويؤدي بالتالي إلى ترجمة هذه المواقف إلى أعمال مادّية. فالفكر هو الذي يترتب عليه عمل مادي، وهو الذي يؤدي حتماً إلى نتيجة ملموسة، وذلك بالسرعة الكافية. فإذا لم يكن للأمة مثلُ هكذا تفكير ومقدرة على تعيين المواقف وإقامة الأعمال المادية، لم تكن هذه الأمة جديرة بالحياة، فغلبتها الأمم وتكالَبَ عليها الأعداء، دون أن تستطيع ردّ ذلك.

ومثل هذا التفكير يَبرز في شكلين: التفكير التشريعي والتفكير السياسي. فالأول تكفير لمعالجة مشاكل الحياة، والثاني تفكير لرعاية شؤون الناس. وكل منهما ضروري للأمة حتى تستمر في الحياة.

والتفكير التشريعي هو ذلك الهادف إلى استنباط التشريعات لمعالجة ما قد يحصل في كل يوم من الحوادث. وهنا، لا بد من تحديد موقف الأمة والمجتمع من مثل هذه الحوادث، وتبيان خطئها إذا كانت تخالف عقيدة الأمة ومنهاجها في الحياة، أو صحتها إذا كانت كذلك. فعجلة الحياة تدور، ومعها تنشأ مستجدّات كثيرة لا بد من تحديد الموقف تجاهها، وإلا كانت الحيرة والجهل، ودبّت الفوضى في جسم المجتمع. ومن هنا ضرورة الحيوية في أي نظام تشريعي، فإنه يجب أن يكون شاملاً لكل مستجدّ إذا كان يصلح لكل زمان ومكان.

وفي الأمّة الإسلامية، يبرز الاجتهاد تفكيراً تشريعياً يهدف إلى استنباط حكم الشرع من النصوص الشرعية، وبالتالي تحديد موقف المجتمع الإسلامي والدّولة والناس من كل جديد. وقد كان هذا النوع من التفكير مزدهراً لدى الأمة الإسلامية، وكان شغلَها الشاغل حتى القرن الرابع الهجري. وكان سببُ ذلك حرصَ الأمة الشديد على أحكام الإسلام وشرع الله، وبيان ما يرضيه وما يسخطه. وفي أواخر القرن الرابع الهجري، ظهر بين الناس من ينادي بتعطيل الاجتهاد، ويعمل على إقناعهم بـ (خطره)، حتى تمّ له ما أراد، وأقفل باب الاجتهاد.

وعندما كان للامة الإسلامية أعظم مدنيّة، ولم تكن ثمة مدنيّة، تضاهيها، حافظت على موقعها بين الأمم. ولكن لما ظهرت الثورة الصناعية في الغرب، كان الفكر التشريعي عند الأمة معطلاً. فنادى البعض بضرورة رفض كل ما عند الغرب جملة وتفصيلاً. ومن المضحكات المبكيات في هذا المجال، أنه لما ظهرت قهوة البن أفتى العلماء بتحريمها، وعندما ظهر الهاتف أفتوا كذلك بأنه حرام. كما ظهر من العلماء من ينادي بتحريم الصناعة،…الخ وكانت فترة ظهر فيها بون شاسع بين ما وصل إليه الغرب الناهض صناعياً، وبين ما عند الأمة الإسلامية. وظن كثير من المسلمين أن الإسلام على لسان علمائه، هو الذي يحول دون النهضة الصناعة ودون التقدم العلمي. فكان أن حصلت البلبلة في المجتمع الإسلامي، وظهر من ينادي بأخذ كل ما عند الغرب كردة فعل لتحريم الصناعة. وكان من جراء ذلك أن فقد الناس الثقة بالإسلام وأحكامه، لأنهم ظنوا – كما عمل الغرب على أن يظنوا – أن الإسلام لا يماشي العصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *