العدد العاشر -

السنة الأولى، العدد العاشر، رجب 1408هـ، الموافق آذار 1988م

ردود ومناقشات: المفهوم الصحيح للعقل

العقل ليس انعكاس الواقع على الدماغ

بقلم: الدكتور عبد الرحمن أبو الهيجا

جاء في كتاب «موجز في تاريخ الفلسفة» صفحة 60 و61 ما يلي: كتب ماركس «بالنسبة لهيقل، إن العملية الحية للدماغ البشري، عملية التفكير، التي يحولها تحت إسم الفكرة إلى موضوع مستقل، هي خالقة للعالم الحقيقي، والعالم الحقيقي ليس إلا الشكل الخارجي الظاهري للفكرة، أنا بالنسبة لي فعلى العكس ليست الفكرة شيئاً آخر سوى العالم المادي وقد انعكس في العقل البشري وتحوّل إلى أشكال فكرية».

وبعد أن حاول لينين الرد على الاكتشافات العملية الحديثة كاكتشاف اعتماد الكتلة على السرعة وبعد أن قال الفلاسفة المثاليون أن المادة خرافة جاء في الصفحة 68 من نفس الكتاب ما يلي:- «وأظهر لينين أن الشيء الثابت من وجهة نظر المادية الديالكتيكية هو أن وعي الإنسان يعكس باستمرار العالم الخارجي المتطور المستقل عن هذا الوعي، كتب لينين في المادية ومذهب النقد التجريبي: لا يوجد بالنسبة لماركس وانجلز ثابت آخر ولا جوهر آخر ولا مادة مطلقة أخرى.. إن جوهر الأشياء أو المادة هو نسبي أيضاً، إنه يظهر فقد درجة الغموض في المعرفة الانسانية للاشياء».

ونردُّ على هذه الأقوال بما يلي:

«التفكير هو العملية الحية للدماع البشري»، هذا ليس تعريفاً وذلك مثل «التنفس هو العملية الحيَّة للرئتين» فالكائنات الحية تقوم ذاتياً بكثير من العمليات كالتنفس والتكاثر والهضم، وتعريف عملية التنفس هو تبادل غاز الأوكسجين بثاني أوكسيد الكربون في الرئتين، وهناك فروق بين التفكير والتنفس.

فالطفل الصغير يملك دماغاً بشرياً ورئتين ولكنه يتنفس ولا يفكر، والعالم الميكانيكي يفكر فيخترع سيارة جديدة، وعامّة الناس لا تستطيع ذلك مع أن الجميع يملك دماغاً بشرياً ويتنفس بتبادل الأوكسجين بثاني أوكسيد الكربون، والحيوانات تتنفس كالبشر وتملك دماغاً بشرياً ولا تخترع السيارات. والتفكير الذي يقوم به الناس العاديون لا يقوم به المجانين مع أن للجميع دماغاً بشرياً بل إن نتائج التفكير عند الناس مختلفة ولذلك نرى البعض ينادي بالرأسمالية والبعض بالإشتراكية والبعض بالإسلام مع أن الجميع يتنفسون بنفس الطريقة لا يصلون إلى نفس النتيجة.

وهنا سنقوم بعرض لتعريفين لمفهوم العقل ونفندهما، ومن ثم سنعطى المفهوم الصحيح للعقل ولعملية التفكير.

الأول:

وصف بعضهم التفكير بأنه «خالق العالم والعالم هو الشكل الخارجي للفكرة».

لو نظر شخصان إلى شجرة وتحدثا عنها فهل خلقها فكر الأول أم الثاني؟ الصحيح أن العالم الخارجي موجود مخلوق فما نحس به ندركه، ولكن ربما حاول بعضهم أن يفسروا بهذه المقولة الاختراعات الجديدة، فالسيارة لم تكن موجودة قبل مئة عام فكيف وجدت؟ لقد فكر بها المخترع الأول، ثم صنعها فصارت السيارة الأولى وبذلك استنتجوا أن تفكيره هو الذي خلقها.

والخلق هو الإيجاد من عدم لكن المخترع الأول استخدم المواد الموجودة بين يديه كالحديد وغيره وأعاد صياعة هذه المواد لتصبح سيارة تماماً كالذي يقطع قطعة من شجرة ويعيد صياغتها لتصبح كرسياً. وهذا يسمى صناعة أو إعادة صياغة أو تحسين وضع المواد الموجودة لتصبح أكثر ملاءمة لحاجات الناس. ولكن هل يستطيع أي إنسان أن يستخرج الحديد من خاماته ثم يُعيد سكبه بالشكل المطلوب ليصنع به سيارة؟ لا أحد يقول بذلك، فهل مخترع السيارة يفكر وغيره لا يفكر؟ إذا سلّمنا أن البشر العاديين يفكرون فما الفرق بين مخترع السيارة وغيره؟ لا شك أن الفرق الوحيد هو المعلومات الميكانيكية التي تعلمها سابقاً والتي ميزت بينه وبين الذين لم يتعلموها، وبما أن الجميع يفكرون فلا يصح هذا التعريف للتفكير.

الثاني:

أما الإشتراكيون فقد عرَّفوا التفكير بأنه «إنعكاس الواقع على الدماغ».

إن عملية الانعكاس التي تجرى في الطبيعة تتم بخروج الأشعة الضوئية من جسم ما إلى سطح عاكس فيعكسها بزاوية مساوية لزاوية السقوط وتتكوّن الصورة المناظرة على نفس البعد إن كان العاكس مستوياً.

والدماغ البشري مفصول عن العالم بالجمجمة والوجه مما يجعل بينه وبين الاجسام حاجزاً يمنع وصول الأشعة إليه فلا تحصل عملية انعكاس مطلقاً. ثم إن الانعكاس يعطي صورة مشابهة عن الواقع ولا يفسر تغيير الواقع وتحسينه، فلا يفسر كيف نقطع الشجرة ونحولها إلى كراسي أو كيف نستخرج الحديد ونحوّله إلى سيارة فشكل الشجرة والحديد قبل الصناعة غير شكلها بعد الصناعة، فالإنعكاس صورة طبيعة جامدة لا يفسر لماذا قمنا بعمل ما ولا يفسر الغاية من العمل.

والانعكاس حالة مؤقتة توجد عندما يوجد جسم وسطح عاكس وضوء فينتج بعد ذلك صورة مشابهة منعكسة فإن فقدنا الجسم والسطح العاكس أو الضوء فلا صورة ولا انعكاس. وقد قلنا إن الدماغ لا يعكس أشعة لأنه ليس سطحاً عاكساً ولأنه محاط بحاجز الجمجمة التي تمنع وصول الضوء وبناءً على هذا التعريف لا يوجد تفكير لأنه لا يوجد تفكير لأنه لا يوجد انعكاس وهذا مخالف للواقع.

أما إن لم يكن هناك جسم تخرج منه الأشعة فلا يوجد انعكاس أي لا يوجد تفكير فإذا دخل الإنسان عرفته ولم يرَ سيارة ألا يستطيع أن يفكّر فيها؟! ولم يقل ماركس أين تتكوّن الصورة لأنها في الانعكاس لا تتكوّن على السطح العاكس وإنما وراءه أو أمامه أين تفكيرنا هل هو أمامنا أم وراءنا أم على الجانبين، يجب أن نعرف لنحرسه من السرقة!!.

إن تعريف هيقل يمكن أن يتحدث عن صناعة الأشياء بعد أن تكون أفكاراً في رؤوس المخترعين وتفكير ماركس يمكن أن يتحدّث عن الإحساس بالواقع وليس عن التفكير أبداً.

وبعد أن هاجم المثاليون أسس الاشتراكية بعنف وقرروا أن المادة خرافة، وأن ليس هناك تطور بمعنى التغير الطبيعي نحو الأفضل، جاء لينين ليدافع عن مقولة التفكير عند ماركس وانجلز فكان كلامه ثابتاً، لم تكن موجودة في قامونس المادية قبل الآن لأن الثابت هو الذي لا يتطور وهم يقولون أن كل شيء يتغير باستمرار نحو الأفضل. وعندما يدعي لينين أن الشيء الثابت في النظرية المادية هو انعكاس الواقع على الدماغ، نفهم من ذلك أن بقية جوانب النظرية غير ثابتة أي باطلة. فالحق هو الثابت وما عداه باطل.

وهو (أي لينين) حين يقول: «لا يوجد بالنسبة لماركس وانجلز ثابت آخر ولا جوهر آخر ولا مادة مطلقة أخرى» ينسف نظريات ماركس وانجلز كلها ما عدا تعريفهم للتفكير الذي شرحناه سابقاً فإذا هو زاهق. وأما أن يصف المادة بكلمة مطلقة فهو عودة لتعريف المثاليين الرأسماليين، فالمطلق فكرة رياضية خيالية لا وجود لها في الواقع وإنما يتخيلها الإنسان امتداداً للواقع كما يتخيل جوليفر في بلاد الأقزام والعمالقة، وكما تخيل الطفل الذي ترضعه الذئبة. فالمطلق هو الحد الأعلى أو الأدني الممكن عقلاً فهو الأطول أو الأقصر بعبارة أخرى، وهو المالا نهاية أو الصفر. ولا وجود للاثنين في الواقع إنما هو الخيال.

التعريف الصحيح للعقل:

«العقل هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الاحساس وربطه بالمعلومات السابقة والحكم عليه».

فالواقع هو كل شيء تقع عليه الحواس إن كان محسوساً بحاسّة البصر (التي هي الأثر الكيماوي الذي تتركه الأشعة الضوئية الآتية من الجسم والساقطة على النهايات العصبية، وهذا الأثر الكيماوي ينطلق بشكل كهربائي عبر الأسلاك العصبية إلى الدماغ وهناك يفسّره الإنسان بربطه بالمعلومات السابقة الموجودة في الذاكرة)، أو بغيرها من الحواس التي لا تستعمل الأشعة الضوئية كالسمع واللمس والشم والذوق.

والإحساس عملية حيوية يقوم بها الإنسان والحيوان كما يقوم بالتنفس (ولذلك خلط الرأسماليون والإشتراكيون معاً بين الإحساس والتفكير)، فهو يحدّق إن أراد النظر ويصغى إن أراد السمع ويلمس ويشم الخ.. وبعد أن يأخذ الصور عن الواقع يحاول تفسيرها بربطها بالمعلومات السابقة التي يأخذها الجيل عن الجيل السابق ويزيد عليها.

والملاحظ أن التفكير في أي شيء يسبقه الانتهاء لهذا الشيء، فما الذي يدعو الإنسان أن ينتبه لشيء ما ولا ينتبه لغيره؟ إنه الاختلاف والتشابه بين الأشياء: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ(وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا[، ]وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فالاختلاف يلفت النظر ويدعو للدهشة فيسأل الإنسان لماذا؟ ويحاول أن يفكر ليفسر. والعلم هو وصف الشيء بما هو عليه، فهو علامة للتمييز والتفريق بين الأشياء، فالطفل الصغير يرافق أوبية فيرى كلباً فيندهش ويسأل ما هذا؟ فيقالُ له أنه كلب، فقد أحسّ ببصره بشيء لم يكن يعرفه فسأل عنه فقيل له. ثم يرى بعد ذلك كلباً آخر غير الأول فيربط بالمعلومات السابقة التي أصبحت عنده عن الكلب ويستنتج ويقول أنه كلب. وقد سأل أحد المعلمين تلاميذه قائلاً: من منكم يعرف كم هي أعمدة الكهرباء بين بيته وبين المدرسة؟ فلم يستطع أحد أن يعرف، مع أن السؤال سهل لكنه لم يكن قد لفت نظر هؤلاء التلامذة. فإذا كان كل جيل يأخذ معلوماته السابقة من الجيل السابق ويزيد عليها، والملاحظ أن عدد البشر في ازدياد فلو عدنا إلى الوارء لقلّ عدد البشر كثيراً إلى أن ينتهي إلى الواحد، ثمن علّم الإنسان الأول معلوماته السابقة؟!، وهنا الجواب (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) وكذلك لا علم لآدم ولا لأحد من البشر إلا أن يعلّمه غيره، فالطفل يدخل المدرسة أمّياً لا يعرف الباء من اللام فيعلمه أستاذه فيتعلم، ولو أمكن أن يتعلم وحده لم احتيج للمدارس.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *