العدد 221 -

السنة التاسعة عشرة جمادى الآخرة 1426هـ – تموز 2005م

أوهام بريجنسكي (2)

أوهام بريجنسكي (2)

زْبِـغِـنْـيُـو بريجنسكي، أميركي من أصل بولندي، يعتبر من مفكري السياسة الأميركيين، كان مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي كارتر، وقد كان، ومازال، من الذين تتلقف أيدي مفكري السياسة والسياسيين كتبهم. وقد أصدر بريجنسكي بعد حرب العراق الأخيرة كتاباً بعنوان «الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم» وعنوانه يكشف موضوعه، ويقدم فيه العديد من النصائح للإدارة الأميركية. وقد وصف كارتر الكتاب بأنه خارطة طريق للوضع الجيوسياسي الحالي لا يمكن دحضها. ووصفه هنتنغتون مؤلف كتاب «صراع الحضارات» بأنه يقدم تحليلاً ألمعياً موجزاً، ولكن ثابت البصيرة، للسياسة العالمية المعاصرة والدور الأميركي فيها. وقد حوى الكتاب مغالطات وأوهاماً تتعلق بنظرته المعادية للإسلام والمسلمين، وتعتبر انعكاساً للغطرسة الأميركية التي لا ترى إلا نفسها.

وقد فند الكاتب أبو الزبير الأسدي بعض مغالطات بريجنسكي هذا وسماها أوهاماً متعددة وتبريرات ساذجة ركيكة، وقد رأت «الـوعــي» أن تنشر بعضها على حلقات.

=================================================================

l وهم تجاهل الدولة الإسلامية العثمانية

يقول بريجنسكي: «فالقوى المألوفة التي سادت في القرن الماضي أضعف وأكثر إعياء من أن تتولى الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة حالياً. وتجدر الإشارة إلى أن المراكز الخمسة الأولى في التصنيف المقارن للقوى العالمية تقاسمتها سبع دول على فترات متتالية من عشرين سنة وهذه الدول هي: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وروسيا واليابان والصين».

– إن بريجنسكي لا يعتبر الدولة الإسلامية العثمانية التي ناضل من أجل إسقاطها الأوروبيون، وسعوا في سبيل ذلك لقرون، وكانت قصور الكرملين ولندن وباريس تهتز لعظمتها، وتعمل برلين على التحالف معها، ولولا كثرة الخيانات فيها لما سقطت أمام دك القوى الأوروبية لها، وكانت محور الاتفاق بين بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، هذه الدولة لا يعتبرها بريجنسكي من الدول التي سادت في القرن الفائت. كان من الممكن اعتبارها هفوة لبريجنسكي، ولكن سياق الكتاب بأكمله يثبت بما لا يترك مجالا للشك أن أصوله الأوروبية البولندية غلبت على أكاديميته ومهنيته الأميركية. فالأكاديميون الأميركيون لا يتحرجون من الكلام عن الإسلام ودولته، لكن بريجنسكي ثابر طوال كتابه على تجاهل ذلك بشكل مثير للشفقة أحياناً، لما فيه من مغالطات سيرد الذكر لها . صحيح أن دولة الخلافة العثمانية لم تكن سائدة في القرن الميلادي المنصرم كما كانت في سابق القرون، إلا أن أهميتها وثقلها القادم من تاريخها جعلها محور الحروب، والاتفاقيات، والمعاهدات، والمؤامرات، والخطط، بشكل يجعل تجاهلها موضع سخرية. وصحيح أنه لم يعد لها وجود، وأن بريجنسكي ذكر دولاً ما زالت موجودة، لكن واقع الحال أنها كلها تغيرت عما كانت عليه عند سيادتها في القرن الماضي، كما أن تكالب عدد منها على دولة واحدة وهي العثمانية يقطع بأن الأخيرة هذه على وهنها كانت أعظم من أن تتجاهلها دول عظمى أخرى مجتمعة.

l وهم أن الأمة ترغب بالوقوع في أحضان أميركا وأوروبا

يقول بريجنسكي: «وبدون الإثنين معا لن يكون السلام في المنطقة ممكناً، وإذا عملا معا يصبحان أيضاً أكثر تأثيراً في تجنب حدوث تصادم وجهاً لوجه بين الغرب والإسلام، وفي تعزيز الميول الأكـثر إيجـابية داخـل العالم الإسـلامي، التي تحبذ اندماجه النهائي بالعالم الديمقراطي والمتحضر».

– إن تعاون أميركا وأوروبا في الشرق الأوسط ظهرت استحالته عبر السنين الماضية، إذ دائما حاول أحد الأطراف الاستئثار بالمنطقة وحماية مصالحه دون مصالح الآخرين، مع حالات تقاسم أحياناً عند توازن القوى، كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وفرنسا. أما ربط التعاون الأميركي الأوروبي بالمواجهة بين الغرب والإسلام فهو ربط خبيث، يسعى بريجنسكي من ورائه أن يدفع الأوروبيين، والذين سبق ونصحهم بالشراكة غير المتكافئة، وبقبول القيادة وقوة الفصل الأميركية، إلى تقبل خطة أميركا في حل ما يسمى بقضية الشرق الأوسط. أما الرهان على أن الأمة الإسلامية سترغب بالوقوع في أحضان أميركا وأوروبا، واللتين يسميهما بريجنسكي بالعالم الديمقراطي المتحضر، فهو رهان خاسر؛ لأن عودة هذه الأمة العصيّة على أعداء الله لدينها، وتمسكها بأحكامه وأفكاره، يزداد يوماً بعد يوم، وسنة الله في الكون أن العمل الحثيث القائم للوصول إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية سوف يتكلل بالنجاح في المستقبل المنظور، إن شاء الله تعالى.

l وهم نبل أميركا مع العالم الإسلامي

يقول بريجنسكي: «..تؤكد أميركا المسيطرة عالمياً الآن، بشكل علني، عزمها على إشاعة الديمقراطية في البلاد الإسلامية. إنه هدف نبيل وعملي أيضاً، باعتبار أن نشر الديمقراطية يتلاءم بشكل عام مع السلم العالمي».

– بعد ما سبق وذكرناه عن الديمقراطية وطريقة تعامل أميركا مع العالم، فإن الادعاء بنبالة إشاعتها أسخف من أن يُرد عليه. إلا أنه علينا التوقف أمام المبدئية في هذا الطرح، إذ إن نشر الديمقراطية مرتبط بشكل عضوي بنشر الرأسمالية، ووجهة نظر الغرب في الحياة؛ ولذلك فإن هذا النشر هو لمنع انتشار مبدأ آخر وهو الإسلام طبعاً، إذ أن الحديث يدور حول البلاد الإسلامية. ومن غير الممكن لوم أميركا على عملها هذا لأن فيه مصلحتها، إلا أن الملامة تقع على عاتق الذين لا يعملون مع العاملين الساعين لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، فعجباً من جدية الغرب الكافر في نشر مبدئه وتحقيق مصالحه، ومن تهاون الكثيرين من المسلمين عن العمل لنشر مبدئهم، وتحقيق مصالح أمتهم، بنصرة هذا الدين وإقامة دولة الخلافة الإسلامية. إلا أن الله تعالى سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من طشقند إلى مكة لا يحمل جواز سفر، وحتى تدرس علوم التفسير، ومصطلح الحديث، وأصول الفقه، بأمر من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جامعة جونز هوبكنـز وهارفارد، والجالسين عن نصرة هذا الدين إنما جلوسهم على أنفسهم.

l وهم أسباب السخط على أميركا

يقول بريجنسكي: «بالطبع، تتميز معاداة الأمركة بالعديد من زخارف المودة الظاهرة، ونتيجة لذلك، فإن العالم الساخط بسبب آماله الكبيرة المعلقة على أميركا، يميل إلى الغضب عندما يشعر بأنها لا تقوم بما يكفي من أجل مساعدته في تصحيح ظروفه الخاصة التي يرثى لها».

– هذا الكلام وهم مفرط، وخيال جامح، ومحاولة تبريرية ساذجة لسخط العالم على أميركا، ولعلنا نكتفي بالحديث عن المسلمين. فالحديث عن أن سخط المسلمين على أميركا قد سببه شعور المسلمين بأن أميركا لم تساعدهم في تصحيح أوضاعهم قول ساذج فعلاً، وواقع السخط على أميركا هو لدعمها لأنظمة عميلة قمعية جبرية، تمص دماء المسلمين وتنكل بهم وتعذبهم. كما أن مساندة أميركا لطفلتها (إسرائيل) في جرائمها ضد المسلمين في المنطقة عامل آخر في سخط المسلمين على أميركا. وفي السنوات الأخيرة أصبح الحديث عن أميركا بشكل إيجابي تهمة حقيقية بين المسلمين، حتى إن حسني مبارك أصبح يترجى أميركا أن تخفف من تجبرها ليكون له ولسواه من حكام المسلمين العملاء بعض المبرر أمام شعوبهم، خاصة بعد المجازر في أفغانستان، والعراق، وفلسطين، وواقع غوانتانامو.

إن المسلمين يعلمون يقيناً أن تصحيح ظروفهم هو في العودة إلى دينهم وإقامة دولة الخلافة الإسلامية، ولا يتأمل من أميركا الخير إلا القلة القليلة من المضبوعين.

l وهم أن الحرب على العراق كانت نتيجة لأحداث 11 أيلول

يقول بريجنسكي: «بعد أحداث 11 أيلول باتت العناصر الأكثر محافظة في المؤسسة السياسية الأميركية، وبخاصة أولئك الذين يتعاطفون بشدة مع الطرف الليكودي من الطيف السياسي الإسرائيلي، تستهويها رؤية نظام جديد تفرضه الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، كرد على التحدي الجديد للإرهاب وانتشار الأسلحة. وقد نتج عن تنفيذ هذه الرؤية بالفعل الإنهاء القسري لديكتاتورية صدام حسين في العراق».

– إن القول بأن الحرب على العراق كانت نتيجة لأحداث 11 أيلول مخالف لأسس السياسة الدولية، فقد كانت النخبة الأميركية قد قررت غزو العراق منذ زمن، وحتى تبريرات الحرب في 2003م لم تكن مرتبطة بشكل عضوي بأحداث 11 أيلول، بل بكلام فضفاض عن الإرهاب وخطر صدام وما إلى ذلك، وقد تكشفت عبثية تقارير المخابرات عن خطر صدام فيما بعد.

لقد أخذت المؤسستان العسكرية والنفطية قرارهما بالاستيلاء على نفط العراق، وتدمير بنيته العسكرية، وإقامة نظام عميل لأميركا بدلاً من نظام صدام، رغم أن صدام كان على استعداد لتسليم العراق ونفطه لأميركا.

وتاريخياً، فإن الحزب الجمهوري هو الذي يقوم بأعمال السياسة الخارجية الجوهرية لأميركا ويحتفظ بولاء المؤسسة العسكرية، حتى إن أحد الضباط العاملين في إحدى وكالات التجسس العسكرية صرح بأنهم يعتبرون كلينتون خائن للطريقة التي تعامل بها مع الصين، وإن 90 في المئة من منتسبي القوات المسلحة تؤيد الحزب الجمهوري وتمقت الحزب الديمقراطي. فكان توقيت الحرب على العراق ينتظر عودة الحزب الجمهوري للسلطة، وهذا ما تدخلت المؤسستان العسكرية والنفطية لضمانه، بقرار المحكمة الدستورية العليا بإعطاء الرئاسة لبوش الابن، رغم أن أغلبية الأصوات ذهبت لآل غور، مرشح الحزب الديمقراطي لانتخابات سنة 2000م.

خلاصة القول، إن الحرب على العراق كان مخططاً لها منذ فترة تسبق انتخاب بوش الابن، وأحداث 11 أيلول حلقة في سلسلة التبريرات الجوفاء التي ساقتها الإدارة الأميركية لشن الحرب، والتي استطاعت بها أن تحشد الرأي العام الأميركي المغفل سياسياً، بما يكفي أن يعطي الكونغرسُ ضمن مسرحية فصل السلطات صلاحيةً مفتوحةً للإدارة الأميركية، بشن الحرب دون العودة إليه مرة أخرى. بطبيعة الحال فإن قرار الكونغرس كان مخرجاً بشكل مسرحي على أساس الرأي العام وموافقته، وواقع الأمر هو قرار المؤسستين العسكرية والنفطية.

فكلام بريجنسكي في هذا السياق مفرط في الوهم.

l وهم أن أسباب زعزعة الاستقرار في المنطقة العربية هو فشل تحقيق الطموحات السياسية وتنشيط الاقتصادات المتضخمة

يقول بريجنسكي: «وإذا فشلت هذه البلدان في تحقيق الطموحات السياسية وتنشيط الاقتصادات المتضخمة -وهو أمر ممكن- فقد تكسب الحركات المزعزعة للاستقرار المحلي، وذات النـزعة التعديلية على الصعيد الدولي، والعنيفة والمعادية للغرب في الغالب، جموعاً كبيرة من المجندين».

– وهم بريجنسكي ظاهر هنا، إذ لو كان بريجنسكي يقصد الديمقراطية وحرية الانتخاب بالطموحات السياسية فهذا سيؤدي إلى وصول الإسلام إلى الحكم، وهذا غير وارد للأنظمة في البلدان الشرق أوسطية التي يتحدث عنها، كما أنه غير وارد لأميركا نفسها، أما تنشيط الاقتصادات فهذا أيضا غير وارد من باب فاقد الشيء لا يعطيه، فالقائمون على شؤون الأنظمة في بلادنا يتعاملون معها نهباً وسلباً، وهيهات أن يكون عندهم أدنى تصور لحسن توزيع الثروة، والذي لا يستقيم إلا بتطبيق النظام الاقتصادي في الإسلام.

أما كسب الحركات المزعزعة للاستقرار المحلي لمزيد من التأييد فهذا صحيح، إلا أنه غير مرتبط بالأسباب التي ذكرها بريجنسكي؛ لأن العديد من هذه الحركات لديها أتباع من الأغنياء والموسرين، ناهيك عن أن أدبياتها لا تسمح بالحل الوسط، والترقيع السياسي الرخيص. أما وصفه هذه الحركات بالعنيفة فهو وصف تبريري تحتاجه العقلية الغربية وخاصة الأميركية، وفيه من الكذب ما فيه، وإلا فلماذا تعطي أميركا نصف مليار دولار لأوزبكستان لمحاربة الإرهاب، والقاصي والداني يعلم أن التهديد الوحيد للنظام القمعي هناك ينبع من حزب التحرير الذي لا يمارس العنف، ولا يقوم بالأعمال المادية للوصول إلى سدة الحكم، رغم قدرته على قتل رئيس ذلك البلد اليهودي الكافر كريموف في ذات قصره؟!

أما وصف النـزعة التعديلية بالعالمية فهذا صحيح، ويبدو أنها فلتة من بريجنسكي، فهذا الوصف لا ينطبق إلا على حزب التحرير.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *