العدد 221 -

السنة التاسعة عشرة جمادى الآخرة 1426هـ – تموز 2005م

الثــقة

الثــقة

الثقة هي الاطمئنان والركون إلى فكر ما، أو جهة أو شخص ما، وهي تحصل من تكرار تصديق الواقع للفكر، أو تصديقه للجهة أو للشخص فكراً وعملاً، وتحصل الثقة من تكرار ثبوت مطابقة الشيء للواقع أو الفطرة عقلياً أو شعورياً، أي من تكرار ثبوت صحة الشيء وصدقه، وتذهب من تكرار ثبوت عدم صحته أو صدقه، وحتى توجد الثقة لا بد أن تنتقل صحة الشيء وصدقه من دور إقامة البرهان إلى دور البداهة، وذلك بتكرار ثبوت صحته وصدقه بالبرهان عقلياً وشعورياً.

والثقة صنو الطاعة والالتزام بل أسُّهما، وهي لازمة لهما لزوم الماء للحياة، فلا انضباط بدون طاعة، ولا طاعة بدون ثقة. وعليه فإن تقوية الثقة تقوي الكيان وتحفظه، ولذلك يحتاج إليها كل كيان يصبو الى الوصول إلى غايته واستمرار بقائه. وبالمقابل يعتبر ضرب  الثقة من أعظم معاول الهدم والتخريب وتقويض الكيانات.

=================================================================

فالثقة إما أن تكون بفكر أو بشخص، والثقة بالفكر تكون بالاطمئنان إلى قدرته على المعالجة الصحيحة المنتجة، والذي يوجدها تكرار ثبوت الصحة والصدق في القاعدة التي تنبثق عنها أو تبتنى عليها الأفكار، وقد توجد الثقة بالفكر بمجرد تطبيقه على أرض الواقع، وملاحظة عظمته وقدرته على المعالجة الصحيحة والمنتجة، فمثلا يمكن إيجاد الثقة بأفكار الإسلام باتجاهين: الأول في معترك البحث العقلي، والثاني في معترك التطبيق في الميدان. والأخير هو الأعظم أثراً وفعالية.

وأما الثقة بالأشخاص فإنما توجد بالاطمئنان إلى قدرتهم على قيادة الغير نحو الخير، وتحقيق المصالح والأهداف، وذلك إما اطمئناناً مشاعرياً فقط، كثقة الابن بأبيه لكونه أباه، والعامي للمتعلم لمجرد المعرفة بأنه متعلم،وكثقة الشعوب بحاكم عميل لمجرد قيامه بأعمال تثير النشوة والعزة المزيفة فيهم غير مدركين لحقيقتها، كثقة الشعوب بجمال عبد الناصر قبل انكشافه، وثقتهم بمنظمة التحرير قبل انكشاف خيانتها، مما يثبت بجلاء خلل وخطأ الثقة المبنية على المشاعر البحتة، الأمر الذي يوجب أن تكون الثقة بالأشخاص مبنية على فكر، ومبنية  على إدراك قدرتهم وإخلاصهم بتجربة عملهم وصدق لهجتهم وأدائهم وشجاعتهم. ومما لاريب فيه أن االنفس البشرية تثق وتنقاد اكثر لمن تراهم الأقدر والأشجع والأعلم. فالثقة بالأعلم تكون أقوى من الثقة بمن هو أقل قدرة وعلما وإقداما وشجاعة، فإذا كانت الطاعة رفعاً للعتب وإسقاطاً للواجب فقط كان في ذلك إغفال لهذه النواحي وهذه المعاني، ما يعني القضاء على العمل وتقويضه على المدى البعيد.

وإذا أريد للعمل أن ينتقل دائما من علي إلى أعلى بطاعة وانقياد تامين، وبأعلى درجات القوة والشغف، فإن هذا يحتاج إلى مراعاة دائمة لهذه الجوانب الهامة جداً، وبكل مسؤولية وجدية.

 ما الالإن زعزعة الثقة تكون بالضرب من الخارج، أو بالتقصير من الداخل، وهي من أعظم معاول الهدم على الصعيدين الفكري والشخصي، أما الصعيد الفكري فإن أي عمل للتغيير يقتضي بالضرورة زعزعة الثقة بالفكر الذي يقوم عليه المجتمع، وذلك بالصراع الفكري العقدي، وهذا يحتاج إلى انتقاء الحجج القوية الواضحة المسكتة، إضافة الى الثقة الدائمة بالنفس، والتمتع بطول النَـفَـس في الملاحقة والمقارعة على أساس الحديث الشريف «إن من البيان لسحراً»، وإن من أروع الأمثلة على ذلك تغير المجتمع الجاهلي الى مجتمع إسلامي على يد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الغر الميامين، وذلك بزعزعة الثقة بالأفكار والمعتقدات السائدة آنذاك، والتي قامت عليها علاقات المجتمع باستعمال الحجج والبراهين الواضحة كقوله تعالى: ( وْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) [الأنبياء 22]. نعم إن أوضح الحجج لا يكون معها إلاّ السكوت والرضوخ والثقة ، أو المعاندة والمكابرة، وهذا ما يقتضيه ضرب الثقة بالقديم وإيجادها بالجديد. ومن الأمثلة على الحجج المفحمة قصة سيدنا إبراهيم، عليه السلام، وسجاله مع النمرود أنه قد انتقل بسرعة من الاستدلال بالحجة التي لاحظ فيها إمكانية المراوغة والأخذ والرد والشرح، إلى حجة أقصر استدلالاً وأكثر وضوحاً للعامي قبل العالم، مما يتجاوز الإقناع إلى الثقة والرضوخ والسكوت، أو المكابرة. فعندما رد النمرود على الحجة الأولى بقوله: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة 258] قال له ابراهيم عليه السلام: (إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة 258]. وهذه قاعدة ضرورية لحملة فكر الإسلام الذين يريدون أن يوجدوا الثقة بأفكاره وضرب الثقة بغيره من الأفكار. والذي يعظم ثقتنا بالإسلام أن أفكاره هي حقائق ثابتة نقيم عليها من الحجج المسكتة الشيء الكثير. قال تعالى: (لْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء] وبالمقابل فإن تقصير حملة الإسلام في فهمه يؤدي إلى زعزعة ثقتهم بأفكاره، مما يؤدي إلى الانتكاس والانحطاط، وهذا ما حصل بالفعل، فإنه بعد أن أدرك الكفار حقيقة أن جيوش المسلمين لا تغلب، أدركوا بعدها أن سر ذلك هو أن هذه الجيوش، ومن ورائها أمة الإسلام، إنما تكون قوتها وعظمتها في ثروة فكرية مبدئية تحملها بكل قوة وثقة رسالة خير للعالمين. فوصلوا أي الكفار إلى حقيقة أوضح، ألا وهي أن زعزعة ثقة المسلمين بالإسلام هي الكفيلة بهزيمتهم، وهذا ما حصل بالفعل.

فقد ظل الصراع بين الأمة الإسلامية كأمة وبين الكفار كشعوب وأمم ثلاثة عشر قرناً متوالية، وظل الكفاح بين الإسلام كدين وكطريقة معينة في الحياة وبين الكفر طيلة هذه المدة، حتى إذا كان القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، تحدى النظام الرأسمالي، وهو نظام كفر، نظامَ الإسلام في أفكاره ومشاعره وما هي إلا جولة قصيرة حتى هزم المسلمون أمامه هزيمة فكرية أعقبها الهزيمة السياسية المدمرة، ولكن الإسلام لم يهزم لأنه الحق وحده دون غيره، بل كان السبب الوحيد لتلك الهزيمة هو ضعف المسلمين في فهم الإسلام، ما أضعف احتجاجهم بأفكاره وبيان صدقها وصحتها، وأضعف تطبيقهم لها، وجعلهم يستبدلون غيرها بها، وأضعف ثقتهم بها، مع أنها الحق ودونها باطل، مما جرّأَ الكفرة الرأسماليين على التهجم على أفكار كثيرة مثل تعدد الزوجات، والجهاد، والخلافة، ورابطة العقيدة، وقوانين العقوبات في الإسلام، وغير ذلك، فكان رد المسلمين رداً دفاعياً ضعيفاً أفقدهم ثقتهم بمعالجات الإسلام، يضاف إلى ذلك أجواء الثورة الصناعية التي حدثت في الغرب مقابل الهبوط الحاصل عند المسلمين على كافة الصعد، وهذا يدل بوضوح على أن الحق يحتاج إلى رجال أقوياء أكفياء قادرين على حمله وبعث الثقة به من جديد بضرب الباطل وإحقاق الحق. ويحتاج إلى حزب مبدئي يتصدى للنظام الرأسمالي، ويرد عليه بشكل هجومي يظهر صدق وصحة أنظمة الإسلام، ويظهر كذب وخطأ الأنظمة الرأسمالية، بل يذهب إلى أعظم من ذلك ألا وهو نقض الرأسمالية كعقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها الفاسد، ويظهر بشكل جلي موافقة الإسلام للفطرة وإقناعها للعقل السوي؛ مما يؤدي بحمد الله إلى بعث الثقة والأمل في المسلمين من جديد بأفكار الإسلام؛ ليتعاظم بذلك العمل لعودة الإسلام الى حيّز التنفيذ والتطبيق؛ ليسود العالم ويقضي على الرأسمالية البغيضة.

إن  إيجاد  الثقة  بالفكر ابتداء يكون بتكرار الإقناع والإثبات الذي يؤدي إلى الاطمئنان، والمطلوب بعد ذلك ضمانة استمرار الثقة، واستمرار وجودها وتقويتها، وهذا يحتاج إلى استمرار القيام بعملية التنقيب في الأفكار، وتوضيح حججها، وبلورتها، ودوام ربطها بالواقع، بإظهار مطابقته لها إثباتاً لصدقها وصحتها، ومن ثم إبراز الحاجة الماسة إليها، وهذا يتطلب أن يكون الجميع على أعلى قدر من المسؤولية، وأن يعتبر كل واحد نفسه بأن مسؤولية الإسلام العظيم كاملة ملقاة على عاتقه، وأنه على ثغرة يحذر أن يؤتى الإسلام من قبلها.

إن الوصول بالثقة بأفكار الإسلام إلى أعلى درجاتها إنما يكون بإثارة الحجج العقلية، وربطها بالنماذج التي ملأت جوانب التاريخ، والنماذج التي يزخر بها الحاضر، وكيف أن الناس لم يملكوا إلا الدخول في الإسلام أفواجاً غير مكرهين؛ لأن للثقة بالإسلام في أعلى درجاتها إشعاعاً يؤثر، ليس فقط في أهله وحملته، بل وفي كل من رأى عدله وصدقه، وما دخول الناس في الإسلام أفواجاً وجماعات إلا مثال ظاهر بأروع الصور يثبت ذلك. وهذه الصفة والحالة الفريدة لا تحصل ولن تحصل إلا مع مبدأ الإسلام؛ لأن أفكاره هي الحقيقة المطلقة التي توجد العدل، وهي التي تملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة وثقة، وهذا بحق أعظم نعمة من الله عز وجل أنعمها على المسلمين، تؤهلهم لقيادة البشرية، وليكونوا بحق خير أمة أخرجت للناس.

هذا كله على الصعيد الفكري، أما على الصعيد الشخصي، فإن القادة في المجتمعات والأحزاب والحركات وكذلك المسؤولين هم محل الثقة. وزعزعة الثقة بهم اما أن تكون من خصم خارجي، أو من مخذل داخلي، أو جراء قصور فطري أو أدائي.

أما الخارجي فيكون بنقد أدائهم و فضح  تقصيرهم في واجباتهم سيما على صعيد الإنجازات. وهذه سنة يسير عليها كل من يسعى لتغيير الأنظمة وصرع الكيانات، فقد سعى صلى الله عليه وسلم لضرب الثقة بين الحكام ومحكوميهم في مكة وذلك بالكفاح السياسي والتقريع ، الأمر نفسه الذي يجب أن يقوم به الحزب المبدئي من كفاح سياسي وتقريع، مما له أثر بالغ في إحداث التغيير؛ لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تقوم على ثقة المحكوم بإخلاص وقدرة الحاكم على توفير العيش السعيد الآمن المطمئن ، وضرب هذه العلاقة من شأنه أن يقلب الأوضاع رأساً على عقب. أما بالنسبة لقادة الحركات والجماعات ومسؤوليها، فيكون بنقد أدائهم وفضح تقصيرهم بواجباتهم، سيما على صعيد الإنجازات والانضباط بالفكر الذي يحمله الكيان، وهذا له علاقة بطبيعة الحركة ومقاييسها ومراحل سيرها وطبيعة غاياتها ووعودها، وقد يكون بالطعن من قبل دولة أو دول تسعى بوسائلها الكثيرة لإفقاد ثقة الجماهير بالحزب بوصفه بالعمالة والرجعية من جهة، والدس عليه وعلى قادته أشياء وأموراً و بالإفتراء من جهة أخرى.

أما على الصعيد الداخلي فإن إحداث هزة في ثقة الجماهير أو الجماعات بقيادتها ومسؤوليها لا يكون إلا بصور الخيانة والتخذيل، وهذا الطعن من الداخل يكون أثره بالغاً وأشد على النفوس من وقع الحسام المهند، وغالباً ما يكون الدافع للخيانة هذه هو الطمع والهوى ومرض في النفوس، حيث لا تدرس النتائج أو لا يسأل عنها إلا من جهة التأثير على مركز الثقة والقرار بغية إحداث التغيير لأجل التسلق وإشباع حب السيادة. وهذه الحالة من هز الثقة يجب أن تعادى، وأن ينظر لها على أساس أنها خيانة وطعن من الظهر ينبذ القائمون عليها، ولا يكون علاجهم الا البتر لأن أمثال هؤلاء لا يعيشون في النور، بل هم أهل الخراب والاعتداء والظلمات، وأمثال هؤلاء لا يطعنون ويخونون أصحاب القرار فحسب، بل يطعنون إخوانهم وأمتهم أيضاً.

أما على صعيد الاستعدادات الفطرية والكفاية، فيكون بتقليد الأمر الى غير أهله، وهذه طامّة كبرى يتحمل مسؤوليتها كاملة كل من أوصل أو نصب رجلاً ضعيفاً، ولنا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة وشعاراً يجب أن تظل نبراساً ومنارة لنا حيث قال: «إنها لأمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أداها بحقها». بعد أن قال لأبي ذر: «إنك ضعيف». أي عن القيام بمهمة الإمارة. هذا بالنسبة للقصور الفطري، أما التقصير فإن من شأنه أن يزعزع الثقة ويضعف العمل. وإن ما يفيدنا في هذا المقام هو شخصية القادة والمسؤولين عن مسيرة التغيير. فإن المحافظة على بقاء الثقة بل واستمرار تقويتها إنما يكون بمدى قدرتهم على إيجاد اللحمة بينهم وبين أبنائهم وأبناء أمتهم، وهذا إنما يكون بالتأكد من وجود الهمم العالية لديهم، والتأكد من وجود الاستعدادات العقلية والجسمية والتنظيمية؛ لأن المطلوب أن يكونوا قادرين على جمع الجميع جيشاً ملتحماً من خلفهم، والانقياد التام بأعلى درجات الانضباط، وليس مجرد إيجاد الطاعة رفعاً للعتب، فإن التغيير الذي نحن بصدده يحتاج إلى حرارة وزخم القادة والمسؤولين لتغيير مجرى التاريخ. ولنا أسوة عظيمة في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوده الحيّ في غزوة حنين، عندما ولّى جلّ من حوله مدبرين من قلب المعركة وهو صلى الله عليه وسلم في خط النار وخطرها، فأمر عمه العباس أن يهتف قائلا وبأعلى صوته: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» وهذا يضعنا أمام ضرورة أن يظل القادة والمسؤولين يقظين بمنطق إحساسهم وبكل ما أوتوا من قوة على إيجاد الاستمرارية؛ لتتعاظم ثقة من خلفهم بهم باستمرارية إبداعهم وإتيانهم بالجديد اللافت للنظر والحضور الدائم، وهذه الأمور وغيرها مما يحتاجه القادة لا تكون إلا في قوى جبارة وإرادات صلبة تفوق الحدود العادية ممن يتطلب منهم أن يديموا الصلة بالخالق الجبار، وإن كان هذا الامر واجباً على الجميع فإنه على القادة أوجب. وهذا يظهر ضرورة الثقة بالله عز وجل -ثقة لا حدود لها- به، وبقدرته، ونصره، وإحاطته، وتوفيقه، فهو المحيط المنجز للوعد، وهو خير معين. ولعمر الحق، إن الثقة بالله عز وجل، وإنه لا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه، لهي جماع الخير العميم الذي تفتح به الدنيا بأسرها.

سعيد الأسعد – بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *